على مدى الأسابيع القليلة الماضية، حاولت جاهدا أن أحدد الطرق والأساليب التي يمكن لنا - نحن أهل الغرب - أن نستعين بها في تعزيز ودعم المعتدلين في العالم العربي، كي يتمكنوا من خوض حرب الأفكار ضد قوى التعصب وضيق الأفق داخل مجتمعاتهم، وهي الحرب التي تعتبر الساحة التي سيتم فيها حسم الحرب الحقيقية ضد الإرهاب.. إما بالفوز أو بالخسارة. بيد أن الأفكار لا تنتشر بمفردها أو بمعزل عما حولها، وإنما ضمن سياق معين. فمنذ وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر كثيرا ما سمعت العبارة التالية تتردد على ألسنة الكثيرين: الإسلام! إنه دين غاضب حقا!. أنا لا أتفق مع هذا.. وإن كان ذلك لا يحول بيني وبين القول ابتداء إن هناك الكثير من الشباب المسلم الغاضب بالفعل.. ولكن غضب هؤلاء يرجع لأنهم يعيشون في بعض من أكثر المجتمعات قمعية في العالم.. وهي مجتمعات ينغلق فيها أفق الفرص أمام الرجال والنساء، وتسود بعضها بطالة ربما تكون من ضمن أعلى المعدلات السائدة في العالم. فـ"السياق" السيئ هو الذي يخلق البيئة التي تموج بمشاعر المهانة والغضب، وبكل ما هو سلبي من أفكار.
قصارى القول.. إنه يتعذر علينا أن نتحدث عن كسب حرب الأفكار في العالم العربي – الإسلامي.. دون أن نتحدث عن الشيء الأساسي الذي يعطي لحياة الناس معنى.. وهو الوظيفة والعمل.
لتفصيل ذلك أقدم لك الأرقام التالية، وهي أرقام اعتقد أنها ستجعل الدموع تترقرق في مآقيك: يوجد في العالم العربي الآن 90 مليون شاب في المرحلة السنية 15-24عاما. من بين هؤلاء يوجد 14 مليونا يعانون من البطالة.. منهم كثيرون من المسلمين الذين يعيشون الآن في أوروبا، والذين يتراوح عددهم ما بين 15 – 20 مليون نسمة. خير تعبير عن هذه الحالة جاء على لسان الملك "عبدالله" ملك الأردن وذلك في الكلمة التي ألقاها مؤخرا أمام "منتدى دافوس الاقتصادي" حين قال:" ليس لدينا وظائف كافية.. ولا حتى أمل كاف".
لا يقتصر الأمر على ذلك.. حيث جاء في تقرير التنمية الإنسانية في العالم العربي لعام 2003، أنه في خلال الفترة الواقعة ما بين 1980- 1999، قامت تسعة من الاقتصادات العربية الرئيسية بتسجيل 370 براءة اختراع فقط، في الولايات المتحدة. وكما نعرف فإن براءات الاختراع، تعتبر من ضمن المقاييس الجيدة التي يمكن الاستناد إليها في تقييم نوعية التعليم في مجتمع من المجتمعات، و تقييم أنشطته العملية والتجارية، ودرجة إبداعه، ومدى سيادة حكم القانون فيه.
ويكفي هنا أن نعرف أن دولة واحدة فقط وهي كوريا الجنوبية قد سجلت خلال نفس الفترة 328,16 براءة اختراع جديدة. لعل هذا يكشف عن الكثير، ويجعلنا ندرك لماذا لا نقابل الكثيرين من الكوريين الجنوبيين ،الذين يريدون أن يصبحوا شهداء.
منذ عدة أيام قمت بزيارة إلى المقر الرئيسي لمؤسسة " جوجل" Google (صاحبة محرك البحث الشهير على شبكة الإنترنت) والكائن في وادي السليكون في كاليفورنيا فماذا رأيت هناك؟ لقد رأيت تلك الخريطة الإليكترونية المدهشة للعالم، التي تبين لك بالأضواء عدد الناس الذين يقومون باستخدام محرك "جوجل" للبحث عن المعرفة.
على تلك الخريطة، وعلى امتداد المسافة من المغرب إلى حدود الهند ، لم تكن هناك أي أضواء تقريبا تنبعث من تلك المنطقة.
مثال آخر: كنت مدعوا إلى اجتماع تخلله إفطار في دافوس يدور حول قيام الدول النامية باستيراد التقنية الفائقة من الولايات المتحدة وأوروبا. خلال هذا الاجتماع شاهدت العديد من رجال الأعمال المكسيكيين، والهنود، كما سمعت الكثير من الأحاديث عن الصين. ولكنني لم أسمع كلمة واحدة عن استيراد مثل تلك التقنيات الفائقة بواسطة العالم العربي.
"السياق" – مرة أخرى –هو أن ذلك العالم ببساطة لا يوجد به حتى الآن لا بنية تحتية، ولا إنتاجية، ولا تعليم متطور.
إذن.. ما العمل؟ هناك الكثير من المساعدات التي يمكن – بل ينبغي- أن تقدمها أوروبا. فعلى رغم أن أميركا هي المستهدفة عادة، إلا أن أوروبا كانت هي المصنع الحقيقي للغضب العربي. لقد قامت أوروبا بجهود ضئيلة للغاية، فيما يتعلق بدمج وتشغيل الأقليات الإسلامية المتنامية في مجتمعاتها، والتي يشعر الكثيرون فيها بالنبذ والإقصاء.
كذلك، فإن أوروبا لم تقم سوى بجهود محدودة للغاية، فيما يتعلق بالاستثمار في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، اللذين يمثلان الفناء الخلفي الطبيعي لها.
لا أقصد من ذلك أن أقول إن أميركا قد أدت ما عليها في هذا الصدد، فهي في الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. بيد أن الولايات المتحدة بقيامها بتوقيع اتفاقية " النافتا" للتجارة الحرة مع المكسيك، ساعدت على خلق " سياق" سياسي واقتصادي ملائم هناك. وهذا السياق لم يلعب فقط دورا في تحفيز الاقتصاد، وتوفير الوظائف، وتحديث المكسيك.. ولكنه قاد في النهاية إلى خلق البيئة المناسبة للتحول الديمقراطي. وأذكر أن الرئيس المكسيكي السابق" ارنستو زيديللو قد أدلى لي بملاحظة قال فيها: " لا اعتقد أنه كان من الممكن لي أن أنجح في تحقيق الإصلاح السياسي بدون التنمية الاقتصادية اللائقة التي حققناها بفضل " النافتا" إن هذه البيئة المتفائلة هي تحديدا التي مكنت المكسيك من إنجاز أول عملية لنقل السلطة فيها.. من الحزب الحاكم إلى المعارضة.
لذلك، فإنه إذا ما كان لنا أن نتوصل إلى خلاصة ما من هذه السلسلة من المقالات التي تناولت فيها موضوع حرب الأفكار.. فإنني آمل أن تكون هي التالية:" إن حرب الأفكار في العالم العربي- الإسلامي لا يمكن خوضها والانتصار فيها.. إلا من قبل قوى التحديث في هذا العالم. وهذه القوى لا يمكن أن تخرج إلا من طبقة وسطى نامية لديها إحساس بالكرامة والأمل في المستقبل. فالشباب الذي ينشأ ويترعرع في وسط " سياق" من الفرص الاقتصادية الحقيقية، ويتوافر له الحد الأدنى من حكم القانون، وحرية التعبير عما يجول بخاطره.. لا يشعر عادة بالرغبة في تفجير العالم، وإنما يشعر على العكس من ذلك بأنه يريد أن يصبح جزءا منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
راى للكاتب توماس فريدمان