|
|
|
|
|
|
|
|
|
التاريخ 12/16/2003 3:05:00 PM
|
فقه الهزيمة
|
نبيل شـرف الدين
في شتاء كئيب كهذا، لكن قبل ستة قرون، وتحديداً في الثاني من كانون الأول (يناير) من العام 1492، كان الوزراء الخونة والمستشارون الفاسدون، قد أقنعوا أبا عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة العرب بألا فائدة، وأن الشروط الي يقدمها لهم العدو ليس هناك أفضل منها، فقبل أن يسلم مقابل ضيعة ـ طرد منها في ما بعد ـ وسلم في الصباح الباكر الممطر مفاتيح المدينة للزوجين، إيزابيل ملكة قشتالة وفرناندو ملك أرغون، ورحل بعدها مباشرة وهو وحريمه وجواريه، وحين اجتاز القصور والحدائق، وألقى النظرة الأخيرة وهو على قمة الجبل إلى غرناطة عاصمة ملكه .. بكى، وجاءه الرد الشهير من أمه عائشة الحرة:
"إبكِ مثل النساء ُملكاً مًُضاعاً، لم تحافظ عليه كالرجال"
وما حدث بعد ذلك كان مرعباً، ولما يدرس بعد، وحتى صفحاته لم تكتب حتى اليوم، لأننا لا نملك وثائقه بين أيدينا، فقد تنكر المنتصرون لكل حرف خطوه في المعاهدة، وحملوا الناس على اعتناق الكاثوليكية كرها، والإعدام والحرق ينتظر من يرفض أو يراوغ أو حتى يتردد، وبعد قرن وربع قرن من الزمان تقرر طرد من تبقى من العرب، فذهبوا ولم يعد لهم أثر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ، ولم يسمر بمكة سامر
......
ها هي مأساة الأندلس تتجدد في بغداد، عاصمة الخلافة، وكأننا كما يقول عنا الأعداء، كل الأعداء، لا نتعلم. وها هو أبو عبد "الصغير" يقف ذليلاً منكسراً، يفتح الطبيب الأميركي فاه كما يفتح البيطري فم الشاة.. إنها الصدمة لمن يكرهه قبل من يحبه، من تضرر منه قبل من استفاد من وجوده على رأس السلطة .. ها هو "ولي أمر" العراق يقف مستسلماً لقدره بين يدي من كان يصفهم هو وأبواقه بـ "العلوج"، يتحسس أبو عبد الله رأسه، ويشير إلى موضع ما يوجه إليه "العلج" مصباحه فيتحول فم "خليفة بغداد" إلى الأحمر القاني، أحمر .. بلون الدم الذي طالما استمتع به هو وعصبته من الخونة والفاسدين، الدم الذي شربه ابناه، وابناء عمومته من أكباد شعبه، دم الأطفال والشباب والشيوخ الذين يعلم عددهم وحده الله تعالى، ويعلم كم من الأحلام أجهضها أبو عبد الله بيديه وأيادي عصبته، بعلمه ورضاه وربما بتحريض منه، كل هذه الدماء أريقت على مذبح رضا أبي عبد الله، فكيف تغفر له الناس كل هذا؟ لكن مع ذلك لا أذيع سراً حين أقول إن مشهد رأس أبي الله بين يدي البيطري كان مؤلماً، مؤلماً لدرجة لا يمكن تجاهلها، كان يخاطب موضعاً دفيناً في القلب، لأنه في نهاية المطاف محسوب على المرء، مهما تنصل منه .. إنه بالفعل طاغية وفاسد، ولكن اسمه أبو عبد الله .. يشبه اسماءنا أو أسماء أهلنا أو أصدقائنا.. وهو بالفعل قتل الآلاف، وربما الملايين من البشر والأحلام والأمنيات .. لكن سحنته تشبهنا، وهو لم يهبط علينا من المريخ ولا زحل .. بل هو ابن ثقافتنا، ويتحدث لغتنا، ويزايد علينا حتى في ديننا ووطنيتنا..
.....
دعونا نعترف أولاً، أن كراهيتنا لهذا الرجل لن تعفينا من تحمل قسط مما سيناله من إذلال ومهانة وانكسار .. قد يتضاءل هذا القسط حيناً، وقد يتعاظم أحياناً، لكن المؤكد أنه سيظل موجوداً، ولن يزول إلا بعد سنين طويلة.. أجلس مثل فلاح عجوز في صعيد مصر فقد عزيزاً لديه، ممسكاً برأسي، أريد أن أستوعب الأمر، أعود النفس على تقبل مشهد لحظة "قهر الرجال"، وانهيار الملك، وابتلاع المهانة .. آه يا أبا عبد الله، كم كنت طاغوتاً جمع بين الشر والغباء، وكم أغلقت دونك ألف باب وباب، وعلى كل باب ألف لص ولص، كم صرخنا في البرية نقول إنهم فاسدون يا أبا عبد الله، فلا يصلك الصوت، أحاطوك بغلالة من مادة عازلة لا مثيل لها، اسمها الكبرياء، ووسمتنا بالغوغاء، وقيل أنك أعدت ترديدها أمام سادتك الجدد .. ولا نظنهم يكذبون، لا لأننا عهدنا منهم الصدق، فلا نعرفهم بعد، لكننا نعرفك أنت جيداً، ونعرف أنك تقولها .. ولا تبالي .. دائماً كنت تنظر إلينا كما ينظر أبناء الملوك إلى سقط المتاع، بمنتهى الاستخفاف والمهانة والتبرم والضيق .. كنا نقول لك أنت منا يا أبا عبد الله، ونحن منك، أنت مثلنا ابن الفقراء، صدقنا أحلامك .. واختزلنا فيك كل رموزنا وأمنياتنا، وحلمنا معك بدولة العزة والكرامة والكفاية، لكنك أبيت إلا أن تحقرنا وتستخف بنا، ولا يكفيك هذا بل تنكل بنا، وتستبيح دماءنا وأعراضنا وأموالنا بقلب بارد.. أنت وكل عصبتك التي خانتك وتخلت عنك لتبقى وحيداً ذليلاً منكسر القلب .. منهك القوى مهيناً مستلب الإرادة .. اين هم الآن يا أبا عبد الله .. لعلك تعرف أن بعضهم في قبضة عدوك، لأنهم أغبياء مثلك، وآخرون في بيوت أبناء العمومة والخئولة، لأنهم أشرار مثلك، وهناك من يعلم بهم الله وحده، لأنهم غامضون مثلك أيضاً، لكن المؤكد أنهم خانوك، خانوك في عينك، وليس من وراء ظهرك.. آه يا أبا عبد الله، كم أنا فضولي لرؤية تلك اللحظة، أو اللحظات التي تخلوا فيها عنك، وماذا قلت لهم، وكيف كانت نظرة عينك في تلك اللحظة، وبم كنت تفكر قبيل أن يقتحم عليك جحرك من كنت تطلق عليهم "العلوج"..
......
وإن كان حال أبي عبد الله أصبح ميئوساً منه، وصار جزءاً من قدرنا السئ، فماذا عن بقية "ملوك الطوائف"؟ تراهم يختلفون كثيراً عن أبي عبد الله، وهل هو اختلاف في النوع أو الدرجة، وهل يرجى منهم صلاح أم أنهم يشبهون أبا عبد الله، مكابرون .. أشرار، لا يستمعون لنا، ولو وصلهم صوتنا ألهبوا ظهورنا بالسياط، واعتبرونا أعداءهم، ووسمونا بالغوغاء والحثالة؟ ولو صح وكان من بينهم من يشبه أبا عبد الله، ألم يتعلم هؤلاء الدرس، ويتعظوا مما جرى ويجري؟ ألا يشاهدوا التلفزيون، ويتجولوا بين الفضائيات، ويتلقوا التقارير من بصاصيهم، ويستمعوا إلى مستشاريهم؟ ولكن آه من مستشاريهم هؤلاء .. لعلهم رأس الأفعى، أو المطرقة التي يغيب تحت وقع ضرباتها وعي ملوك الطوائف، كما ضاع من قبلهم وعي أخيهم أبي عبد الله .. ها هو حفيد بني أمية يستلهم مكر معاوية فيخفق، ويبدو منفوشاً كأنه الطاوسس، وهو مرتعد في أعماقه إلى حد يمكن للعوام والدهماء أمثالنا أن يلحظوه .. يقدم معاوية كل ما في يده، ويلقي عباءته على عتبات البيت العتيق في "واشنطن ـ دي سي"، فلا يُلقى إليه بال، ويتركه السادة ينهش في نفسه، ولو قدم لنا نحن إخوانه وآله وعشيرته ربع ما يلقيه لآلهة الزمان لحملناه في المآقي، والتفننا حوله، ولن يجد ملاذاً أحنّ عليه من صدورنا، لكن معاوية يأبى إلا الخداع، ورفع قميص عثمان فترقبوا أيها السادة أندلساً أخرى .. وملكاً مضاعاً آخر سيبكي عليه ـ كالنساء ـ أحفاد بني أمية، لأنهم لم يحافظوا عليه ـ كالرجال ـ وكأن لم يسمر بمكة سامر.. ولا غالب إلا الله
المصرى عدد المشاركات >> 73 التاريخ >> 16/12/2003
|
المقال رائع يا أستاذ سعد .. بالفعل يعبر عما يدور بقلوبنا هذه الأيام ..
ولن أذكر لك موضوعك المعنون : خلاص لنجعل المنتدى سياسيا وبلاش قانون .........
ومشاركتك هذه تعبر عن الواقع .. عندما يحدث حدث جلل لا تستطيع أن تخرجه خارج عقلك وتقول أكتب فى القانون .. أنت تريد أن تقول شىء ولا يخرج منك فتلجاء إلى الكتابة . هل رأيت .. وأنت تنتقد الكتابة السياسية وجدت مقال شعرت أنه يعبر عما بداخلك فكتبته فى مشاركة .. فهل تقبل أن أدخل لأقول لك لا نريد كتابة فى السياسة ؟؟
ولكن ... لماذا كتبت أعلى الموضوع : نبيل شرف الدين ... هل المقال له منقولا من إيلاف .
إذا كان كذلك فدعنى أحذرك من هذا الشخص وكتاباته على طريقة السم فى العسل .. ودون غيضاح أكثر من ذلك أرجوا أن تكون قد فهمت ما أعنيه .
|
عذبي عدد المشاركات >> 8 التاريخ >> 16/12/2003
|
الاستاذ محمد كمال
تحياتي لشخصك الكريم
انا خلاص بطلت كتابة في القانون
وارجو افادتي عن نبيل شرف الدين
مع الشكر الجزيل
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|