للدكتور محمد عباس جريدةالشعب 26 سبتمبر 2003
لو أن الوحش، الكلب المسعور والذئب العقور شارون تمكن من شيخ المجاهدين في فلسطين "الشيخ أحمد ياسين" فقام بأسره..
لو أن ذلك حدث .. فكم تكون جريمة شارون..
فلو أنه بعد أسره أساء معاملته.. فكم يتضاعف الجرم..
فلو أنه عذبه فكيف يكون..
فلو أن هذا العذاب لم يكن عذابا وحشيا مما تعودت الوحوش والضواري من بني البشر عليه فكيف نوصف الجريمة..
لو أنه لم يرع إلا ولا ذمة.. ولم يراع عبء السنين والشيخوخة و أمراضها .. ولا سابقة الجهاد .. فكيف كيف يكون..
ماذا لو أن الوحش، الكلب المسعور والذئب العقور شارون سلط كلابه على الشيخ أحمد يسن ورجاله لتنهال عليهم الكرابيج بعنف وليمطروا بوابل من الشتائم والسباب الفاحش، فيغمى علي الشيخ أحمد يسن فلا ترى إلا الكرابيج تهوي عليه قم يابن كذا وكذا.. أنت عامل عيان (وبتستموت) يا بن..
ماذا كان يمكن للعالم أن يقول على الوحش، الكلب المسعور والذئب العقور شارون إن فعل ذلك لو أنه أمر كلابه بأن يواصلوا تعذيب الشيخ أحمد ياسين عذابا مروعا رهيبا ، أقله و أكثره رحمة ضرب نوع خاص من السياط يمزق اللحم حين يهوي عليه، وماذا لو أن كلابه أصرت على مواصلة هذا التعذيب حتى يتراقص المجاهدون الشرفاء تحت ضرب سياط لا تتوقف إلا عندما يغنون الأغنية المشهورة: "يا شارون يا مثال الوطنية".
***
فماذا لو أن الذي فعل ذلك ليس شارون.. و إنما واحد آخر.. واحد على دين الشيخ أحمد يسن.. ماذا لو أن الذي فعله ياسر عرفات مثلا؟!!..
أي آفاق هائلة ومروعة كان الجرم يبلغها..
***
تلك الآفاق المروعة للجرم الهائل ليست خيالا.. لأنها بعينها ما حدث من رجال ثورة 23 يوليو مع الإخوان المسلمين.. وفي القلب منهم الشهيد سيد قطب. ولم تكن الأغنية " يا شارون يا مثال الوطنية".. بل كانت يا "جمال يا مثال الوطنية"..
***
في حدود ما أعلم، لم يشهد التاريخ قضية تواطأ الجميع على الكذب وطمس الحقائق فيها كما شهدت قضية انقلاب ضباط 23 يوليو على حلفاء الأمس.. بل قادة الأمس من الإخوان المسلمين.
كان الشرق والغرب يتحالفان.. وكان الليبراليون والشيوعيون يتفقون، وكان الجلادون والخونة واللصوص يأتمرون.. وكانت الصحافة تتواطأ على درجة من الكذب ليس لها مثيل.. ولقد ضربنا أمثلة محدودة في المقالات الماضية، ونضيف إليها اليوم - قبل أن نبدأ بالحديث عن الشيخ سيد قطب - مثلا ثالثا عن الشهيد محمد فرغلي..
كان الشيخ المجاهد محمد فرغلي أحد أبرز العلماء حتى أن عبد الناصر ألمح إليه بنيته على تعيينه شيخا للأزهر، كان رجلا عميق الإيمان شديد المراس، قوي العزيمة زاهدا في المظاهر، يؤثر العمل على القول، يحب الناس جميعاً، ويتفانى في خدمتهم وبخاصة الضعفاء منهم، حيث يقف إلى جانبهم لأخذ حقوقهم ورفع الحيف والظلم عنهم. وكان مجرد ذكر اسمه يُرعب الإنجليز واليهود والعملاء، وقد وضعوا الجوائز الكبيرة لمن يعثر عليه ويسلمه لهم حياً أو ميتاً. وكانت أحاديثه في مخيمات الإخوان وكتائبهم ومعسكراتهم وأسرهم، تأخذ بمجامع قلوب السامعين، لما يجدونه فيها من الصدق والوضوح، والبساطة والحلاوة والإيمان والإخلاص، فحديثه حديث القلب إلى القلوب ومناجاة الروح للأرواح، يثير العواطف، ويحرك المشاعر، ويدعو للعمل الجاد الدؤوب في سبيل الله ومن أجل المستضعفين في الأرض، ويوضح لجماهير الإخوان أن أعداء الإسلام من اليهود والصليبيين والمستعمرين هم أتفه وأحقر من أن يصمدوا أمام عزائم الرجال المؤمنين ، وأن تجارب الحرب معهم في فلسطين، كشفت عن جبنهم وتخاذلهم، وهشاشة قوتهم، فكانوا يفرون كالفئران المذعورة أمام مجاهدي الإخوان المسلمين، ولولا المؤامرات الدولية الكبرى، وتخاذل بعض الأنظمة في ديار العرب والمسلمين لما ضاعت فلسطين، ولما كان للإنجليز أو الفرنسيين أو الأمريكان وجود في البلاد الإسلامية.
يقول الأستاذ عباس السيسي في كتابه القيم "في قافلة الإخوان المسلمين": "... لقد كان الشيخ محمد فرغلي داعية من دعاة الإسلام ومن الرعيل الأول من الإخوان المسلمين، عمل مع الإمام الشهيد حسن البنا منذ بدأ دعوته في مدينة الإسماعيلية، واختاره الإمام الشهيد لمسؤوليات كبار، فكان عند حسن الظن، حيث شمر عن ساعد الجد، وسط مدينة كانت ترابط حولها من كل جانب قوات الاحتلال البريطاني، فجعل الأرض تميد من تحت أقدامهم...
لقد كان الداعية المحنك الشيخ المجاهد محمد فرغلي هو رئيس الإخوان المسلمين بمنطقة الإسماعيلية، وكان ساعده الأيمن الذي يشد أزره، هو المجاهد الجسور يوسف طلعت، وكان الاثنان مصدر الخوف والرعب لقوات الاحتلال البريطاني بالقناة.
يقول الأستاذ كامل الشريف في كتابه القيم "المقاومة السرية في قناة السويس": ".... لقد عرفت الشيخ محمد فرغلي ـ أول ما عرفته ـ يوم كان يرافق الإمام الشهيد حسن البنا في جولته على خطوط القتال في فلسطين، ثم توثقت بيننا عرى الأخوة، حين عملنا سوياً، خلال الحملة الفلسطينية، فازددت به معرفة وإعجاباً، فقد كان من الصنف الذي يفرض عليك ـ رغم تواضعه الشديد وأدبه الجم ـ أن تحترمه وتقدِّره، وكان مفتاح شخصيته هو "الترفع" الترفع عن الصغائر، والترفع عن الخصومات، والترفع عن كل ما يشين، وكان شديد الحرص على سمعة الدعوة ونظمها، غيوراً إلى أبعد الحدود، على هيبتها وكرامتها، وأذكر أن الشيخ فرغلي وأنا، كنا نمثِّل الإخوان في لقاء بمكتب البكباشي عبد الناصر، وكان وقتها وزيراً للداخلية في وزارة محمد نجيب، وقد ضم الاجتماع رجال الانقلاب: عبد الحكيم عامر، وصلاح سالم، وحسين كمال الدين، فأراد ضباط الانقلاب، أن يوقعوا بين الشيخ فرغلي، والمرشد العام الهضيبي بذكرهم جهاد الشيخ فرغلي في فلسطين والقناة، وثنائهم عليه، والنيل من شخص المرشد العام، فما كان من الشيخ فرغلي، إلا أن قطع عليهم الحديث وقال غاضباً: "يجب أن تدركوا أن هذا الذي تتحدثون عنه هو زعيمنا وقائد جماعتنا، وإنني أعتبر حديثكم هذا إهانة للجماعة كلها ولشخصي بصفة خاصة، وإذا كان هذا أسلوبكم فإنكم لن تصلوا إلى شيء"، فكان هذا القول كافياً لإقناعهم أنهم أمام رجل صلب العود، قوي الشكيمة، فانصرفوا بالحديث إلى جهة أخرى. ولم يكن الشيخ فرغلي من ذلك النوع من شيوخ الدين، الذين يتعلقون بالقشور ويبحثون عن المناصب والمراكز، ولكنه كان مجاهداً بحق، وحسبه أنه ترك وظيفته وأهله، وذهب إلى فلسطين مع رجال جماعته من المجاهدين، وحين نشبت معركة قناة السويس، ترك أهله مرة أخرى واندمج بكليته في المعركة".
وقد نشرت مجلة "روزاليوسف" حديثاً مطولاً للشيخ فرغلي مع مندوبها وقد وصفته المجلة بأنه الشيخ الغامض الذي يحسب له الإنجليز ألف حساب، حيث قال في حديثه للمجلة: "إن الإخوان المسلمين لا يستطيعون الكف عن محاربة الإنجليز حتى يتمّ جلاء القوات البريطانية، وإن أفضل طريقة أمام القيادة البريطانية لحماية جنودها هي سحبهم من قناة السويس" .
وهذا هو البطل الفذ، والمجاهد الشجاع، والداعية الحكيم، الذي دوَّخ اليهود والإنجليز، وتلك هي سيرته العطرة وتاريخه المجيد. هذا هو البطل التي تطوعت الثورة بإعدامه شنقا يوم 7-12-1954م، حيث وقف الشيخ المجاهد شامخ الرأس أمام حبل المشنقة، باسماً في إقدام، فرحاً في إيمان، مردداً قول من سبقوه من إخوانه وهم يمضون في طريق الشهادة، وعجلت إليك رب لترضى، وقال قولته الشهيرة: "إنني مستعد للموت فمرحباً بلقاء الله"، وصدق الله العظيم إذ يقول: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى" نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
ولقد عم العالم العربي والإسلامي موجة من السخط الشديد، والاستنكار الغاضب، وأعلن الحداد في بلاد الشام وغيرها، على هؤلاء الشهداء، ونكتفي بإيراد مقتطفات من كلمة الأستاذ الكبير علي الطنطاوي التي أذيعت من دمشق ونشرت في عدد من الصحف العربية والإسلامية حيث قال: "لو كان الأمر لي، لما جعلته يوم حداد، بل يوم بشر وابتهاج، ولما صيَّرته مأتماً بل عرساً، عرس الشهداء الأبرار على الحور العين، ولما قعدت مع الإخوان أتقبل التعزيات بل التهنئات، وهل يرجو المسلم إلا أن يموت شهيداً؟ وهل يسأل الله خيراً من حسن الخاتمة؟، إني لأتمنى ـ والله شاهد على ما أقول ـ أن يجعل منيتي على يد فاجر ظالم فأمضي شهيداً إلى الجنة، ويمضي قاتلي إلى النار، فتكون مكافأتي سعادتي به، ويكون عقابه شقاؤه بي. هذا هو العقاب لا عقابك يا جمال، عقاب الناصر لأوليائه، القاهر فوق أعدائه، الذي ستقف أمامه وحدك ليس معك جيشك ولا دباباتك ولا سلاحك، ولا عتادك، تساق إليه وحيداً فريداً، ليسألك الله عن هذه الدماء الزكية فيم أرقتها؟ وعن هذه الأرواح الطاهرة فيم أزهقتها؟ وعن هاتيك النساء القانتات الصابرات فيم رملتهن؟ وعن أولئك الأطفال البرآء، فيم يتمتهم؟ وعن هذه الجماعة الداعية إلى الله المجاهدة في سبيله، فيم شمَّت بها أعداء الله ورسوله؟ فإن كان عندك دفاع فأعده من الآن، لتدلي به أمام محكمة الجبار، التي لا تحكم بالموت شنقاً، بل بالحياة الدائمة في النار، التي يصغر الشنق ألف مرة من عذاب لحظة منها، يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا حزب ولا أعوان ولا سيف ولا سلطان، يوم تتبدل الموازين وتتغير المقاييس ويكون الفضل للفاضل، والصدر للصالح، وتنزل ملوك وتعلو سوقة، يوم ينادي المنادي لمن الملك اليوم؟ للطغاة! للبكباشية! لسادة بكنجهام والبيت الأبيض والكرملين! كلا، إنه لله الواحد القهار. فهل تجد لك طريقاً لا يمر بك على المحشر؟ ولا يقف بك موقف الحساب؟ هل تعرف ملكاً تفر إليه؟ ولقد حكم مصر من قبلك فاروق ومن قبله المماليك ومن قبلهما فرعون وهامان فأين اليوم فرعون والمماليك وفاروق؟ أين من طغى وبغى وقال أنا ربكم الأعلى؟ لقد ساروا جميعاً في ركاب عزرائيل، تشيعهم دعوات المظلومين".
***
سوف نترك الآن الشهيد محمد فرغلي، لكننا نعرج قليلا إلى نمط من أنماط العذاب التي تعرض لها الشيخ محمد فرغلي، وزميله وصديقه يوسف طلعت.. وأيضا الشيخ سيد قطب.. كمجرد نموذج لما حدث مع اآخرين.. كل الآخرين..
نقرأ جزءا من ذلك التعذيب في سفر الشيطان.. نقرأ عما فعلته كلاب النار بالأستاذ يوسف طلعت الذي تعرَّض لتعذيب شديد القساوة والوحشية، حيث كسروا عموده الفقري وذراعه وجمجمته ولم يبق مكان في جسمه إلا وأصيب بكسر أو جرح أو رضّ، حتى إن الأستاذ المرشد حسن الهضيبي حين حاكمه جمال سالم تحدث الهضيبي عن التعذيب الذي أصاب الإخوان، ونفى جمال سالم، فردَّ عليه الأستاذ الهضيبي: اكشفوا على يوسف طلعت لتروا مقدار التعذيب الذي أصيب به وغيره من الإخوان في سجونكم.
كان جمال سالم هوالوحش، هوالكلب المسعور والذئب العقور الذي تمكن من شيوخ المجاهدين..
وكان حسين الشافعي و أنور السادات عضوي اليمين والشمال..
أو على الأحري كان كليهما عضو شمال..
سنعود إلى ذلك مرارا بعد ذلك..
لكنني كما قلت لكم في بداية هذا المقال بل في عنوانه " ليست الغرابة في ضراوة الصراع بل في ضراوة الكذب والخسة والخداع.."
لم يكتفوا بإعدام الشهيد محمد فرغلي..
كان المقصود تدميرا كاملا.. تدمير الجسد والروح والسمعة.. تدمير القضية التي استشهد من أجلها الشهيد..
أخذت الثورة بالثأر الذي كان في عنق الشهيد لبريطانيا و إسرائيل..
يقول فضيلة الشيخ محمد عبدالله الخطيب - أطال الله عمره - أنه بعد إعدام الشهيد بثلاثة أيام فوجئ بصحيفة الأهرام تنشر في الصفحة الأولى صورة عمارة ضخمة جدًا وأمامها عربية مرسيدس مكتوب تحتها هذه عمارة فرغلي وقد بناها من تبرعات فلسطين وهذه سيارته.
يواصل الشيخ محمد عبد الله الخطيب: ولأننا لم نكن نظن أن الإجرام يصل إلى هذه الصورة حتى الناس لم تجف دماؤهم أخذت الأهرام وذهبت إلى البيت وكنت أسكن في الحلمية وأنا في غاية الألم، يسكن معي أحد الإخوة من أسيوط فقال لي هل تدري إن أخو الشيخ فرغلي إبراهيم سيزورنا بعد قليل لأنهم حضروا من البلد ليأخذوا وصية الشيخ ويستلموا هدومه، فانتظرت حتى جاءوا فأخذت إبراهيم وقلت له ممكن أشوف الوصية؟ قال: نعم فأعطاها لي فوجدت وصية:
"يا إبراهيم اذكر أن سجن المؤمن خلوة أن تغريبه سياحة وإن قتله شهادة.
يا إبراهيم أنا لم أترك لكم شيئًا فإذا أعوزتك الحاجة فاذهب إلى الشيخ الباقوري فإنه صديق يستطيع أن يقضي لك ما تريد".
ويواصل الشيخ محمد عبدالله الخطيب بحثه عما تركه البطل الشهيد محمد فرغلي لأبنائه..
كانت عمارة الأهرام فرية خسيسة قذرة..
أما ما تركه البطل الشهيد فعلا لأبنائه فقد كانت بيتا قديما في الإسماعيلية، بيتا قديما مؤجرا بمبلغ مائة وعشرين قرشا شهريا..
نعم..
120 قرشا شهريا..
أما من قارئ يطفئ بعضا من أوار النار المتأججة داخل قلبي ببعض دموع..
120 قرشا شهريا .. إلا أن الشهيد محمد فرغلي لم يكن يمتلك المنزل كله .. بل نصفه فقط.. وكان إيراده منه ستون قرشا شهريا.. وكانت هذه التركة الضخمة هي كل ما تركه البطل الشهيد لأهله..
أما الأهرام فقد أطلقت فريتها القذرة الخسيسة.. وما من أحد يحاسب أحدا..ووسط الرعب القائم كان الناس يقرءون فيصدقون و إلا حدث لهم نفس ما يحدث للشهداء.. ويمر اليوم وراء اليوم.. وتترسخ الأكاذيب.. وكل النظم.. كل النظم وكل الحكومات.. ما من واحدة منها على استعداد لإعادة التحقيق.. فالكل يدرك من سيكون المجرم والخائن واللص عندما يكتمل أي تحقيق حقيقي جاد.
من سيكون كل ذلك..
ومن الذي كانت المخابرات الأمريكية تحركه..
***
أقول لكم أن "عمارة صحيفة الأهرام والسارة المرسيدس" كانت فرية خسيسة قذرة.. ربما لم يكن محمد حسنين هيكل مسئولا عنها بالذات .. لكنه كان مسئولا عن الآلاف مثلها بعد ذلك..
ألم أقل لكم أن أزمته أزمة ضمير شخصي لا أزمة فكر قومي..
أزمة كان يمكن أن يحل جزءا منها، أو على الأحرى يواريه، أن تنتصر ثورة 23 يوليو على إسرائيل.. أن تتحرر من الاستعمار.. أن تنشئ جيشا.. ونظاما.. وعدالة..
لكن كل ما وعدوا به حدث عكسه..
وكل ما حذر منه الإخوان المسلمون تحقق..لم تكن الوسائل إذن مبررة للغايات.. فقد كانت الغاية خرابا وكانت كل الوسائل جرائم..
ولقد حاول هيكل أن يرد بضراوة عمن حاول اتهامه بالإساءة لأي صحافي.. ونفى ذلك بضراوة وبإطلاق .. ولعله نسي - ولن نسئ الظن أكثر - أن سيد قطب كان رئيسا للتحرير قبل هيكل بعشرة أعوام على الأقل..
لم يكن هيكل كصلاح نصر وحمزة البسيوني ولا حتى كموسي صبري وابراهيم سعدة وابراهيم نافع..
لم يكن معدوم الضمير كليا..
لكنه في نفس الوقت لم يكن يملك منه مثل الحر بن يزيد كي ينتقل من جيش يزيد إلى جيش الحسين..
ليست لديه القدرة على الاعتراف والتوبة..
فياله من شقاء..
***
سوف نعود إلى ذلك أيضا.. لكن آن الأوان لكي أتقدم وجلا خاشعا خائفا دامعا إلي محراب بطل من أعظم أبطال التاريخ الإسلامي وشهيد على رأس شهدائه، وهو الشهيد سيد قطب..
***
ولكي تعلموا يا قراء أي رجل كان فإنني أبدأ بثبت لمؤلفاته:
1 - مهمة الشاعر في الحياة، وشعر الجيل الحاضر. (نقد).
2 - الشاطئ المجهول (شعر)
3 - نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر (نقد).
4 - التصوير الفني في القرآن (نقد).
5 - الأطياف الأربعة (بالاشتراك مع إخوته)
6 - طفل من القرية. (صور وصفية)
7 - المدينة المسحورة (قصة)
8 - كتب وشخصيات (نقد)
9 - أشواك (قصة)
10 - مشاهد القيامة في القرآن (نقد.
11 - روضة الطفل (قصص للأطفال بالاشتراك)
12 - القصص الديني للأطفال. (بالاشتراك مع عبد الحميد جودة السحار).
3 - الجديد في اللغة العربية (أدب).
14 - الجديد في المحفوظات (أدب)
15 - النقد الأدبي: أصوله ومناهجه.. (نقد).
16 - العدالة الاجتماعية في الإسلام (فكر)
17 - معركة الإسلام والرأسمالية (فكر).
18 - السلام العالمي والإسلام (فكر).
19 - في ظلال القرآن (تفسير).
20 - دراسات إسلامية (فكر)
21 - هذا الدين (فكر).
22 - المستقبل لهذا الدين (فكر)
23 - خصائص التصور الإسلامي (فكر)
24 - الإسلام ومشكلات الحضارة (فكر)
25 - معالم في الطريق (فكر)
26 - مقومات التصور الإسلامي (فكر)
27 - أفراح الروح (خواطر).
28 - نحو مجتمع إسلامي (فكر).
29 - في التاريخ: فكرة ومنهاج (فكر).
30 - معركتنا مع اليهود (فكر)
31 - لحن الكفاح (شعر)
32 - أمريكا التي رأيت (فكر).
كانت هذه مؤلفات رجل سجنوه في أخصب أعوام عمره..
رجل كتب عنه أستاذه " الدكتور مهدي علام" في تقديمه لرسالة (مهمة الشاعر في الحياة) التي ألقاها سيد قطب كمحاضرة في دار العلوم يقول: (لو لم يكن لي تلميذ سواه لكفاني ذلك سرورا وقناعة، ويعجبني فيه جرأته الحازمة التي لم تسفه فتصبح تهورا، ولم تذل فتغدو جبنا، وتعجبني فيه عصبيته البصيرة، وإنني أعد سيد قطب مفخرة من مفاخر دار العلوم".
***
كانت العلاقة بين البطل الشهيد وبين ضباط 23 يوليو علاقة حميمة ، لكنه سرعان ما صارح بعض خلصائه فقال: لا أجد في تطورها ما يريح! فهؤلاء الأمريكان يحاولون احتواءها بدلا من الإنجليز...
يروي الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار- الأديب الحجازي المعروف والصديق الأثير لسيد قطب- عن صلة سيد برجال الثورة بعد قيامها، فيقول: بلغ من احترام الثورة لسيد قطب، وعرفانها بجميله وفضلا، أن كل أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا ملتفين حوله، ويرجعون إليه في كثبر من الأمور، حتى إنه كان هو المدني الوحيد الذي يحضر جلسات المجلس أحيانا، وكانوا يترددون على منزله في حلوان..
ويتابع عطار كلامه كما ينقله لنا الدكتور صلاح الخالدي في كتابه " سيد قطب: الأديب الناقد، والداعية المجاهد، والمفكر المفسر الرائد"- دار القلم- دمشق..:
"قرر مجلس قيادة الثورة- ونشرت القرار مجلة آخر ساعة- أن يسند إلى سيد قطب منصب وزير المعارف ولكن سيد قطب اعتذر!!
ورجوه أن يتولى منصب المدير العام للإذاعة، فاعتذر!!
وأخيرا وافق على أن يكون السكرتير العام لهيئة التحرير..( وهي وظيفة تعني أنه تقريبا الرجل الثاني في الدولة.. نعم .. إنها الوظيفة التي يشغلها الآن : يوسف والي ميرزا..!! م. ع . ) ولبث فيه شهرا.
وبدأ الخلاف بين سيد قطب وبين عبد الناصر وزملائه، فاضطر سيد إلى الاستقالة من هيئة التحرير...
وسيد قطب نفسه يروي عن صلته برجال الثورة بعد قيامها فيقول: "استغرقت في العمل مع رجال ثورة 23 يوليو 52، حتى شهر فبراير 1953. عندما بدأ تفكيري وتفكيرهم يفترق حول هيئة التحرير، ومنهج تكوينها، وحول مسائل أخرى في ذلك الحين، لا داعي لتفصيلها..
ويقول. "كنت أعمل أكثر من اثنتي عشرة ساعة يوميا، قريبا من رجال الثورة... " ..
ويواصل الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي:
قادة الثورة يقيمون حفل تكريم لسيد قطب:
ومن تقدير وتوقير رجال الثورة له أنهما أقاموا حفل تكريم له بعد شهر من قيام الثورة.. وكان أساس الحفل محاضرة لسيد قطب بعنوان "التحرر الروحي والفكري في الإسلام " دعي سيد لإلقائها في نادي الضباط في الزمالك في شهر أغسطس- آب- وذهب سيد لإلقاء المحاضرة في الموعد المحدد، وكان معه صديقه الأديب الحجازي أحمد عبد الغفور عطار.
وبدل أن يلقي سيد محاضرته، حول قادة الثورة الحفل إلى كلمات وخطابات للإشادة بسيد وبيان مناقبه.
وندع الأستاذ عطار يصف ما جرى في الحفل:
"وفي الموعد المحدد حضرت معه، وكان النادي مزدحما بحدائقه وأبهائه الفسيحة، وحضرها جمع لا يحصى من الشعب، وحضر إلى النادي أبناء الأقطار العربية والإسلامية الموجودون في مصر، وكثير من رجال السلك السياسي، وكبار زعماء الأدب والفكر والقانون والشريعة، وأساتيذ من الجامعات والكليات والمعاهد.
وكان مقررا حضور محمد نجيب، وتوليه تقديم سيد قطب، إلا أن عذرا عارضا اضطر محمد نجيب للتخلف، وبعث برسالة تليت على الحضور، تلاها أحد الضباط،. وموجز كلمة محمد نجيب: أنه كان حريصا على أن يحضر المحاضرة، ويفيد من علم سيد قطب، ووصف سيد بأنه معلم الثورة ورائدها وراعيها.. وبعث نجيب برسالته مع أنور السادات، وأناب عنه جمال عبد الناصر.
وحول الضباط محاضرة سيد إلى مناسبة للاحتفال والاحتفاء به، وبيان مناقبه، وبدل أن يحاضر سيد فيهم، صار الخطباء يتكلمون عن سيد، ويثنون عليه، وهو جالس!
افتتح أحد الضباط الحفل، بآيات من القرآن. وقال أحد كبار الضباط: "كان مقررا أن يقوم الرئيس محمد نجيب، بتقديم أستاذنا العظيم، ورائد ثورتنا المباركة، مفكر الإسلام الأول في عصرنا الأستاذ سيد قطب، ولكن أمرا حال دون حضوره.. وأريد مني تقديم الأستاذ سيد قطب، وإن كان في غنى عن التقديم، وعن التعريف.
وكان حاضرا الحفل الدكتور طه حسين، فتقدم وألقى كلمة رائعة قال فيها: "إن في سيد قطب خصلتين، هما: المثالية المثالية، والعناد، فهو ليس مثاليا فقط، ولكنه مثالي في المثالية".
وذكر سيد قطب وأثره" في الثورة ورجالها.. واختتم كلامه بالقول: إن سيد قطب انتهى في الأدب إلى القمة والقيادة، وكذلك في خدمة مصر والإسلام.
ثم وقف سيد قطب، وألقى كلمة مرتجلة، وسط تصفيق المصفقين، وهتاف الهاتفين له.
قال عن الثورة: "إن الثورة قد بدأت حقا، وليس لنا أن نثني عليها ، لأنها لم تفعل بعد شيئا يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام".
ثم قال سيد قطب: لقد كنت في عهد الملكية، مهيأ نفسيا للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضا، فأنا في هذا العهد، مهيأ نفسيا للسجن، ولغير السجن، أكثر من ذي قبل".
وهنا وقف جمال عبد الناصر، وقال بصوته الجهوري ما نصه: "أخي الكبير سيد. والله، لن يصلوا إليك إلا على أجسادنا، جثثا هامدة، ونعاهدك باسم الله، بل نجدد عهدنا لك، على أن نكون فداء ك حتى الموت!".
وصفق الناس تصفيقا حادا متواصلا، مع الهتاف المتكرر بحياة سيد قطب.
ثم وقف الضابط "محمود العزب " وتكلم عن دور سيد قطب في التمهيد للثورة، وعن حضوره لبيت سيد قبيل الثورة، وأنه وجد عنده عبد الناصر، وغيره من ضباط الثورة ! وبين نظرة رجال الثورة لسيد.
ثم وقف الأستاذ أحمد عطار، وعقب على كلام الدكتور طه حسين عن سيد، فقال عطار عن سيد: إن سيد عنيد في الحق " فهو إذا اعتقد شيئا أصر عليه، ولا يعتقد إلا الحق، وهو عنيد في كفاحه وجهاده...
وعندما انتهى الحفل كان البكباشي جمال عبد الناصر في وداع سيد قطب، وكان الضباط والجنود وجماهير الناس تهتف بحياة سيد" (1).
ويختتم الدكتور صلاح الخالدي شهادته في هذه الواقعة بقوله:
نكتفي بتقديم هذه المعلومات العجيبة عن سيد، كما رواها أحد الحضور، ونشير فقط إلى فراسة سيد الإيمانية النفاذة، حيث استشرف المستقبل، وتوقع السجن والموت، وسط مظاهر الإشادة والاحتفاء والثناء!
***
سوف نعود إلى ذلك كله.. لكن أفضل ما نورده الآن هو ما قاله العلامة الشهير محمد قطب عن شقيقه الشهيد الشيخ سيد قطب في شريط مسجل ( أعتذر مقدما عن أي خطأ في تفريغ الشريط المسجل واختصاره.. فقد قمت به بنفسي - م ع )..
يقول العلامة محمد قطب:
ليس المهم قصة حياة سيد قطب بل المهم النقاط الواضحة في حياته. إن فكره هو الأولى أن يهتم به وليس وقائع حياته. حفظ القرآن في المدرسة ( قبل سن العاشرة). [ اختياريا وتحديا بعد أن تمرد على الكتاب].
بدأ حضور ندوات العقاد مع خاله وهو في المدرسة الثانوية، بدأ النشر في الصحف وعمره لا يتجاوز 18 عاما فكتب الشعر والمقال.
في العشرين كتب مقالا ضد رئيس الوزراء محمد محمود رئيس حزب الأحرار الدستوريين. محمد محمود ذي القبضة الحديدية استدعاه ليعرف من كتب ضده بهذه القوة.. وفوجئ بعمره .. و قال له اكتب ما تشاء فإني معجب بك.
كان أول كتاب الرسالة وهي أهم مجلة ثقافية في العالم العربي.
مجلة الفكر الجديد( الفكر الجديد.. وليست الفجر الجديد.. والأخيرة مجلة شيوعية سيدعي الشيوعيون بعد ذلك في أكاذيبهم الفاجرة أن سيد قطب كان يكتب فيها مستغلين تقارب اسم المجلتين، ولكي يروجوا لأكذوبة أن الشهيد كان شيوعيا- سنتناول فيما بعد خطتهم في الكذب: إنهم يطلقون الكذبة، فإذا انطلت على الناس فبها ونعمت، و إذا كشفها الناس لا يعودون إليها بل يلجئون إلى غيرها- م ع ).
كان صديقا لرئيس الحكومة الذي أرسله في بعثة لأمريكا لتجنب اعتقاله.
صدور كتاب العدالة الاجتماعية وهو في أمريكا.
أجريت له عملية اللوز في أمريكا ( وليس الزائدة كما تقول بعض المراجع ).
وفي فبراير 49- قتل الإمام الشهيد حسن البنا. كان ما يزال في المستشفى.. وفوجئ بقيام الأمريكيين بالاحتفال بالاغتيال وكان لذلك تأثير ضخم جدا عليه. كانت شماتة صليبية هائلة في مجال غريب عليها، فهنا أطباء وممرضات لا علاقة لهم بالسياسة، ليسوا صحافيين أو ساسة مثلا. مع هذه الشماتة قرر الالتحاق بالجماعة.
لم يلتق أبدا بحسن البنا كما تدعي بعض الدراسات.
لم يكن قد التحق بالإخوان حتى ذلك الوقت، حيث فعل ذلك في أوائل 1951 مع الأستاذ الهضيبي حيث شغل رئيس قسم نشر الدعوة منذ التحاقه بها.
ما بين 51-52 كانت مصر تغلى من شدة الفساد. كان يكتب ثلاث مقالات أسبوعيا، أشدها قوة في مجلة الأستاذ أحمد حسين: الاشتراكية . كان يحقق معه ثلاثة مرات أسبوعيا كل تحقيق يستغرق اليوم بطوله، ثم يفرج عنه، كان يكتب بصورة حادة لكنه كان يتحاشى مزالق النيابة.
بعد الثورة
في اليوم الثالث 25 يوليو اتصل محمد نجيب الرئيس الظاهري للحركة ، ( أُوحِي إلى محمد نجيب أن يرشح نفسه، و أوحي إلى الملك رفض ذلك ، ثم أوحي إلى الملك القبول فصار محمد نجيب بطلا شعبيا)
قال محمد نجيب لسيد قطب : نحن تلاميذك، تتلمذنا على كتابك العدالة الاجتماعية في الإسلام، وعلى مقالاتك في مجلة الاشتراكية، ونريد أن تكون أنت مستشارنا في الأمور الداخلية، فذهب إليهم فاحتفوا به احتفاء شديدا في أول الأمر على أساس أنه أستاذهم الذي وجههم بكتبه ومقالاته.
عاش معهم ستة أشهر في الثلاثة الأولى منها كان ينزل في الصباح الباكر ليعود في الثالثة صباحا حيث توصله إحدى سيارات الجيش. عهدوا إليه أن يوجههم كي يتصرفون في المسائل الداخلية دون الخارجية. لم يعرف سيد قطب لماذا عهدوا إلية بالشئون الداخلية دون الخارجية، كانوا يتصرفون فيها بأنفسهم دون استشارته وفي إطار كامل من السرية. فتحوا أمامه كل الملفات الداخلية وطلبوا مشورته في كل الأمور، وخصصوا كمال الدين حسين ليجلس أمامه مجلس التلميذ أمام أستاذه ليستشيره في أمور التعليم.
تبين لسيد قطب أن هناك تأثيرا أمريكيا قويا واقعا على الثورة، نبههم إلى ذلك فسارعوا بالنفي وقالوا له نحن نستعين بهم لطرد الإنجليز.
في الشهور الثلاثة الأولى وقعت صدامات بين العسكر والإخوان. حاول الشهيد التوفيق بينهم ، وكانوا يستجيبون له حرصا على استمراره معهم، واعتذر محمد نجيب للإخوان عن كلمة قالها في حقهم.
عندما تبين لسيد مؤامرة للقضاء على الإخوان اعتزل العسكر. ثم اعتقل مع الإخوان، كان الاعتقال الأول هينا لينا دون تعذيب - يناير 54 ، وكان المقصود أن يبقوا إلى أن يموتوا أو أن يتم الصلح مع إسرائيل. فجأة بعد 3 شهور أخرجوا من المعتقل، وكان السبب أزمة عزل محمد نجيب وتمرد فرقة الفرسان وقيامها بحصار فرقة المدفعية ( فرقة جمال عبد الناصر) وفي الشارع كان الإخوان يسيطرون على الشارع، كان عبد الناصر محاصرا من الجيش والشارع، فلجأ إلى المناورة بصورة مسرحية حين أمر بالإفراج عنهم، وسبق المرشد إلى بيته ليكون في استقباله. وقبل يديه وقال له نحن أخطأنا فسامحونا فلن نخطئ مرة أخرى، وكان يدبر في نفسه غير ما يقول.
بين هذا الإفراج في مارس والاعتقال الثاني في أكتوبر ، في تلك الأثناء أخرج الإخوان مجلة الإخوان المسلمون، كان سيد قطب رئيس تحريرها وكان محمد قطب يترجم موضوعات أجنبية، وكانت آخر برقية جاءت للمجلة من رويتر ولم تنشر لأن العدد الذي كان يجب أن تنشر فيه صودر ثم أغلقت المجلة. كانت البرقية هي: هناك صلح يجري إعداده بين مصر و إسرائيل.
***
( أحيل القارئ إلى كتابات أحمد حمروش عن هذه النقطة، و إلى لقاء أخير له مع الصحافي إبراهيم عيسى يوم الخميس الماضي على قناة دريم2، كان حمروش يؤكد أن عبد الناصر لم يفكر أبدا مجرد تفكير في القضاء على إسرائيل، وكان كل ما يتمناه قبل 67 هو عودة اللاجئين، وبعد 67 إزالة آثار العدوان، و أنه كان يقبل بوجود إسرائيل طول الوقت، ومستعدا للصلح معها، و أن اتصالات مباشرة تمت بين حمروش وناحوم جولدمان بأمر من عبد الناصر في وقت مبكر جدا، كان حمروش يقول ذلك، وكان ابراهيم عيسي يقول في ذهول: سيُصعق الناصريون عندما يسمعون أن عبد الناصر كان مستعدا للصلح مع إسرائيل.. وكان حمروش يؤكد: ولكنها الحقيقة)..
***
في أكتوبر 54 اعتقل الإخوان بتهمة محاولة اغتيال عبد الناصر، وهذا غير صحيح مطلقا، وهي مسرحية مفتعلة للقضاء على الإخوان، و أعدم سبعة وكان في القائمة صفان آخران. أثناء التحقيق كان القاضي يسأل المتهم: اشتركت في حرب فلسطين؟ اشتركت في حرب القناة؟ كان من اشترك في الاثنين 25 سنة، ومن اشترك في الأولى دون الثانية 15 سنة وفي الثالثة دون الأولى عشر سنوات.
كان من المفروض أن يعدم في 54 المرشد وسيد قطب. لكن لظروف قدرها الله كتب الله لهما مزيدا من العمر، أصيب الهضيبي بأزمة قلبية وكان أمل الثورة أن تقضي عليه، ولم يمت كما قدر عبد الناصر إلا بعد وفاة عبد الناصر.
لم ينفذ الحكم في سيد لأنه بسبب التعذيب أصيب بنزيف رئوي شديد مستمر فلم يكن يمكنه المثول أمام المحكمة، أجلوها ثلاثة أيام ثم أسبوع ثم أسبوعين ثم شهرين. وفي هذه الأثناء حدث رد عل عنيف جدا في العالم الإسلامي بسبب إعدام السبعة وقامت مظاهرات كبيرة في العواصم و أحرقت السفارات المصرية في الخرطوم و إسلام أباد، رأت الحكومة تهدئة لرد الفعل الإسلامي أن تصدر بيانا أنه لن تكون هناك إعدامات جديدة. وكان هذا التصريح حائلا أمام المحكمة فحكموا عليه بالمؤبد ثم عدل إلى خمسة عشر عاما قضى منها بالفعل عشر سنوات، وفي السجن كتب : هذا الدين، والظلال، والإسلام ومشكلات الحضارة، والمعالم.
أتيحت له فرصة الكتابة ولكتاب الظلال أن يخرج.
من آثار التعذيب وضع في مستشفى السجن. وكان معه 2 من الإخوة. فترة السجن قضوها في المستشفى.
أصيب بالذبحة الصدرية مرتين في السجن.
كان قد كتب 18 جزءا من الظلال خارج السجن والباقي في السجن ثم أعاد كتابة الأجزاء من 1-12 طبعة ثانية وكان يريد إكمال الباقي.
حدث تحول حاد في الطبعة الثانية التي كتبت داخل السجن من البقرة إلى الأنعام إلى الجزء الثاني عشر.
يقول أعداؤه أن التعذيب هو الذي جعله حادا.
السبب الحقيقي هو ما حدث من الجماهير بعد مذبحة 55 للإخوان.
سنة 56 عملت مسرحية تأميم القناة فصفقت الجماهير لعبد الناصر ويده تقطر دما من المسلمين. وسأل نفسه سؤالا و أجاب عليه: لو كانت هذه الجماهير تعرف حقيقة لا إله إلا الله ومقتضياتها هل كان يمكن أن تلتف حول السفاح هذا الالتفاف. اتضح لسيد تماما أن هذه الجماهير لا تعرف حقيقة لا إله إلا الله .... و أنها منفصلة عن معناها ومقتضياتها.
هذا هو التحول الحقيقي الذي حدث لسيد. الأجزاء المعادة داخل السجن فيها تركيز هائل على لا إله إلا الله.
كل بناء يبنى قبل أن تنجلي قضية لا إله هو بناء هش لابد أن يسقط. ما لم تتضح هذه القضية: مقتضياتها ونواقضها فإن حماسة الجماهير لن تصمد لكيد ولا ضغوط. التربية على لا إله إلا الله إذن هي الهدف الأول الذي ينبغي لأن يكرس فكره له. أفرج عنه عام 64 فجأة هو و أربعين من السجن.
كان عبد الناصر يريد وحدة مع العراق بعد فشل الوحدة مع الأردن 57 ( القضاء على انقلاب أبو نوار) ثم فشل الوحدة مع سوريا. استضاف عبد السلام عارف لبحث الوحدة، ضغط علماء العراق على عبد السلام عارف للكلام مع عبد الناصر، فقال علماء العراق يطالبونني بالتوسط للإفراج عن سيد قطب والإخوان. لقد أفرجت عن الشيوعيين بطلب خروشوف، ألا تفرجون عن المسلمين من أجل خاطري. فاستجاب عبد الناصر وهو يدبر أمرا.
تم الإفراج مايو 64 والسجن مرة أخرى سبتمبر 65
عرض كتاب المعالم على المرشد فطلب منه نشره.
قدر الله العجيب في كل خطوة. هذا الكتاب صدر دون أن تقرأه الرقابة، أخذ الناشر أول نسختين إلى الرقابة فأجازوه دون قراءته.
كان عبد الناصر كلما ذهب إلى بلد إسلامي تواجهه المظاهرات : أنت تسمح للشيوعيين بالسيطرة على وسائل الإعلام وبالكتابة في الصحف وتحارب المسلمين والإسلام، وكان عبد الناصر ينفي ذلك، والدليل نشر الظلال، و أرادوا أن ينفوا عن الدولة وعبد الناصر محاربة الفكر الإسلامي.
هذا الكتاب حين قرأه الشيوعيون فزعوا منه فزعا شديدا جدا، وقلوا للمباحث كيف سمحتم بهذا الكتاب وهو أخطر كتاب صدر لمفكر إسلامي. لا يجوز أن يتداول هذا الكتاب ولا يجوز لصاحبه أن يبقى حيا، ثم ضغطوا على سادتهم في موسكو لتأييد رأيهم، ولهذا أصدر جمال عبد الناصر أوامره بالقبض على الإخوان من موسكو!!. خطورة الكتاب أنه يكشف خطة المؤامرة على المسلمين ، لقد أراد أن يرد على المعالم.
هذا الكتاب الذي أزعج الشيوعيين أزعج المباحث عندما قرءوه واكتشفوا خطورته. وخطورته كشف المخطط. مخطط إخراج المسلمين من الإسلام مع إيهامهم دائما بأنهم ما زالوا مسلمين. لقد نحّوا الشريعة الإسلامية عن الحكم وقالوا للناس لا بأس عليكم مادمتم تصلون وتصومون فأنتم مسلمون، ثم سلطوا على الناس من يشغلهم عن الصيام والصلاة ثم قالوا للناس لا بأس عليكم حتى لو لم تحكموا بالشريعة ولم تصلوا ولم تصوموا ما دمتم تقولون لا إله إلا الله. وهذا هو الوضع الذي كانت الأمة قد انتهت إليه، مسلمون بشهادة لا إله إلا الله، كالمسلمين بشهادة الميلاد. كتاب المعالم كله مركز على هذه القضية، و هي أن الإنسان لا يكون مؤمنا بنطق لا إله إلا الله بل بالعمل بمقتضاها . فإذا لم يعمل بمقتضاها لم تحسب له، فضلا عن أنها لن تأتي أبدا أكلها بنصر المسلمين عند من لا يعمل بمقتضاها. كان الأعداء يرون أن هذه الدعوة ستوقظ الإسلام و أن صحوة الإسلام ستوقظ الجهاد و أن بدء الجهاد سيؤدي إلى انتصار الإسلام و إلى إخراج الكفار من ديار المسلمين.
كان الكتاب يهدف لإعادة الأمة إلى حقيقة الإسلام.
وكان يقرر أن الواقع الموجود واقع غير إسلامي.
و أن النطق لا يغني عن العمل.
اتفقت المباحث والشيوعيين في مصر والشيوعية العالمية مع موسكو على ضرورة القضاء على الكتاب وصاحبه فكان تدبير قضية 65. وكانت الأحكام .
وتكفل شمس بدران بتلفيق القضايا ، كان آنذاك مدير المخابرات العسكرية: (خلي دي على أنا يا ريس). و تكفل بالأمر كله.
القضية رسميا كانت محاولة اغتيال جمال عبد الناصر وقلب نظام الحكم. وقال سيد في الدفاع عن نفسه في المحكمة: هذا غير صحيح، ولو كنا نريد اغتيال جمال عبد الناصر لفعلنا عن طريق واحد من حرسه الخاص، إسماعيل الفيومي، عضو الإخوان، لكننا لم نفعل.
كانت الأحكام معدة سلفا. صدر الحكم بالإعدام على عشرة. صدق جمال على ثلاثة. حدد موعد التنفيذ بعد صدور الأحكام بأسبوع, حدث تحرك لا أدري من صاحبه. جاء حمزة البسيوني وهو المشرف على التعذيب. وكانت شقيقة سيد في السجن الحربي . جاءها مدير السجن وقال لها لقد صدر حكم على سيد بالإعدام وهذا عار وخسارة كبيرة لسيد والرئيس مستعد لأن يصدر عفوا عنه بل و أن يسقط القضية كلها بشرط أن يعتذر له، ولا أحد يستطيع إقناعه إلا أنت. و أتاح لها مقابلته لمدة ساعة. ذهبت إليه، وجلست معه الساعة الأخيرة، وقالت له مطلوب مني أن أبلغك أنك إذا اعتذرت إلى جمال عبد الناصر فسيفرج عنك وسينهي القضية، قال لها وما رأيك أنت؟ فقال لها وما رأيك أنت وهل أنت موافقة، قالت لا ولكن طلب مني ذلك فقال لها لو كنت مخطئا لاعتذرت، ولكني أدعو بلا إله إلا الله، ولم أرتكب خطأ بدعوتي، واليمين التي تشهد بلا إله إلا الله لا يمكن أن تعتذر عن لا إله إلا الله. فخرجت وقالت لحمزة أنه رفض فقال إذن سينفذ الحكم..
وفي فجر اليوم التالي نفذ الحكم.
***
انتهى كلام العلامة محمد قطب..
ولا أجد خيرا من وصف الشيخ عبد الحميد كشك للنهاية الدامية..
و أذكركم مرة أخرى يا قراء أنني لا أعود إلى التاريخ انتصافا - وإن كان هذا واجبنا جميعا- و إنما أعود إليه لأقول لكم أن الكارثة التي تحيق بنا الآن هي النتيجة الطبيعية لما حدث.. ليس فيها ما يدهش ولا ما يصيب بالإحباط واليأس والانهيار..
لقد حدث ذلك فكان لابد أن يحدث هذا..
لكن ذلك كله موضوع مقالات قادمة..
***
والآن فلنعد إلى الشيخ عبد الحميد كشك: إذ يقول:
من تهمته لا إله إلا الله لا يخرج من السجن أبدا..
لا تنفعه شفاعة الشافعين.
الرجل الذي فسر القرآن الكريم كأنما تنزل عليه من السماء مفسرا عليه.
طلب من القاضي شربة ماء فأبى.. الدجوي..
بئس القضاء وبئس القاضي..
طلب من القاضي أن يجلس قليلا لأنه متعب قال له الدجوي مثلك يحرم عليه الجلوس.
قيل لعبد الناصر إن القانون لا يسمح بإعدام من في الستين إذا كانت تهمته سياسية فأجاب عبد الناصر : إلا هذا..
اشتدت الضغوط على عبد الناصر لوقف تنفيذ الحكم فبدأت معه المساومة..
قال لأخته عندما أرسلوها إليه من السجن إلى السجن تحمل له مساومتهم على حياته: يا حميدة: في هذه الساعة دعوت الله أن يقبضني شهيدا، أعندما يستجيب أتراجع عن الدعاء.
وتدخل حكام باكستان والسعودية والمسلمون، فأمر عبد الناصر بتنفيذ الحكم قبل الفجر وقبل وصول أي وفد من وفود الوساطة.
قبل الفجر فتح باب زنزانة الشهيد عقيد وقال له قم يا فلان لأن هناك تسكين جديد، وكلمة تسكين في السجون تعني تغيير الزنازين. فأجابه: نعم.. هناك تسكين ولكن ليس في السجن الحربي ولكنه تسكبن في الفردوس .. وسأله الرجل:جنات الفردوس
ما الذي أعلمك بهذا؟..
قال :
لقد كنت مع الرسول منذ لحظة في المنام، وكان الرسول يركب فرسا أبيض فنزل عن فرسه ومد يده فصافحني وشد على يدي وقال لي هنيئا لك الشهادة يا سيد.
***
كانت مراسم الإعدام تقضي أن يكون أحد العلماء حاضرا تنفيذ الإعدام ليلقن المحكوم عليه الشهادتين! فعندما كان سيد يمشي خطاه الأخيرة نحو حبل المشنقة اقترب منه الشيخ قائلا : (قل لا إله إلا الله) فقال سيد: حتى أنت جئت تكمل المسرحية.. نحن يا أخي نعدم بسبب لا إله إلا الله ، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله.
وجئ بالسجان ليضع الحبال في يديه وقدميه فقال للسجان : دع عنك الحبال سأقيد نفسي. أتخشى أن أفر من جنات ربي. وصعد بنفسه على طبلية الإعدام ووضع الحبل بيديه حول عنقه وهو يقول رب إني مغلوب فانتصر.
وصعدت روحه
***
هل تحتملون المزيد يا قراء..
عن نفسي.. أشعر وكأنما صعدت روحي..