برزت فكرة المشروعية مع تنامي أجهزة الدولة واتساع الدور الذي تقوم به ممثلة بالأجهزة الإدارية المختلفة فكان ذلك يستوجب إيجاد نصوص وأنظمة تنظم العلاقة بين المواطن والإدارة وتنظم في الوقت نفسه العمل الإداري داخل المنشأة الإدارية نفسها. ومن هذه الفكرة نشأ القانون الإداري والذي يستهدف بالتنظيم أعمال الإدارة المختلفة والتي تمارسها باعتبارها سلطة ذات سلطة وسيادة للموازنة بين مصالح الأفراد من ناحية والمصلحة العامة التي تمثلها الإدارة من ناحية أخرى. ولتكريس المشروعية وتفعيلها واقعاً على الأرض تم إيجاد قضاء إداري مستقل يختص بنظر المنازعات التي تكون الإدارة طرفاً فيه باعتبارها سلطة ذات سيادة ومن هنا برزت الرقابة القضائية المستقلة على أعمال الإدارة بعد أن كانت تمارسه جهات متصلة بالإدارة نفسها. وكان إنشاء ديوان المظالم كقضاء إداري مستقل نقلة نوعية في ترسيخ دعائم المشروعية في المملكة بشكل مؤسسي إذا أخذنا بالاعتبار الرصيد الحضاري للتجربة الإسلامية التي تعتنقها المملكة. وقد ساعد إيجاد القضاء الإداري على تطور المبادئ القانونية وخلق نظريات تتواءم مع المتطلبات التي تستلزمها طبيعة العلاقة بين الأفراد والإدارة، مما يحقق العدالة وسير المرافق العامة بانتظام واطراد مما حدا بالمديرين والمسؤولين عن الإدارات الحكومية أن يراعوا في ممارساتهم الإدارية نصوص القانون ومبادئه حتى لا تكون أعمالهم عرضة للإلغاء أمام القضاء الإداري. ويمثل القرار الإداري أهم وسيلة للإدارة للإفصاح عن إرادتها ومزاولة وظيفتها في تسيير المرفق العام وإشباع الحاجات العامة. وللقرار الإداري باعتباره عملاً قانونياً شروط وأركان خاصة لا بد من توافرها حتى يكون قراراً صحيحاً منتجاً لآثاره القانونية. فلا بد أن يصدر من جهة مختصة في إصداره بناءً على قواعد الاختصاص المحددة في دستور الدولة وأنظمتها الأساسية، كما أنه يجب أن يكون القرار الإداري مطابقاً للأنظمة السارية مراعياً في الوقت نفسه للشكليات التي حددها النظام وأن يكون مستنداً إلى سبب صحيح يبرره وأن يكون أخيراً يستهدف المصلحة العامة. ومتى ما أصاب القرار الإداري عيب في أحد أركانه السابقة فإنه يكون قراراً معيبا قابلاً للإلغاء أمام القضاء الإداري. وأزعم أن من أهم تلك الأركان وأشدها خطورة على المشروعية بمعناها الواسع وعلى الوظيفة الإدارية نفسها، ذلك العيب الذي يصيب ركن الغاية في القرار الإداري والذي اصطلح على تسميته بعيب الانحراف بالسلطة حيث لا يستهدف فيه رجل الإدارة أياً كان مركزه في الهرم الإداري المصلحة العامة وإنما يرمي من ورائه إلى أهداف أبعد ما تكون عن الوظيفة الإدارية سواء كانت تلك الأهداف تصفية حسابات شخصية أو تحقيق منافع خاصة لمصدر القرار أو غيرها من الأهداف البعيدة عن الصالح العام. وفي نظرة فاحصة على الواقع الإداري لدينا نجد أن مثل تلك الممارسات اللا قانونية متفشية وبشكل كبير في المرافق الإدارية على وجه الخصوص في مجال العقوبات التأديبية والتي أحاطها المنظم بنصوص وقواعد لا يجوز الالتفاف عليها ولا القفز فوقها لأنها تمس وبشكل مباشر حقوق وحريات الأفراد والذين عنيت بهما الشريعة الإسلامية وصانتهما قبل الأنظمة الوضعية. ومن هذا المنطلق نجد أن المنظم قد أورد العقوبات التي يجوز إيقاعها على الموظف على سبيل الحصر وعليه فإنه لا يمكن توقيع عقوبة على الموظف إلا إذا كانت من العقوبات المنصوص عليها في النظام. وفي قراءة للمادة (32) من نظام تأديب الموظفين نجد أن المنظم قد قسم الموظفين إلى فئتين كل فئة تخضع لجزاءات محددة. فالفئة الأولى تشمل الموظفين من المرتبة العاشرة فما دونها هؤلاء يمكن توقيع الجزاءات التالية عليهم: 1 ـ الإنذار. 2 ـ اللوم. 3 ـ الحسم من الراتب بما لا يتجاوز صافي راتب ثلاثة أشهر على ألا يتجاوز المحسوم شهرياً ثلث صافي الراتب الشهري. 4 ـ الحرمان من علاوة دورية واحدة. 5 ـ الفصل. وتشمل الفئة الثانية الموظفين الذين يشغلون المرتبة الحادية عشرة فما فوق وهؤلاء يجوز توقيع الجزاءات التالية عليهم. 1 ـ اللوم. 2 ـ الحرمان من علاوة دورية واحدة. 3 ـ الفصل. وبناء على ما سبق فإن أي قرار إداري يتضمن عقوبة أخرى غير التي حددها المنظم فإنه والحالة هذه يكون قراراً مخالفاً للنظام وقابلاً للإلغاء، وإن كان الهدف من إصداره مصلحة المرفق نفسه ذلك لأن الأمر يتعلق بمعنى أسمى من ذلك وهو ترسيخ المشروعية وتفعيلها في المرافق الإدارية الحكومية. إلا أن تلك المعاني السامية غير حاضرة عند كثير من المديرين والرؤساء الذين اتخذوا من الوظيفة العامة وسيلة لتنفيس شحناتهم النفسية على حساب الأنظمة وحقوق الأفراد ومكتسباتهم، لذا لا تروق لهم فكرة حصر العقوبات وكان ينتظر من المنظم أن يطلق له العنان ليؤدب الموظفين المتقاعسين عن أداء مهامهم الوظيفية وأولئك الخارجين عن نسق تفكير "الرئيس" والذين تكثر مناقشاتهم ونقدهم مما يمس على حد زعمهم هيبة الإدارة والتي يتشرف بتمثيلها، وبالتالي فقد تنقلب المنشأة الإدارية من صرح يحكمه القانون إلى ساحة عراك تحكمه موازين أخرى. ومن تلك العقوبات المقنعة والتي ابتدعها البعض ما يسمى "بالنقل التأديبي" سواء كان نقلا نوعياً أو مكانياً والذي يعد مثالاً صارخاً على التنكر للمشروعية وقواعد العدالة حيث أخرجوا النقل من وسيلة يراد بها مصلحة المرفق العام ومصلحة الموظف إلى عقوبة يهدد بها كل موظف سولت له نفسه أن يراجع أو يناقش أو حتى يفكر فلا يجد الموظف المغلوب على أمره إلا أن ينقاد حتى لا تشتت أسرته و"لا يقذف به وراء الشمس". ولا ريب أن أي قرار نقل كان الدافع من إصداره هو مخالفة إدارية صدرت من الموظف فإنه يكون قراراً معيباً ومخالفاً لصريح النصوص النظامية ويكون قابلاً للإلغاء أمام القضاء الإداري والمتمثل في الدوائر الإدارية في ديوان المظالم والذي درج على ذلك المبدأ منذ اعتباره قضاء إدارياً مستقلاً بل قبل ذلك فنجد في قرار له ينص على: "أن البادي من استعراض القرار المطعون عليه أنه قضى بمجازاة الطالب بخصم عشرين يوماً من راتبه عن المخالفات الثلاث المنسوبة إليه وفي ذات الوقت قضى بنقله ولا شبهة في أن هذا النقل الذي كان وليد التحقيق الذي أجري مع المدعي يعتبر هو الآخر جزاء تأديبياً مقنعاً إلى جانب الجزاء التأديبي الصريح الأمر الذي ينطوي على تكرار في العقوبة تأباه الأصول العامة في النظم الجزائية فمن المعلوم أن النقل لم يقرر كعقوبة وإنما قرر للمصلحة العامة التي تستهدف حسن التنظيم المرفقي.." (قرار رقم 17/86 لعام 1400هـ منشور في مجموعة المبادئ الشرعية التي قررها ديوان المظالم ص 208 وما بعدها). وفي حكم آخر يقول :"إنه يجوز للإدارة نقل الموظف من مكان إلى آخر في نطاق عمله متى ما توخت الإدارة في هذا النقل المصلحة العامة وحسن سير العمل في المرفق العام، وهو مناط مشروعية النقل على ألا يكون ذلك جزاء تأديبياً مقنعاً فمتى ما انحرف عن الهدف الصحيح ودلت الوقائع والملابسات على انطوائه على جزاء تأديبي أصبح في واقع الأمر عقوبة لم ينص عليها النظام" (حكم رقم 2/د/3/1 لعام 1408هـ في القضية رقم 1141/1/ق لعام 1405هـ "غير منشور"). ومع ذلك كله ظلت تلك الممارسة الخاطئة تطبق في شتى القطاعات الحكومية في ظل تنامي سياسة التجهيل التي تكرسها بعض الجهات الحكومية فهي لا تريد موظفين متفتحين يعون حقوقهم بشكل جيد لأن ذلك سيجلب لها المتاعب، لذا لا تهتم في رفع الثقافة القانونية لدى موظفيها حتى لا تشرع أبواب كانت مغلقة ولا سيما إذا كان الهدف هو الصالح العام كما تزعم!.
الانتقال السريع اختــــار