القضاء المصري.. بين الاستقلال والاحتواء
بقلم :طارق البشري
اكتمل للقضاء المصرى استقلاله وسيادته وشموله فى الأربعينيات من القرن العشرين، وكان ذلك بجهود جيلي الآباء والأجداد منا، وكذلك الجيل السابق عليهم، منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، عندما تأسست <<المحاكم الأهلية>>، على أن أجيالَ رجال القضاء بخاصة، وأجيال القانونيين والحقوقيين بعامة منذ العشرينيات هم من كان يعود إليهم فضل تأسيس هذه الروح المستقلة وفضل تربية القاضي وتنشئته بقيم الحياد والاستقلال وبهذا الحس المعنوي اللازم دائماً لرجل القضاء، على قدر يزيد أو يقل، وهو الحس المعنوي الداخلي بأن في أدائه لعمله أداء لنوع <<رسالة>> أو مهمة سامية. هذا الحس هو أمر لازم في التكوين النفسي للقاضي، لأنه هو الحس الذي يعوضه معنوياً عما لا يتوافر لديه أحياناً من ماديات الحياة المكفولة للكثيرين أمثاله من النخب الاجتماعية، وهو <<الحس>> الذي يدرّبه على صفة <<الاستغناء>>، ولا استقلال بغير القدرة على الاستغناء.
وأنا لا أتكلّم بروح <<مثالية>> معزولة عن الواقع، ولا أهيم في بيداء خيال، ولكنني أجهد في أن أوضح أن ثمة أمرين متلازمين لا يكتمل التكوين القضائي إلا بهما، أولهما نظامي يتعلق بالتكوين المؤسسي المستقل للجهاز القضائي، وثانيهما نفسي تربوي يتعلق بتكوين القاضي الإنسان. وكما أنه لا كفاءة لعالم في أي من فروع العلم الطبيعي أو الاجتماعي إلا <<بالصدق>>، ولا كفاءة لجندي مقاتل إلا <<بالشجاعة>>، ولا كفاءة لرائد فضاء إلا <<بروح مغامرة>>، ولا كفاءة لتاجر إلا <<بروح مضاربة>>، فإنه لا استقلال لقاضٍ ولا حياد له إلا <<بروح استغناء>>.
وإنني أجهد أن أقول أيضاً أن أهل كل مهنة، يدربون الناشئة فيها ليس فقط على مناهج علومها ومجمل معارفها وفنون ممارستها، ولكنهم يربونهم أيضاً على الخصائص والصفات التي لا تجود الممارسة إلا بها، وإني أريد أن أقول إن الأجيال المؤسِّسة والمطوّرة للقضاء المصري منذ نشأت المحاكم الأهلية في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، قامت بدورها هذا حتى اكتمل القضاء على أيديهم في أربعينيات القرن العشرين، استقلالاً وسيادة وشمولاً، وجرى ذلك بوجهيه، من حيث الإكمال المؤسسي التنظيمي، ومن حيث الإتمام الوجداني الإنساني، وأنا باستخدام لفظي <<الإكمال>> و<<الإتمام>> أدرك التباين الذي ترشدنا إليه الآية القرآنية الكريمة <<اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي..>> (سورة المائدة الآية رقم3)، بما يعني أن الكمال هو ما لا يحتاج إلى زيادة، وأن التمام هو ما يقبل الزيادة، ولذلك كان الدين قد اكتمل بنزول الآية الكريمة، أما النعمة فهي تحتمل المزيد دائماً. وهكذا نحن في التكوين القضائي، اكتمل مؤسسيّاً في الأربعينيات، وتم إنسانيّاً فيها أيضاً..!
في الأربعينيات، وفي سنة 1943، وفي عهد وزارة الوفد التي رأسها مصطفى النحاس وكان وزير العدل فيها محمد صبري أبوعلم، الذي تولى الأمانة العامة لحزب الوفد بعد خروج مكرم عبيد في 1942، في هذا الظرف صدر قانون استقلال القضاء، كان استقلال القضاء قبل ذلك متحققًا، ولكنه في تحققه كان يستند إلى الأعراف وضغوط الرأي العام دون أن يكون أحكاماً مقننة، كما أنه كان يستند أيضاً إلى مجموعة من الأحكام وردت في دستور 1923 من المادة 124 إلى المادة 127. إذ أقرّت استقلال القضاة وألا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، وأنه ليس لأية سلطة في الحكومة التدخل في القضايا، ولكنها أحالت إلى قانون يصدر بعد ذلك يرسم طريق تعيينهم وكيفية عزلهم ونقلهم. ولم يصدر هذا القانون إلا بعد عشرين سنة.
على أنه خلال هذه السنوات العشرين كان للتوازن بين السلطات أثره في استقرار القضاء واستقلاله، كما كانت للمنعة الذاتية أثرها في تحقيق القدر المطلوب من الاستقلال، وكان ليقظة الرأي العام أثرها في هذا الشأن، وأن المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي العام كان يساعد على أن يكفل قدراً طيباً من الاستقلال لعمل المحاكم، قبل أن يصدر قانون استقلال القضاء في 1943، ومن أسباب هذا الاستقرار ضعف وزارة العدل بكثرة التداول والتغيير فيها، ذلك أن القوى السياسية في المجتمع كانت متعددة، من القوى المتجمعة حول الملك، ومن قوى الحركة الوطنية الدستورية بصدارة الوفد، وأثر النفوذ البريطاني المحتل للأراضي المصرية، وعدد من الأحزاب التي تتقارب من هذه القوة أو تلك. وهذا الوضع أنتج تغييراً في الوزارات وتداولاً للحكم وتغييراً أيضاً للمجالس النيابية، بحيث إن القضاء كان هو الأكثر استقراراً وثباتاً وأنه تميّز بذاتيته حتى عن وزارة العدل. إذ كان تداول وزارة العدل (وكانت تسمّى في البداية وزارة الحقانية) على مدى خمس وسبعين سنة من 1878 إلى 1953 نحو 60 وزيراً، وتداولها في ظل دستور 1923 من مارس 1924 حتى قيام الجمهورية في يونيو 1953 نحو 38 وزيراً، وطبعاً فإن كثرة تغير الوزارات والوزراء لا يفيد نتاجاً إيجابياً في تنفيذ السياسات بعيدة المدى في مجالات التنفيذ والنشاط المختلفة، ولكنني أتكلّم هنا عن ظاهرة أخرى تتعلّق بالهيئة القضائية ومدى ما حظيت به من ثبات نسبي واستقرار هيأ لها قدراً كبيراً من الاستقلال في ممارستها وظيفتها حتى قبل أن يصدر قانون استقلال القضاء في 1943، لذلك فإن هذا القانون لم ينشئ استقلالاً كان غائباً، ولكنه قنن وبلور ونظّم استقلالاً كان واقعاً وممارساً.
وفي الأربعينيات أيضاً، في أكتوبر 1949 انتهت المحاكم المختلطة، وهي المحاكم التي نشأت بموجب ما كان مقرراً من امتيازات للأجانب في مصر، والتي نظمت في القرن التاسع عشر بموجب اتفاقية عقدت مع الدول الأوروبية والغربية صاحبة الامتيازات، وأنشئت في 1875، وكانت تتشكل من قضاة أجانب وتطبق قوانين خاصة بها وتنظر في الدعاوى التي يكون أحد رعايا تلك الدول الأجنبية طرفاً فيها. وهي كانت طبعاً تمثل انتهاكاً واضحاً لسيادة الدولة المصرية، من حيث سيادة قوانين هذه الدولة على كل المقيمين بها، ومن حيث سيادة قضاء هذه الدولة على كل المقيمين بإقليمها.
وقد كانت ألغيت الامتيازات الأجنبية بموجب اتفاقية دولية أبرمت مع الحكومة المصرية في مدينة <<منترو>> بسويسرا في سنة 1937، ونص فيها على أن تلغى المحاكم المختلطة بعد اثنتي عشرة سنة في 1949، وهذا ما حدث فعلاً، واسترد بذلك القضاء المصري سيادته القضائية على كل من يقيم بأرض مصر منذ هذا التاريخ. وكان لذلك رنة فرح في مصر كلها وبين رجال القانون والقضاء، أدركناها نحن الطلبة الذين خطوا أول خطوة لهم إلى مدرجات السنة الأولى بكلية الحقوق في أكتوبر 1949، وكان من أول ما سمعوا من أساتذتهم احتفاؤهم بهذا الحدث الوطني القانوني الجليل.
وفي الأربعينيات أيضاً استكملت مصر سيادتها القانونية بإصدار مجموعات من القوانين الوطنية تميّزت بشمول انطباقها على جميع القاطنين بمصر، مصريين وأجانب أياً كانت جنسياتهم، وأول ما صدر من هذه القوانين هو قانون الضرائب على الأرباح التجارية والصناعية، صدر سنة 1939 وكان ما يمنع صدوره قبل إلغاء الامتيازات الأجنبية في 1937 هو عدم انطباق القوانين المصرية على الأجانب إلا إذا وافقت المحكمة المختلطة على ذلك، ولم يكن يصح في الأذهان أن تقرر ضريبة تفرض على المصريين وحدهم دون كبار التجار وأصحاب الشركات الأجانب.
ثم صدرت مجموعات التقنينات الكبرى غير المنقولة عن القوانين الأجنبية وغير المترجمة عنها على ما كان الوضع من قبل، فمنذ عرفت مصر التقنينات الحديثة والمحاكم الأهلية في أوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر، كانت التقنينات الكبرى كلها مأخوذة من التقنينات الفرنسية، سواء القانون المدني أو التجاري أو البحري أو المرافعات أو الجنائي أو الإجراءات الجنائية. وهي التقنينات التي تشكل صميم المرجعية القانونية للمحاكم وللقضاء.
وكان أول هذه التقنينات الجديدة التي صدرت هو القانون المدني الذي كان للدكتور عبدالرزاق السنهوري أكبر الأثر في وضعه، وهو إن لم تكن الشريعة الإسلامية هي مصدره التشريعي، مما أثبت السنهوري طموحه إليه بعد ذلك بسنوات، إلا أنه كان قانوناً غير مفروض من أجنبي، ولا كان تابعاً لفقه دولة أجنبية محددة ولقوانينها كما كان القانون السابق عليه، وأنه قانون كان يعكس الخبرة المصرية في الفهم وفي التطبيق، حسبما استقرت أحكام المحاكم سابقاً، كما كان قانوناً يمثل خيارات مصرية في تقرير الأحكام وفي الاستفادة من خبرات الخارج، وقد أعدّ هذا القانون على مدى يزيد على عشر سنوات، وصدر في 1948 على أن يعمل به اعتباراً من أكتوبر 1949 مع إنهاء المحاكم المختلطة واسترداد القضاء المصري لسيادته الكاملة. وكنا نحن طلبة حقوق السنة الأولى في أكتوبر 1949 أول دفعة تبدأ دراستها بهذا القانون الجديد، ولم تكن صدرت بعد كتب شارحة له.
وبعدها صدر قانون المرافعات المدنية والتجارية، ثم قانون الإجراءات الجنائية الجديد في 1951، وهو القانون الذي اقتطع من النيابة العامة سلطة التحقيق في الجرائم وأبقى لها فقط سلطة الادعاء وإقامة الدعاوى الجنائية والمرافعة فيها، وبسط الوظيفة القضائية على التحقيق، مما يشكل ضمانة مهمة لإجراءات التحقيق إذ يتولاها قاضٍ لا يخضع لرئاسة يمكن أن تتدخّل في إجراءاته وتؤثر على مجريات التحقيق، وهو يخالف الوضع في النيابة العامة التى يخضع أفرادها فيما ينظرون من الدعاوى لرئاساتهم ويتبعون في النهاية وزير العدل.
وفي الأربعينيات أيضاً، صدرت مجموعات من التقنينات آخذة عن الشريعة الإسلامية، صدرت تباعاً في السنوات من 1943 إلى 1948، ومنها قانون الميراث والتركات وقانون الوصية وقانون الوقف. لم يكن قنّن من أحكام الشريعة قبل ذلك إلا مسائل الأحوال الشخصية الخاصة بشؤون الزواج والطلاق والنفقة، فضلاً عن اللائحة الخاصة بنظام المحاكم الشرعية وتشكيلاتها وترتيبها وإجراءاتها. أما ماعدا ذلك فكانت المحاكم تستقي أحكامها من كتب الفقه المعتمدة حسب الرأي الراجح في مذهب أبي حنيفة. فجاءت هذه التقنينات الحديثة لتختار من أقوال المذاهب المختلفة ما يناسب أوضاع العصر وظروف البيئة ولتضع الأحكام في صياغة واضحة لا يُختلف عليها ولترجّح من الآراء ما استقرّت عليه الأحكام.
وفي الأربعينيات أيضاً، أنشىء مجلس الدولة في 1946، وبدأ نشاطه من السنة القضائية 1946 1947، لم يكن النظام القانوني والقضائي بمصر يسمح للأفراد بأن يرفعوا الدعاوى على الحكومة في ممارستها لسلطتها العامة، وذلك حتى أنشىء مجلس الدولة الذي أخضع نشاط الدولة لرقابة القضاء، وأخضع القرارات التي تصدر من سائر الوزارات والمصالح متعلقة بالمواطنين لرقابة محاكم مجلس الدولة التي تنظر في مدى مشروعية أي من هذه القرارات وسلامته القانونية وعدم انحراف السلطات في إصداره. وبإنشاء مجلس الدولة انبسطت الحماية القضائية على كل أنشطة المجتمع وكل معاملاته وعلاقاته، وقد بنى مجلس الدولة من مادة القضاء المصري نفسها، برجاله وتقاليده وأعرافه وتكوينه الشخصي والوجداني.
قامت ثورة 23 يوليو 1952 لتنتقل بها مصر ونظمها وسياساتها إلى أوضاع جديدة تختلف كثيراً عما سبق، فكان الوضع السابق من الناحية السياسية يتضمن قوى ثلاث لا تستطيع إحداها أن تنفي الأخريين، القوة الأولى هي الملك وما يمسك به من أعنة السلطة وما يرتبط به من أجهزة الدولة، والقوة الثانية هي الإنكليز وما تقوى به كلمتهم من وجود جيش الاحتلال البريطاني الذي يجعل المعتمد البريطاني أو السفير البريطاني مشاركاً في السلطة بمصر، والقوة الثالثة هي قوة الأمة ويمثلها الوفد.
فلما جاءت ثورة 23 يوليو خلعت الملك فاروق وما لبثت أن ألغت النظام الملكي، فحلت قوة جهاز الثورة ورجالها محل قوة الملك، وتمثل ذلك في مجلس قيادة الثورة حتى صدر دستور 1956، ثم تمثل في رئاسة الجمهورية وأجهزتها وقيادتها. ثم إنها منذ قيامها عزلت جهاز الدولة عن النفوذ الإنكليزي ثم أبرمت مع بريطانيا اتفاقية الجلاء عن مصر في أكتوبر 1954 ثم تحقق الجلاء فعلاً في يونية من سنة 1956، وانتهت القوة السياسية للإنكليز. ثم هي أيضاً نظمت الأحزاب ثم ألغتها بعد أشهر قليلة من قيام الثورة، وانتهت القوة السياسية للوفد عند اصطدامه بالثورة، وحلّت هي محلّه في حراسة الاستقلال الوطني فورثت وظيفته الوطنية، هذا من الناحية السياسية.
ومن الناحية التنظيمية للمجتمع وللدولة، ألغت الثورة دستور 1923 الذي كان يرسم نظام الحكم على أساس من توزيع السلطة على ثلاث هيئات، الملك والحكومة يشخصان السلطة التنفيذية، والبرلمان بمجلسيه يشخص السلطة التشريعية، والمحاكم تشخص السلطة القضائية، ودمجت الثورة سلطتي التنفيذ والتشريع في جهاز واحد من بدء نشوئها حتى صدر دستور 1956، ثم أخضعت المجلس النيابي للسيطرة التامة للسلطة التنفيذية، وصار هذا المجلس بين أن يوجد تابعاً للسلطة التنفيذية وبين ألا يوجد أصلاً على مدى سنين عديدة، وتصدر القوانين بقرارات من رئيس الجمهورية، أو تصدر من المجلس النيابي إن وجد بما يحقق المشيئة الكاملة لرئاسة الجمهورية.
القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء (2)
محاولات لجذب الجهاز القضائي إلى جوار التشكيل السياسي للدولة
طارق البشري
سلكت الثورة مع القضاء وأجهزته وسلطته، ما يمكن أن نسمّيه بأسلوب الإحاطة والاقتطاع دون أسلوب السيطرة المباشرة والإلحاق الصريح، وذلك على الوجه التالي:
أولاً: أبقت الثورة تقريباً على ذات درجة الاستقلالية القانونية للقضاء والنظام القضائي فلم تنتقص من ذلك في التشريعات التي أصدرتها منظمة للقضاء. وأبقت الأحكام القانونية الخاصة بعدم قابلية القضاة للعزل وأن يكونوا هم من يديرون شؤون أنفسهم.
بل لعل بعض القوانين في الصدر الأول من أيام الثورة قد زاد من الضمانات القانونية للاستقلال وإدارة الشؤون الذاتية، كما حدث بالنسبة لمجلس الدولة في السنتين الأوليين للثورة. وذلك كله باستثناء حركة تطهير محدودة جرت في القضاء كما جرت في أجهزة الدولة الأخرى، وخرج بها عدد محدود من القضاة كانوا اشتهروا بعلاقاتهم برجال السراي الملكية.
ثانياً: استطاعت الثورة بسيطرتها على أجهزة التنفيذ والتشريع أن تصدر عدداً من التشريعات تقيّد به من مجال التقاضي، وقد منعت التقاضي في المجالات التي رأت فيها لنفسها صالحاً سياسياً. فمنعت التقاضي مثلاً في شأن الطلبة حتى تتمكن من التعامل مع مظاهراتهم المضادّة لها بغير رقابة قضائية، كما منعت التقاضي في مسائل الجيش وغير ذلك من المجالات.. وكانت سيطرتها على سلطة التشريع مما مكّنها من سهولة إصدار هذه القوانين.
ثالثاً: أنشئت محاكم خاصة لمحاكمة الخصوم السياسيين، سواء كانوا أحزاباً سابقة مثل قيادات الوفد السابقة والأحزاب الأخرى، أو جماعات مثل جماعة الإخوان المسلمين، وذلك بما سمّي في السنوات الأولى، محكمة الغدر، ثم محكمة الثورة، ثم محكمة الشعب. ثم صار ذلك عرفاً وديدناً فيما تلا ذلك من سنوات، إذ تنشأ محكمة عسكرية لمحاكمة من ترى قيادة الدولة أنه خصيم أو مناوئ، أحزاباً وتنظيمات سرية أو أفراداً عسكريين أو مدنيين.
وركّزت قيادة الدولة في هذا الشأن على النيابة العامة بحسبان أن لها وجه ارتباط واتصال بالسلطة التنفيذية وذات خبرة مهنية في التحقيقات، جنباً إلى جنب مع الأجهزة العسكرية والأمنية التي ظهرت مشاركة للنيابة العامة في هذا الشأن.
كان أسلوب نظام 23 يوليو إذاً هو الإحاطة بالقضاء وإبعاده عن التأثير فيما ترى الدولة أنه يمس سياستها، وجرى هذا الإبعاد عن طريق المنع من التقاضي بالنسبة للمسائل التي ترى الدولة أن لها أهمية سياسية لها، وكذلك إنشاء المحاكم الخاصة بالنسبة للقضايا التي ترى أن لها أهمية سياسية خاصة لها، سواء من حيث أشخاصها أو من حيث نوع النشاط الذي ترى منعه أو من حيث موضوع الفعل الذي ترى منعه أو تأثيمه، والعقاب عليه.
ولكنها في هذا الإطار المحدود أبقت القضاء والقضاة على حالهما تقريباً، ولم تعمل أساليب الإلحاق والاستتباع والغواية فيهما، وهذا ما قصدت التنبيه إليه في هذه النقطة، بمعنى أنها أبعدت القضاء والقضاة عن مجال الاحتكاك بها وتركتهم يمارسون عملهم فيما لا يشكل أهمية سياسية لها، وبقي القضاة في غالبيتهم بفكرهم وبعادات عملهم وبقيمهم كما كانوا من قبل، حتى التقنينات الأساسية التي يطبقونها، والتي تصوغ فكرهم وأصول مبادئهم القانونية والقضائية، بقيت كما هي وكما كانت من قبل.
ويستثنى من ذلك ما سبقت الإشارة إليه بالنسبة للنيابة العامة، ثم ما يتعلق بمجلس الدولة وتخصصه الرئيس هو الرقابة القضائية على نشاط أجهزة الدولة، وهو جهاز ابتدع فيما ابتدع من وسائل هذه الرقابة، ابتدع حق المحاكم في مراقبة دستورية القوانين، الأمر الذي لم يكن معروفاً من قبل، وكان ذلك بحكم أصدره في 10 فبراير سنة 1948، ثم طفق يوسّع اختصاصاته ويخضع لرقابته حتى أنشطة الدولة في حالة فرض أحكام الطوارئ، وكان عبدالرزاق السنهوري على رأس المجلس عندما قامت الثورة، وساندها أولاً، وهو شخصية عامة ذات سطوة ويجمع بين الدور السياسي السابق له، وبين الدور القضائي الذي كان قائماً، والريادة القانونية العلمية التي اكتسبها وتمكّن منها بعد صدور القانون المدني الجديد.
لذلك فقد جرت مواجهة حادة وعنيفة بين قيادة الثورة وبين مجلس الدولة في المدى الزماني بين عامي 1954 و1955، ودبرت مظاهرة اقتحمت مجلس الدولة ومكتب رئيس المجلس، وضرب السنهوري في مكتبه، ثم صدر قانون يمنعه من تولي الوظائف العامة بحسبانه كان وزيراً حزبياً في الأربعينيات، ثم في 1955 صدرت قوانين أعادت تشكيل مجلس الدولة وأسقطت حصانة أعضائه، وأخرجت نحو خمسة عشر عضواً منه، وأعيد تنظيم المجلس على صورة تدعم السيطرة الفردية القانونية لرئيس المجلس الجديد الذي تولّى منصبه بالأقدمية المطلقة بعد إخراج السنهوري. وخلال الفترة التالية ظهر نوع من أنواع الاتصال والتداخل بين المجلس وبين أجهزة الإدارة في الوزارات والمصالح.
وقد صيغت أوضاع مجلس الدولة بما يكفل عدم تكرار هذا الاحتكاك، وبالنسبة لمجلس الدولة جرى الأمر على أساس ابتعاد المجلس عن المساس بالقوانين التي تمنع التقاضي، مع <<الإفساح>> للسلطة التقديرية في إصدار القرارات الإدارية <<وتفهم>> تقديرات الأجهزة الإدارية في هذا الشأن.
كما جرى الأمر أيضاً بانتداب عدد محدود من أكثر الشباب ذكاءً وخبرة، ومن هم في أواسط العمر، ينتدبون للإفتاء القانوني لا في داخل مجلس الدولة وفيه قسم للفتوى ولكن في أجهزة مركزية محدودة، هي رئاسة الجمهورية، ورئاسة مجلس الوزراء، ووزارة الداخلية ووزارة الحربية ونحو ذلك. وما لبث هذا المسعى أن اتسع اتساعاً كبيراً عبر السنوات التالية للثورة وما بعدها في السبعينيات والثمانينيات حتى الآن.
وبالنسبة للنيابة العامة، وبخاصة نيابة أمن الدولة، فقد كان منصب النائب العام دائماً على اتصال وثيق بالدولة وبأجهزتها الثابتة، وكان هذا الاتصال يتراوح في درجة الوثوق، ولكنه كان قائماً على كل حال، من بدايات القرن العشرين، ونجد من ذلك شخصيات عامة كبيرة مثل عبدالخالق ثروت باشا في أوائل القرن العشرين، ومحمد لبيب عطية باشا في الثلاثينيات، وعبدالرحمن الطوير باشا في الأربعينيات، وعلي نورالدين في الستينيات وغيرهم قبلهم وخلالهم وبعدهم، وقد كان أصل تنظيم الإجراءات الجنائية يفرق بين سلطة الاتهام التي تقوم بها النيابة العامة وسلطة التحقيق المستقلة التي يقوم بها قضاة التحقيق، ثم في خواتيم القرن التاسع عشر نيطت سلطة التحقيق كلها برجال النيابة العامة، وبقي الوضع كذلك حتى صدر قانون الإجراءات الجنائية في 1951 فميَّز سلطة التحقيق وحّدها ووضعها في أيدي القضاة المستقلين عن الخضوع الرئاسي للنيابة العامة. ثم لمّا قامت الثورة انتدبت النيابة العامة ورجالها للقيام بسلطات قاضي التحقيق وأفسح للنيابة في هذا الشأن وخاصة في الدعاوى ذات الطابع السياسي، ثم توسع هذا الاختصاص فعاد إلى سابق عهده، تجمع فيه النيابة العامة بين سلطتي التحقيق والاتهام وتتبع في ذلك النائب العام وتتبع وزارة العدل.
بقي الوضع على هذا التكوين حتى كانت هزيمة 1967، وبدا بعدها أن الدولة صارت أضعف سياسياً من أن تشكل محاكم خاصة محاكم غير قضائية للنظر في الدعاوى ذات الصبغة السياسية التي تقيمها الدولة ضد خصومها ومعارضيها، كما صارت أضعف سياسياً من أن يسوغ فيها بقاء قوانين منع التقاضي أو إصدار قوانين جديدة بمنع التقاضي إذا لزم الأمر. لقد كانت الدولة تضع ذلك وتتقوى سياسياً على تسويغه للرأي العام، مستندة إلى رصيد ما كانت أنجزت من مكاسب وطنية تتعلّق باتباع سياسة تحرير مستقلة، تناوئ بها المستعمرين وتواجه بها الصهاينة وتبني بها اقتصاداً مستقلاً، ولكن هزيمة 1967 أضعفت هذا الظهور.
إن هزيمة 1967 كسرت المشروع السياسي الذي كانت ثورة يوليو اعتمدته ومارست تنفيذه وبناءه، ورغم الاستجابة السريعة والجادة للنظام السياسي في إعادة بناء الجيش وتسليحه وتدريبه، إلا أن النظام السياسي وأبنيته بقيت قائمة على ذات الأسس التي بنيت عليها هياكله، وظهرت ملامح التشقق في علاقته بقوى الرأي العام، وملامح تفكّك في أبنيته السياسية، وحدثت إضرابات الطلبة في فبراير 1968 بما لم يكن مثله مسبوقاً منذ 1954، واهتزت الشرعية السياسية للنظام.
وفي هذا الإطار، بدأت الوظيفة الكامنة للقضاء تحاول من خلال نشاطها القضائي اليومي في فضّ الخصومات بين الأفراد، بدأت توسع من ولايتها القضائية المنتقصة من خلال أحكام حاولت أن تناقش من بعيد مدى دستورية عدد من الإجراءات التي كانت أقرتها الثورة من النواحي السياسية والاجتماعية، وبدأت تمد نشاطها إلى خارج النطاق الذي كان مضروباً عليها من حيث منع التقاضي وإقرار النظم القضائية الخاصة.
ومن هنا تبدو الملاحظة التي حرصت على ذكرها في بدايات هذا الحديث عن مسلك ثورة 23 يوليو مع القضاء، ذلك أنها وإن كانت ضيّقت من نطاقه، وأنشأت محاكم خاصة، وإن كانت قيدت مجلس الدولة وتداخلت مع النيابة العامة ذات الصلة التقليدية بالسلطة التنفيذية، إلا أنها تركت القضاء ورجاله على حالهم تقريباً في النطاق الضيق المضروب عليهم، فكانوا كما لو أنهم في <<بيات شتوي>> ما إن ذاب الجليد من حولهم وتشققت بعض الجدران، حتى بدأ يتمطى ويتمدد مستشرفاً حيزه الذي بلغه في الأربعينيات والذي تحميه المبادئ الدستورية والقانونية التي بقي القانونيون يتثقفون بها.
وبدا لنظام الحكم أن ترك الأمر على هذه الصورة لا تؤمن نتائجه ويستدعي القلق، من حيث بدء الحركات الشعبية ومن حيث تشقق جدار الشرعية القائمة، وهو في ضعفه الذي صار إليه تولد لديه الاحتياج للتكوينات المؤسسية التقليدية لتحمل أو لتشارك في حمل أعباء القرارات العامة. وعندما احتاج النظام السياسي إلى مشاركة تتم من خلال القضاء وتشارك في إسناد شرعية الدولة وقراراتها، بدأ النظام القضائي على عكس المطلوب منه يتحرك حركة ذاتية وفقاً لأصل تكوينه القانوني والثقافي، ويميز نفسه باستقلالية تتراءى ويمكن أن يتفطن إلى ملامحها من كان في خبرة قيادة الدولة وقتها ومن كان في حذره وتوجّسه.
لذلك ظهرت في الأفق محاولات لما سمّي بمشروعات الإصلاح القضائي، وكانت تحاول أن تجذب الجهاز القضائي إلى جوار التشكيل السياسي للدولة، حتى يمكن إيجاد الوسائل للتأثير المنتظم على القضاة، وجرى ذلك على أساس فكرتين، ظهر الترويج لهما:
أولاهما، بدأت أو بعبارة أدق قويت الدعوة إلى إدخال القضاة في الاتحاد الاشتراكي، وهو التنظيم السياسي الوحيد الذي أقامه النظام وقتها والذي صيغت فكرته السياسية على أنه يمثل تحالف قوى الشعب العاملة التي تمثلها الثورة. وقيل وقتها إن انضمام القضاة للاتحاد الاشتراكي لا يعتبر اشتغالاً بسياسة حزبية، لأن السياسة الحزبية تفيد تعدداً لأحزاب تقوم بينها خصومات سياسية من واجب القضاة أن ينأوا بأنفسهم عنها، أما التنظيم الوحيد القائم الذي يمثل الشعب، فهو بعيد عن ذلك، وكان القصد فيما يظهر أن يندمج القضاة في الهرمية التنظيمية السياسية، بما لا ينضح فقط على فكرهم، ولكنه يؤثر في قراراتهم وأحكامهم من بعد.
وثانيتهما، ظهرت فكرة <<القضاء الشعبي>> أي أن يكون من بين من تشملهم المحاكم ويجلسون مع القضاة في نظر الدعاوى، سواء الجنائية أو المدنية أو الإدارية، أناس يمثلون الشعب من غير القضاة، وقد يكونون من غير رجال القانون، لأنهم يمثلون الفكر السياسي والاجتماعي الذي يعبر عن مصالح الشعب وعن المرامي السياسية والاجتماعية التي تستهدفها الثورة والنظام السياسي. ولم يتحدد وقتها فيما أظن وفيما أذكر كيف تختار هذه العناصر غير القضائية وغير القانونية التي تضاف إلى القضاة المحترفين في محاكمهم وتشاركهم نظرهم الدعاوى والحكم فيها، ولكن الفكرة كانت تتداول لتجد من يؤيدها من بعد، ثم ينظر في التفاصيل التنظيمية لها.
ولم تقم الفكرة في مجال الترويج النظري فقط، إنما وجدت لها بعض إرهاصات، أو تطبيقات مبكرة، في تكوين ما سمّي <<لجان فض المنازعات>> بين الملاك والمستأجرين في الأراضي الزراعية، وكان تشكيلها يشمل ممثلين للاتحاد الاشتراكي وللجمعية التعاونية الزراعية كما أن الفكرة عينها عاشت في السبعينيات في العهد التالي لنظام 23 يوليو، ووجدت أخطر تطبيق لها في 1977 عندما صدر قانون تنظيم الأحزاب السياسية، وشكل المحكمة التي تنظر في قضايا الأحزاب من القضاة الخمسة للمحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة ومعهم خمسة من الشخصيات العامة، كما ظهر ذلك أيضاً فيما سمّي <<محكمة القيم>>، وهما أخطر تطبيقين من تطبيقات هذه الفكرة، ظهرا في العهد التالي لثورة 23 يوليو في النصف الثاني من السبعينيات، وبقيا إلى اليوم.
المهم أن فكرة إدخال القضاة في الاتحاد الاشتراكي، وفكرة إدخال غير القضاة في أعمال القضاة، كلتا الفكرتين واجهتا مقاومة شديدة من القضاة، صداً وعزوفاً وتمسكاً بما صيغ به القضاء المصري من قبل 23 يوليو من أصول ومبادئ ووجه تثقيف، وتمسكاً بما كان عليه الفكر القانوني وإجراءات المحاكم ومبادئ الاستقلال والحياد المستقر في تكوينهم المعنوي.
قامت المواجهة بين نظام الحكم وبين القضاء، فلم تعد الصيغة السابقة صالحة، وهي ترك القضاء على حاله مع الاقتطاع منه للمجال الذي يثير الاحتكاك، ولم يكن القضاء صالحاً ولا مهيأ لأن يقوم بدور تمليه عليه سياسة الحكم ولا كان بثوابته والغالب من أفراده مطواعاً فيما يتعلق بمبدأي الاستقلال والحياد اللذين تربوا عليهما. وقام القضاة بحركة شهيرة في ناديهم نادي القضاة، إذ أصدروا بياناً في 28 مارس 1968 ضمّنوه رفضهم للانضمام للاتحاد الاشتراكي ورفضهم لفكرة القضاء الشعبي. وكانت انتخابات نادي القضاة التي أسفرت عن نجاح كبير لهذا الاتجاه وعن فشل من كانت الحكومة تراهم مؤيدين لسياستها.
وهنا وقع ما سمّي بعد ذلك <<مذبحة القضاء>> في آخر أغسطس1969، إذ صدرت ثلاثة قوانين حلّت بموجبها الهيئات القضائية جميعها، المحاكم ومجلس الدولة، وأعادت تشكيلها بعد أن أسقطت نحو 200 من أعضاء الهيئات القضائية، منهم رئيس محكمة النقض وبعض مستشاري محكمتها ونائب رئيس مجلس الدولة ومستشارون من محاكم الاستئناف وأعضاء من الدرجات الأدنى من جميع الهيئات القضائية. ونقل بعض من أسقطت أسماؤهم إلى وزارات ومصالح أخرى، وترك البعض الآخر بغير عمل في أي جهة حكومية فاشتغل بالمحاماة.
وأُنشئت المحكمة الدستورية باسم <<المحكمة العليا>> لمراقبة دستورية القوانين وإلغاء ما لا يتفق مع الدستور من أحكامها. وصيغ هذا الأمر بطريقة تنبئ عن أن إنشاء هذه المحكمة كان كسباً قضائياً وتطويراً للوظيفة القضائية لمراقبة دستورية القوانين. ولكن طريقة إنشاء المحكمة واختيار أعضائها وجعل مدة العضوية فيها ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وتفاصيل الأحكام الخاصة بها كشف عن أن المقصود من إنشائها كان في الأساس لحجب المحاكم المدنية والإدارية عن مناقشة دستورية القوانين واللوائح، وفقاً للمبادئ التي كانت أُرسيت من 1948 في هذا الشأن. ولذلك نصّ القانون على أن يكون النظر في دستورية القوانين اختصاصاً لهذه المحكمة <<دون غيرها>>.
وكذلك شكّل المجلس الأعلى للهيئات القضائية، برئاسة رئيس الجمهورية وينوب عنه وزير العدل، وضمّ إليه الرؤساء من رجال القضاء ومجلس الدولة، وكما ضمّ إليه من غير جهات القضاء كلاً من إدارة قضايا الدولة والنيابة الإدارية ويمثل كل منها رئيسها. وصار هذا المجلس مما يربط شؤون القضاة بوزارة العدل بوصفها ممثلة للسلطة التنفيذية.
هذه <<مذبحة القضاء>> جرت في 1969، وكانت تجربتها الأولى هي ما جرى في مجلس الدولة في 1955. لم يذكر كثيرون ما حدث في 1955 عندما يتكلمون عن حدث 1969، وذلك لسببين يبدوان لي، أحدهما أن مجلس الدولة مع أهمية رقابته القضائية على أعمال الحكومة فإن صغر حجمه النسبي وحداثة العهد به وقتها لم يكونا ليجعلاه ممثلاً للقضاء بعامة، سيما أن القضاء المصري بهيئات محاكمه ونادي قضاته لم يحركا ساكناً بالنسبة لهذه الضربة التي رأوها تطير رأس الذئب وحده، والسبب الآخر أن إنجازات ثورة 23 يوليو فيما تلا ذلك من أعوام من النواحي السياسية الوطنية والاجتماعية، غطت على الحادث وطواه النسيان المتعمّد، أما حادث 1969 فقد أصاب الجسم الرئيسي للقضاء وفروعه، كما أنه جاء في ظل موجة انكسار سياسي فلم تفلح في تغطيته بقايا الشرعية السياسية المهتزة.
وقد كان هذا الإجراء من أشد ما عانت منه سمعة ثورة 23 يوليو ونظامها السياسي من بعد، وشُنِّع به على سياسات الثورة الإيجابية الوطنية لما أريد العدول عن هذه السياسات ولما أريد اتباع سياسات <<التقليل>> من الاستقلال الوطني والسعي إلى الوقوع في براثن التبعية للولايات المتحدة الأميركية، وأنتج هذا الأمر أثره، فإن الهجوم على نظام 23 يوليو فيما فعله بالقضاء المصري في 1969 كان هجوماً واجباً، وهو حق، حتى وإن كان أريد به باطل، ولقد أريد به باطل فعلاً. فقد استغلت <<مذبحة القضاء>> في التشنيع على جملة السياسات الوطنية التي كانت متبعة من قبل، وساعد على ذلك طبعاً شبح الهزيمة المخيم منذ 1967، وكانت خطة النظام لما بعد 1970 أنه استمرار سياسي واقتصادي لنظام عبد الناصر، وأنه لا مخالفة إلا في الرغبة في تصحيح عيوب نظام الحكم، والحقيقة أن نظام ما بعد 1970 بنى نظاماً سياسيّاً واقتصاديّاً نقيضاً لنظام عبد الناصر. ولم يبق منه ولا شكل استمراراً له إلا في نظام الحكم الفردي حتى الآن. أي أنه هدم ما ادعى استبقاءه وأبقى ما ادّعى تصحيحه.
القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء (3)
سيطرة الثورة على أجهزة التنفيذ منعت التقاضي في بعض المجالات
طارق البشري
زادت <<مذبحة القضاء>> التي جرت في 1969 من تقويض الشرعية السياسية لنظام الحكم، وضربت معول هدم في بنيان كان المصريون قد نجحوا فعلاً على مدار ما يشارف القرن في بنائه على دعائم وطيدة. ولكن المشنّعين على ثورة 23 يوليو بهذا الإجراء من الساسة الذين حكموا مصر بعد الرئيس جمال عبد الناصر منذ 1970، لم يكونوا أحرص على استقلال القضاء ولا على حيدته. وقد عاد القضاة المفصولون بعد تباطؤ وتلكؤ، عاد البعض دون الآخرين بقانون صدر، ثم مورست ضغوط الرأي العام ورفعت الدعاوى وحكمت محكمة النقض للمستبعَدين، فصدر قانون آخر بإعادة الجميع، كما صدرت قوانين السلطة القضائية ومجلس الدولة في 1972، وأبقيا على هيمنة وزارة العدل على الهيئات القضائية من خلال المجلس الأعلى للهيئات القضائية، وأبقيا على دور وزارة العدل في وجوه إشراف فعالة ومؤثرة على القضاة والمحاكم.
كان ما فعله الرئيس أنور السادات في السبعينيات من إعادة القضاة وإلغاء قوانين منع التقاضي والإفراج عن المعتقلين السياسيين وردّ أموال من خضعوا للحراسة وغير ذلك، كان كل ذلك فيما يبدو لي نوعاً من اتباع نصيحة أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي لابنه المهدي عندما حلت المنية بأبي جعفر، قال لابنه ما معناه <<لقد كنت استصفيت أموالاً للناس، وجعلت في خزانتي ثبتاً بما استصفيت، فإذا توليت الخلافة فأعد للناس حبوسهم، حتى يبدو أنهم في عهد جديد>>. وإن أي حاكم يلجأ في بداية حكمه إلى هذا الأسلوب ليبدو للناس <<أنهم في عهد جديد>>. وإذا استقرأنا قوانيننا نلحظ أن أكثرها استقامة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم هو ما صدر منها في بدايات العهود، عهود الحكام.
ومن جهة أخرى، وبالنظر السياسي والتاريخي العام، وفي مجال المقارنة بين العمل السياسي قبل 1970 وبعدها، نلحظ أن الرئيس عبد الناصر كان كلما ضيّقت عليه الخناق وحاصرته يقفز إلى الأمام متحدياً، وإن الذي بعده كلما ضيّقت عليه الخناق وحاصرته قفز إلى الخلف متراجعاً. وكانت سياسات ما قبل 1970 تميل إلى المواجهة والدخول في المعارك المفتوحة والجهر بالفعل الممارس، وكانت تميل مع الخصوم إلى الضرب عزلاً أو اعتقالاً إلخ لا إلى الإفساد، وإلى تجميع السلطات جهاراً على خلاف سياسات ما بعد 1970 التي ترسم مؤسسات صورية وتجمع السلطة مع الالتفاف على المعاني وإفراغ ألفاظها من محتواها الحقيقي.
والحاصل في ظني، أن أسلوب المواجهة والمكافحة الصريحة، يجعل الأفراد يتجمّعون ويجعل الجماعة أكثر تماسكاً ويجعلها أقدر على الصمود والمقاومة، حتى لو كانت المواجهة قهراً وعدواناً، بينما أن أسلوب الإفساد والغواية يفرق الجماعات ويجعل المعارك فردية ويجعل ميدانها لا خارج النفس ولكن في داخل الجوانح والجوارح، وهو يحيل المعارك العامة إلى معارك ذاتية نفسية، ويحيل الجهير إلى خفي، أي يجعل صراع الإنسان لا مع شيء خارج جوارحه ولكنه يكون مع جوارحه نفسها.
لذلك، وبالنظر إلى نظام الدولة كله وعلاقات مؤسساتها بعضها ببعض، فإن الفارق المهم بين نظام حكم 23 يوليو والنظام الذي تلاه بعد 1970، هو فارق لا في طبيعة السلطة ذات التكوين الأحادي المندمج، ولا في الأسلوب الفردي في اتخاذ القرار، ولا في شخصية القيادة أي اندماج الوظيفة القيادية في شخص القائم بها، ولكن الفارق يكمن في الأدوات والوسائل التي ينكفل بها لدى القائمين بالأمور ضمان أحادية السلطة واندماجها رغم الشكل التعددي الذي تظهر به، وضمان استبقاء فردية القرار رغم المظهر التعددي الذي يتخذه، وضمان أن تصدر الإرادة الجماعية لأي مجلس أو هيئة معبرة عن المشيئة الفردية للجالس في صدر المجلس أو المتوسّد رئاسة الهيئة، وضمان هذا الالتحام الوثيق بين الشخص ووظيفته بحيث إنه لم يعد ما يميز الصالح الذاتي له عن الصالح الموضوعي الذي يتعين أن يبتغيه العمل المؤدّى.
فمثلاً كان نظام جمال عبد الناصر لا يقر شرعية وجود أحزاب متعددة، هكذا صراحة، ولكن النظام الذي تلاه يقر بالتعددية الحزبية ويعترف بها نظاماً قانونياً مشروعاً، ولكنه توسّل إلى إفراغ الأحزاب الموجودة من فاعليتها السياسية بقدر الإمكان، وصارت البضعة عشر حزباً القائمة علناً، بعضها موقوف أو مجمّد رسمياً، وبعضها لافتة على مقر دون فاعلية، وبعضها ملحق بالدولة وبعضها مضيّق عليه الخناق، وحرم من الوجود الشرعي ما يحدُّ من حركات حزبية يتوقع لها وجودُ فعليُّ وفاعلية حقة. والنظام هو نظام حزب واحد من الناحية الفعلية.
ومثلاً، كان المجلس النيابى القائم على السلطة التشريعية، في عهد عبد الناصر يوجد أحياناً ولا يوجد أحياناً أخرى، افتقد وجوده تسع سنوات من ثماني عشرة سنة، وعندما وجد لم يلحظ له أثر في رسم السياسات أو إقرارها، مقارناً ذلك بما يصدر عن رئاسة الجمهورية. أما في العهد الذي بعده، فقد وجد المجلس على الدوام على مدى ثلاثين سنة تلت، ولكن كانت ست عشرة سنة منها من عام 1984 إلى عام 2000 حكمت المحكمة الدستورية ببطلان تشكيل مجالس الشعب الأربعة التي شكّلت خلالها، ولم تطق الحكومة في أي منها معارضة لا تزيد على بضعة عشر أو بضعة وعشرين عضواً مما يجاوز أربعمئة من الأعضاء، ولا طاقت أن تصل المعارضة في عام 1987 إلى نحو 22% من الأعضاء وقرارات المجلس دائماً معدّة من قيادة الدولة التنفيذية، والحزب ذو الثبات والدوام فيه لثلاثين سنة هو حزب الحكومة بأغلبية لم تقل عن 90% إلا مرة واحدة قلّت إلى 78%. وتصنع في انتخاباته ما صار مجال طعون انتخابية تصل إلى المئات في كل مرة ولا يطبق من أحكام القضاء وقراراته بشأنه إلا حالات فردية رآها حزب الحكومة محققة لمصلحة رجاله.
فالمطلوب دائماً هو كيفية الإبقاء على الهياكل والمباني، مع الاستيعاب للوظائف والمعاني، وكيفية الإبقاء على الأشكال مع تفريغ المحتوى، وكان لهذه الأساليب ولما استخدم فيها من أدوات مساس بالسلوك الفردي والجماعي، مما أصاب التكوين المؤسسي بأنواع من الوهن وفقدان المناعة، والاعتياد على مجافاة القول للفعل وتآكل المعاني، وتسمية الأمور بغير أسمائها، وإطلاق الأسماء على غير مسمّياتها.
في هذا السياق التاريخي، وفي هذا الإطار السياسي التوظيفي، يمكن أن نقرأ الرسالة التي بعث بها الأستاذ الفاضل المستشار يحيى الرفاعي إلى نقابة المحامين، يعتزل بها المحاماة ويقرن ذلك بشهادته عما يراه وما يخشى منه بالنسبة لاستقلال القضاء والقضاة، مما هو حادث فعلاً.
أظهرت الرسالة ما يتعلق بعلاقة وزارة العدل بالهيئة القضائية، والدور الفعال الذي تقوم به الوزارة في هذا المجال. والسلطة التنفيذية بالنسبة للقضاء تتمثل في وزير العدل، والسلطات التي أناطها قانون السلطة القضائية بوزير العدل، هي سلطات للحكومة وجهات التنفيذ بالنسبة للقضاء، وطبقاً للقانون ذاته فإن وزير العدل هو من يندب من مستشاري محاكم الاستئناف من يتولون رئاسة المحاكم الابتدائية، بما يتيحه هذا المنصب لرئيس المحكمة الابتدائية من إمكانات عملية وقانونية ورقابية على القضاة، وبما يكفله منصب رئيس المحكمة الابتدائية من مزايا مادية وعينية لمن يتولاه. وإن رأي المجلس الأعلى للقضاء لا يلزم الوزارة في اختيارها رؤساء هذه المحاكم. ويذكر أن جرى العمل على دعوة القضاة لعرض قضاياهم المهمة على رئيس المحكمة بالمخالفة لما يقضي به الدستور والقانون.
كما ذكرت الرسالة أن التفتيش القضائي هو هيئة تابعة للوزارة، بما لها من سلطة الإشراف والرقابة على أعمال القضاة، وبما لها من نفوذ وأثر فعّال عليهم من حيث تقرير الأهلية والصلاحية والمساءلة وفحص الشكاوى والتحقيق واقتراح النقل والندب والترقية والتخطي. وإن الوزارة من خلال ما لها من سلطات ومن خلال رؤساء المحاكم وإدارة التفتيش الفني يمكنها التأثير في توزيع العمل على الدوائر. كما أشارت الرسالة إلى أن ثمة تمييزاً مالياً يجري بين رجال القضاء من خلال وزارة العدل عن طريق الحوافز ومكافآت العمل الإضافي ودورات التحكيم والكسب غير المشروع والمعالجات العلاجية والاجتماعية والمزايا العينية الأخرى، وغير ذلك مما أشارت إليه الرسالة.
ويهمني أن أوضح جملة من المسائل التي تبين ما في هذه الملاحظات من أهمية تمسّ صميم العمل القضائي، وهي تتعلق بكيفية نظر القاضي لقضية معينة، والمنهج الذي اتخذه القانون هو أن يضبط هذه المسألة على نحو موضوعي تستبعد منه، بأقصى قدر يستطيعه البشر، إمكانية أن يجري اختيار قاض بعينه لنظر دعوى بعينها. وهذا ما عرفه الدستور وعرفته القوانين بعبارة <<القاضي الطبيعي>>، أي القاضي الذي لا تختاره بذاته سلطة بذاتها لنظر قضية بذاتها.
ذلك أن رجال القضاء عندما يبدأون عملهم القضائي ويمارسونه مدة من الزمن، إنما تظهر وجوه التباين بين بعضهم البعض في أسلوب تناول الدعاوى وأسلوب تحقيق وقائعها وأسلوب فهم نصوص القانون وأسلوب التطبيق، يتباينون في إطار الالتزام بأحكام القانون وضوابطه، وفي حدود الحيدة والاستقلال الواجب توافره في النظر، يتباينون بين متشدّد ومخفف في وسائل الإثبات، ويتباينون في درجة ما يستلزمه الواحد منهم للتوصل لليقين أو الظن الراجح، ويتباينون في تفسير النصوص بين من يميل إلى الجمود أو الضبط، ومن يميل إلى المرونة، وأن القضايا تتقارب في مشاكلها وتتفاوت تفاوتات تقل وتزيد والمصالح تتفاوت وتتقارب أيضاً، ومن ثم يكون اختيار قاضٍ بعينه لنظر دعوى بعينها أمراً له أثر كبير في مصير الدعوى، وذلك كله مع الافتراض القانوني والقضائي الكامل بعدم التدخل أبداً في شؤون المحاكم والقضاء.
وينتج عن ذلك أن من يتمكن من اختيار من يعين لنظر دعوى بعينها، يكون كما لو كان <<بالتحكّم عن بعد>> قرّر مصير الدعوى، بغير تدخّل مباشر وبغير انتهاك لأي من مبادئ التقاضي المعترف بها قانوناً وواقعاً. وهذا ما حرص القانون وحرصت التقاليد القضائية على سد الذرائع أمام أي من احتمالاته. أما القانون فهو الذي يحدد اختصاص المحاكم، يرسم مستويات المحاكم من ابتدائية إلى استثنائية إلى عليا، ويرسم درجات التقاضي ويحدد الشروط الموضوعية لتولي القضاء في أي من ذلك، ويرسم إجراءات رفع الدعاوى، ويحدد النظام الإقليمي وهكذا، ولم يترك القانون لوزير العدل إلا إنشاء المحاكم الجزئية وتحديد اختصاصها الإقليمي، وهي ليست أدنى درجات التقاضي فقط، ولكنها أقلها أهمية من حيث الموضوعات التي تنظرها. والقانون كما نعرف يضع تحديداته في صيغ عامة ومجردة وأساليب موضوعية تصدق على الحالات الملموسة بالأوصاف الموضوعية التي تتوافر، وليس بذوات الحالات ولا ذوات أشخاصها.
ثم يبقى بعد ذلك، أنه مع الالتزام بكل الضوابط القانونية الموضوعية، فثمة محاكم بكل واحدة منها كثرة من القضاة تصل أحياناً إلى بضع مئات، ويتوزع العمل فيها دوائر ثلاثية أو خماسية تجاوز المئة أحياناً وتتوزع عليها قضايا تصل إلى الآلاف. فكيف يجرى توزيع نوعيات القضايا إلى الدوائر المكوّنة من أشخاص معينين؟ هذا التوزيع لا يتلاءم معه جمود النصوص التشريعية وثباتها، فهي تحتاج إلى مرونة وإلى قرارات تصدر كل سنة أو نحو ذلك. ألزم القانون أن تصدر القرارات في شأنها من الجمعية العمومية لقضاة كل محكمة. وأن تتحدّد نوعيات القضايا حسب تصنيف موضوعي لمضمونها وتتوزع الدوائر الكافية لنظر كل موضوع، مثل موضوع الإيجارات مثلاً، والعمال مثلاً، والتعويضات مثلاً، والجنح، وإلغاء القرارات الإدارية، والتأديب... إلخ. ثم يوزع القضاة أو المستشارون على هذه الدوائر بقرارات تصدر من الجمعية العمومية.
والجمعية العمومية للمحكمة تتكون من مجموع القضاة أو المستشارين بها. ومن ثم فالقرار الصادر منهم يصدر من مجموعهم ويتعلّق بمجموعهم أيضاً، فهم يصدرون القرار وهم موضوعه. ثم إن المعروف أنه كلما زاد عدد مصدري أي قرار قلت نسبة العنصر الذاتي في هذا القرار، ويفترض أن أقل نسبة للعنصر الذاتي تكون في قرار يصدره أصحاب الشأن جميعاً فيما يتعلق بشأنهم جميعاً. ونحن نلحظ أحياناً أنه إذا لم تجد الجمعيات معياراً موضوعياً لتوزيع قضايا بعينها بين أكثر من دائرة، قررت التوزيع وفقاً للأرقام الفردية والزوجية للقضايا، وذلك التزاماً بألا تتدخل مشيئة فردية في إيصال قضية بعينها إلى قاضٍ بعينه.
ويظهر من ذلك أن ثمة التزاماً قانونياً وعرفياً وقضائياً مفاده:
أن يجري تصنيف القضايا تصنيفاً موضوعياً يتعلّق بالأنواع والموضوعات وليس بذوات المتقاضين ولا بعين قضية معينة.
ألا يُختار قاضٍ معين لقضية بعينها.
ألا يتحدّد القاضي بذاته بعد أن تتحدّد قضية بذاتها من حيث الأطراف أو من حيث الموضوع.
أما بالنسبة للمزايا المادية، فإنه لا حاجة للتدليل على أن عنصراً من أهم عناصر ضمان النأي الواجب عن التأثير على القضاة هو وحدة المعاملة المالية والمعاملة الاجتماعية، والمساواة التامة بين ذوي المركز القانوني الواحد من القضاة، فلا يجوز أن يتميز قاض عن غيره ممن يساويه في الدرجة والأقدمية ومكان العمل. والحقيقة أن المرتبات وما يلحق بها من حوافز شهرية أو بدل قضاء أو بدل تمثيل أو غيره مما يلحق بالمرتبات فهو واحد وقراراته واحدة. ولكن وجه الملاحظة الواردة في رسالة المستشار الرفاعي يتعلق بما ينتدب إليه القضاة في لجان التحكيم والعمل الإضافي ولجان الكسب غير المشروع وكذلك ما أسمته <<أنواع المعاملة المالية والعلاجية والاجتماعية والمزايا العينية الأخرى>>. وأشارت إلى أن ثمة ما يصرف بالإرادة الفردية دون قواعد.
هذه الأمور التي أشارت إليها الرسالة، لا أدري كيف سكتت الهيئة التشريعية ممثلة في مجلس الشعب عن تقديم الاستجوابات بشأنها، وكيف لا يجري التقصي عن وجوه الصرف وأحواله وبنوده بوصفها بنوداً في الميزانية، وكيف لا يظهر من مراقبات الجهاز المركزي للمحاسبات وجوه هذا الأمر، وهي مراقبة تتعلّق بالوزارة بوصفها إحدى جهات السلطة التنفيذية، فهي ممارسة لا تتعلّق بالرقابة على القضاء.
على أنه في هذا المجال، ومما قد يعادله أهمية أو يزيد هو أمر الانتدابات التي تحدث للقضاة إلى الوزارات والهيئات العامة ووحدات الحكومة في كل المجالات.
ومما له أهمية أيضاً في هذا المجال ما هو معروف من تعيين البعض في وظائف المحافظين أو في غيرها، وتقرير معاشات استثنائية للبعض عند بلوغهم سن التقاعد، والقضاة يعرفون أمثلة في ذلك، والأولى صوناً لاستقلال القضاء ألا يعين قاض بوظيفة أخرى بعد تركه القضاء إلا بعد مضي ثلاث سنوات مثلاً على تركه القضاء، وألا يتقرر معاش استثنائي لقاض عند تركه القضاء إلا بعد عرض الأمر على جهات القضاء لتضع الضوابط بشأنه أو تكون هي من تقدر مدى الاستحقاق في هذا الشأن، وهي من يرقب حالاته.
وإنني أذكر أنه في 10 أغسطس 1926 وعند مناقشة ميزانية الدولة لعام 1925، لاحظ النائب الوفدي فخري عبد النور أن الحكومة رفعت راتب رئيس محكمة الاستئناف (لم تكن أنشئت محكمة النقض بعد) مئتي جنيه سنوياً بصفة شخصية فوصل الراتب إلى 2400 جنيه سنوياً، وكذلك فعلت مع أحد المستشارين. وذكر أن ذلك يعتبر افتئاتاً على استقلال القضاء وطلب حذف الزيادة صوناً لهذا الاستقلال. ودافعت الحكومة عن الزيادة باعتبار أن المرتبات كانت خفضت رسمياً وأن البعض نقل من وظيفة ذات راتب أعلى فاحتفظ له براتبه السابق، ومع ذلك لم يقتنع الأستاذ فخري عبد النور ونقل المسألة إلى المناقشة العامة باعتبارها مسألة تتعلق باستقلال القضاء، وأنه لا يجوز منح أية زيادة شخصية للقاضي.
وكان سعد زغلول هو رئيس مجلس النواب فقال: <<إن موضوع المناقشة وإن كان بالنسبة للمبالغ المراد حذفها غير مهم، إلا أنه مهم إلى الدرجة القصوى فيما يتعلّق باستقلال القضاء. يجب أن يكون القضاء مستقلاً، ولا يمكن أن يكون مستقلاً إلا إذا لم تتدخل فيه السلطة التنفيذية أو كان تدخلها قليلاً جداً>>.