العدالة الناجزة مسئولية القضاء ام الدولة
لا أحد ينكر على الاطلاق أن العدالة الناجزة هي أفضل تطبيق لمفهوم العدالة وأن الابطاء في تحقيقها هو الظلم عينه لكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن ويطرح نفسه عند كل حديث عنها هو المسئول عن تحقيقها ناجزة ؟
أهو القاضي أم الدولة ؟ أم أن كليهما شريك في تحقيقها وإذا كان كلاهما شريك في تحقيقها فهل يؤدي كل منهما دوره الملقى على عاتقه على الوجه الأكمل ؟
إنه مما لا شك فيه أن القاضي هو حجر الاساس الذي يقوم عليه بنيان العدالة فهو الذي يبعثها من العدم الى الوجود ويخرجها من الظلام الى النور ويحفزها من السكون الى الحراك وهو لكي يفعل ذلكلابد له من أدوات مادية يستعين بها في أداء رسالته ولابد له من نظم ملائمة تزيل ما يعترض طريقه من عقبات وتيسر له الوصول الى افضل أداء فهو ليس إلهاً يقول للشيء كن فيكون .
كما أنه ليس من الملائكة المقربين او له قدرات كتلك التي جُبل عليها الجن والشياطين وهو ليس من المرسلين الذين يتنزل عليهم الروح الامين لكنه بشر لايتحمل أكثر مما يطيقه البشر لايفعل المعجزات او ياتي بالكرامات ولا يمكن له بحال من الاحوال أن يحقق العدالة الناجزة دون أن توفر له الدولة الأدوات اللازمة والنظم الملائمة لتحقيقها .
فالقاضي ليس هو المسئول عن بناء المحاكم وتجهيزها وتعيين الموظفين الذين يعاونونه في أداء رسالته وتدريبهم كما أنه ليس هو المسئول عن وضع النظم التي تكفل جودة الاداء في جهاز العدالة وسرعته وتكفل التناسب بين عدد القضايا المطلوب إنجاز الفصل فيها في الزمن المحدد بما يضمن الارتقاء بالعمل القضائي الى اققصى مستويات الجودة والاتقان ويحصن القاضي من الزلل والخطأ بل أن الدولة هي المسئول الأوحد عن توفير الأدوات اللازمة والنظم الملائمة لتحقيق العدالة الناجزة ولو استطردنا في سرد ما ينبغي على الدولة توفيره منها ،لايستلزم ذلك جهداً كبيراً في إحصائه وعناء من القارئ في الإلمام به لكن حسبنا ما نقدمه ونركن اليه للوقوف على اهم المشكلات التي تواجه القاضي في سبيل أداء رسالته :-
فإذا كانت الدولة قد قامت ببناء وتحديث عدد من المحاكم فإنه لايزال عدد المحاكم التي تدير الدولة من خلالة السلطة القضائية عن طريق القضاة لايتناسب البته مع الزيادة المضطردة في عدد القضايا بسبب الزيادة السكانية المتنامية بمعدلات كبيرة وغير ذلك من العوامل التي نذكرها فيما بعد كما أن كثيراً من تلك المحاكم لايزال بحالة يرثى لها لاتصلح أن تكون بيوتاً للعدالة تليق بدولة عريقة كمصر ناهيك عن عجز النظم المتبعة في إدارة تلك المحاكم عن القضاء على البيروقراطية وعلى طرق الادارة القديمة التي لم تعد سارية الا عندنا وإحلال طرق الادارة الحديثة محلها بما يضمن منع التلاعب في شئون القضاء وسد الثغرات امام المتلاعبين .
وإذا كان عدد المحاكم وعتادها لايتناسب مع الزيادة المضطردة في عدد القضايا المطلوب انجاز الفصل فيها فإن عدد القضاة الذين يديرون السلطة القضائية في الدولة لايتناسب أيضاً مع الكم الهائل من القضايا والذي تتكدس به المحاكمة كل يوم بل أن الدولة بما استحدثته في قوانين جديدة وبما قامت به من تعديلات في القوانين القائمة وبما تصدره المحكمة الدستورية العليا كل يوم من احكام بعدم دستورية الكثير من مواد القانون تشكل عبئاً متزايداً على القاضي بما تتسبب فيه من زيادة هائلة في عدد القضايا المطروحة على القضاء يقف سواءً بسواء مع الزيادة الناجمة عن الزيادة السكانية ويلقي بالقاضي في خضم رهيب من التيه يكاد يتحسس طريقه في ظلام دامس ويمزق نفسه بين عمل لايجد الوقت الكافي لإنجازه ،وبين تلك المتغيرات المستحدثة التي ينبغي أن يحيط بها علماً والدولة التي لم تاخذ في حسابتها كل تلك الأمور وهي تحدث كل تلك المتغيرات تقف موقف المتفرج ولا تمد يد العون الى القاضي وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو من بعيد .
وليس الأمر كذلك فحسب بل أن الطين يزداد بلة إذا علمت أن الدولة تنحرف بمسلكها حين تتعامل مع المواطنين لتخرج عن احكام القانون والدستور فتارة تمتنع إعمال نصوصها وتارة تتعنت في تنفيذ ما يصدره القضاء من احكام واجبة النفاذ وكثيراً ما يقوم عمالها بجباية ما ليس مستحقاً من ضرائب و رسوم بالمخالفة للقوانين واللوائح المعمول بها وغير ذلك من صور سلوكها التي اصبحت معتادة للكافة غير خافية على أحد فيضطر اصحاب الحقوق والمظالم الى مقاضاتها بإقامة دعاوي أمام القضاء يختصمونها فيها بما يشكل عبئاً جديداً كان القضاء في غنى عنه لو أن الدولة تلتزم في مسلكها بما يفرضه عليها واجبها تجاة مواطنيها من انزال صحيح القانون على تعاملاتها معهم وكفالة احترام احكام القضاء الواجبة التنفيذ .
وكثيراً ما يلجأ المواطنون لتوثيق تصرفاتهم لاسيما الت يكون محلها حقوقاً عينية عقارية الى القضاء تهرباً من الرسوم الباهظة التي تفرضها قوانين الشهر والتوثيق فيستغلون القضاء للوصول الى مآربهم بإقامة دعاوي كدعاوي صحة التوقيع وصحة التعاقد وهم بذلك على الاقل يضفون قدراً من الرسمية على محرراتهم العرفية بافراغ مضمونها في احكام قضائية تقيهم مغبة الاجراءات المعقدة والرسوم الباهظة التي تفرضها عليهم قوانين الشهر والتوثيق وهذه الدعاوي لاتشكل منازاعات حقيقة وهي من الكثرة بما يشغل القضاء عن اداء وظيفته السامية في فض المنازاعات بين الناس بما يحفظ الامن والسلامة والطمانينة بينهم ، وعلى الرغم من أن الدولة تعلم ذلك المسلك من المواطنين للتهرب من اجراءات ورسوم الشهر والتوثيق الا انها تتمسك بالقوانين التي تنص عليها بل وتعض عليها بالنواجز فلا هي تقوم بالغائها أو بتعديلها على النحو الذي يمنع استخدام القضاء كوسيلة للتهرب منها ويثقل كاهله بسيل من الدعاوي لا ينقطع ولا هي تقدم العون اليه لكي يقوم بانجازها .
ولاينتهي الحديث عند هذا الحد فبالاضافة الى ما تقدم فإن الدولة لاتنتهج سياسة عادلة في توزيع ذلك الكم الضخم من القضايا على قضائها العاملين في حقل العدالة فقد فاجأتنا بقانون جديد يوسع من اختصاص المحاكم الجزئية التي يتكون تشكيلها من قاض واحد قيمياً ونوعياً وذلك على حساب المحاكم الكلية التي يتكون تشكيلها من ثلاثة قضاه من باب أن الواحد يعدل الثلاثة وأن ما لايقدر الثلاثة على فعله ينجزه الواحد بمفرده فضلاً عن سوء توزيع القضايا بين الدوائر العاملة بعضها البعض كماً وكيفاً وهذا لايمكن أن يتخيله عقل فهل يستطيع أن يعمل طبيب في كل فروع الطب ؟ وهل يستطيع أن يبحث عالم في كل فروع العلم؟ الا إذا عدنا الى عصر الفلاسفة وإذا قبلنا ذلك فهل يجد القاضي الوقت الكافي ليكون فيلسوفاً قاضياً ؟
إن الدولة تتنصل من مسئوليتها في انجاز العدالة وتلقي بها كاملة على عاتق القضاة ويطلب القائمون على رسم السياسة القضائية من القاضي افصل في قضايا يقدر عددها بالمئات والالوف في الجلسة الواحدة بما يفوق ما يفصل فيه القاضي في أي دولة من الدول اضعافاً كثيرة بل انهم يحاسبونه حساباً شديداً إذا مرض أو قرعت بابه ظروف طارئه حالت بينه وبين انجاز الكم الذي يرضون عنه والذي يفوق طاقات البشر .
وهي لاتهتم بما إذا كان ارتفاع الكم ياتي على حساب الكيف أم لا ؟ بل إنها لاتسأل كيف للقاضي أن ينجز عملاً كهذا يفصل في المئات والالوف من القضايا المطالب بالفصل فيها في زمن لايكاد يكفي للفصل في عدة قضايا ويكون عمله على أكمل وجهمن الدقة والاتقان تماماً كما يفعل الرجل يعطي زوجته بضعة جنيهات ويذهب الى عمله ثم يعود ليجدها قد اعدت له ما لذ وطاب من افخم واغلى انواع الاطعمة التي يُقدر ثمنها بمئات الجنيهات فيأكل ولا يسأل زوجته كيف اتت بالمال الذي اشترت به ذلك الطعام من حلال ام من حرام ؟
وعلى الرغم من أن القياس بين الدولة التي لايعنيها سوى الفصل في أكبر كم من القضايا دون النظر الى صحة ما يصدر من أحكام وبين الرجل الذي ينشغل بالتهام الطعام الذي اشترته زوجته من مال لايعلم مصدره عن السؤال عن كيفية حصولها على ذلك المال قياس مع الفارق الا أن أهم أوجه الشبه بينهما هو أن كلاً منهما يقبل احتمال وقوع الخطأ في سبيل تحقيق غاية ضررها اكبر من نفعها فالدولة تقبل احتمال صدور احكام خاطئة في سبيل تحقيق أعلى نسبة للفصل في القضايا بأي شكل كان والرجل يقبل احتمال حصول زوجته على المال الذي اشترت به الطعام عن طريق غير مشروع مقابل ما يحصل عليه من لذه أكل ذلك الطعام ،وخسارة المجتمع في المثالين فادحة لكن خسارته افدح بكثير في إهدار الدولة للعدالة بهذا الشكل وتسيس القضاء وفقاً لمبادئ ميكافيلية تنتهج مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ولاشك أن الخاسر الأول هو المواطن الذي ضاعت حقوقه ضحية تحقيق عدالة الكم على حساب عدالة الكيف التي تتخذها الدولة ذريعة للتدخل في شئون القضاء .
وإذا كانت الدولة تلقي بتبعة تراجع معدلات التنمية وغلاء الاسعار وتراجع سعر صرف الجنية المصري بالمقارنة بالعملات الاجنبية الاخرى وغير ذلك من المشكلات على ارتفاع معدلات الزيادة السكانية لتبرئ ساحتها أمام الشعب وتنفها عنها اي اتهام بالتقصير الا أن تلك الحجة داحضة إذا استخدمتها الدولة للتنصل من مسئوليتها في تحقيق العدالة الناجزة فمن ناحية هناك دول كثيرة يفوق عددها سكانها عدد سكان مصر الا ان تلك الدولة لاتتكدس محاكمها بالقضايا ولايتحمل قضائها نصف ما يتحمله القاضي المصري من عناء في العمل وتردي في أحوال المعيشة لانها امدت جهاز العدالة فيها بالادوات اللازمة والنظم الملائمة لانجاز العدالة ،ومن ناحية اخرى فإن العدل هو أساس الملك وناموس الحكم في الدولة فالاخلال بمقتضيات العدالة فيها هو أول مسمار يدق في نعشها ويؤدي لانهيارها وقد يستغرق ذلك الانهيار وقتاً يطول أو يقصر تبعاً لمدى الاخلال الحادث فيها وقد يحتاج الصامتون بعض الوقت كي يتكلموا مثل مايحتاج الماء من وقت لكي يصل الى درجة الغليان .
إن الدولة تطبق الديمقراطية من جانب واحد فهي تترك من يريد التعبير عن رايه يقول مايشاء وفي المقابل تصم اذنيها عن سماع مايقول ونعلم أن لها اذن من طين واخرى من عجين وهي إن ارادت أن تستشير احداً في مشكلة تتعلق بالصحة فقد تسأل مهندساً للري كذلك فإنها تستشير كل من ليس له صلة بالقضاء في حل مشاكله وذلك إن ادركت أن هناك مشاكل ينبغي ان تتصدى لحلها وهؤلاء الذين تستشيرهم في كل الامور هم فقط في نظرها العارفون بكل شئ الذين يعلمون ما لا تعلمه ويرون ما لا نراه فإذا كانت الدولة لا تريد أن تسمع من أحد فإني اترك الأمر الى الشعب ليقول كلمته التي لا يقدر أن يردها أحد فهو صاحب المصلحة الأولى في تحقيق العدالة الناجزة .
إن العدالة كل لايتجزأ وهي ملك للانسانية بأسرها وقد اصبح العالم في الوقت الراهن قرية صغيرة يتأذى ضمير الانسانية إذا انتهكت العدالة في بقعة منه بل أي مساس بها يعد إخلالاً بالامن والسلم الدوليين لان الانظمة التي لاتطبق مبادئ العدالة السليمة أرض خصبة للارهاب الذي اصبح ظاهرة عالمية ومن ثم فإن العدالة هي مسئولية المجتمع الدولي الذي لابد أن يقوم بواجبه من أجل كفالة تطبيق واحترام مبادئها وحماية استقلال القضاء وحيدته وكفالة حقوق القاضي وحمايته ولابد ان تبرم المعاهدات الدولية التي تنظم كل تلك الأمور وأن تولي تلك المعاهدات اهتماماً خاصاً بالقاضي باعتبار انه الحارس الأمين على العدالة على غرار ما فعله المجتمع الدولي فيما يتعلق بحقوق العمال ولاسيما أنه توجد دول كثيرة ليس للقضاة فيها نقابة تدافع عن حقوقهم وترعى مصالحهم ولايوجد في تلك الدول ما يحمي القضاة من افتئات الانظمة الحاكمة فيها عليهم ويجب أن تحدد تلك المعاهدات الكم المناسب من القضايا التي يقدر على نظرها والفصل فيها في الجلسة الواحدة والمقابل المادي الذي يحفظ كرامته وحيدته وغير ذلك من الأمور التي تيسر له رسالته العالمية السامية وترفع ما قد يقع عليه من ظلم فكيف يستطيع القاضي أن يرد المظالم الى اهلها ؟ ويعجز أن يرفع الظلم عن نفسه .
المستشار / عماد محمد أبوهاشم
رئيس محكمة البلينا الجزئية