تمهيد :
المقصود بالرائحة تلك الخاصية الطبيعية التى تنبعث من الشخص وتتخلف على متعلقاته ، ويمكن لحاسة الشم الغير عادية إدراكها فى وجود الشخص نفسه أو فى كل جسم يمسك به أو يمر عليه .
ومن أحدث الدراسات العلمية التعرف على الآثار عن طريق رائحتها ، فمن المعلوم أن الأشياء تفصح عن نفسها بطرق شتى ، وغالبا ما تلعب حاستى السمع والبصر فى نقل المعلومات والملاحظات للآخرين عن طريق إشارات تتلقاها العين والأذن ، كما يمكن للشىء أن ينبئ عن وجوده بطرق أخر وهو الرائحة ، فهى تنتقل فى صورة أبخرة يكفى أن يحمل الهواء قدراً ضئيلاً منها كى تحس بوجودها وتتبين طبيعتها ، هذه الأبخرة لا تتلاشى بسرعة – على عكس ما يحدث لإشارات الصوت والضوء – بل تبقى لساعات بل فى بعض الأحيان لأيام وقد تمتد لعدة أسابيع وأحيانا لفترة قد تطول عن ذلك بكثير .
الأساس العلمى لبصمة الرائحة :
إن الإحساس بالروائح يأتى عن طريق حاسة الشم ، فهى تنتقل فى صورة أبخرة ويكفى أن يحمل الهواء منها قدرا ضئيلا لكى تحس وجودها وتتبين طبيعتها ، ومن الحقائق الثابتة أن الأبخرة التى تنبعث من شىء ما تتألف من جملة مكونات مختلفة تختلف باختلاف مصادرها ، كما أنه من الثابت علميا أن أسطح الأشياء هى بطبيعتها حقل خصب لنمو الكائنات الدقيقة التى تتغذى على الماء والشوائب العالقة بالهواء وكذا على المواد العضوية التى تدخل فى تركيب هذه الأسطح ، كذلك فإن ما يميز هذه الكائنات الدقيقة يرجع إلى السطح الذى تعيش عليه وإلى البيئة المحيطة بهذا السطح ، وتعد الروائح المنبعثة من الناس والعرق من أبرز الأمثلة على ضرورة توافر الكائنات الدقيقة والشوائب العالقة بالهواء الجوى لكى تتوافر هذه الروائح .()
وتعتبر الرائحة البشرية نموذجاً خاصاً ومتميزاً للأثر المادى الذى يخلفه الجانى بمسرح الجريمة ، فمن الحقائق العلمية الراسخة أن لكل إنسان رائحة متميزة تختلف من شخص لأخر ، ولقد كانوا يعزونها إلى وجود مواد بروتينية غير معروفة التركيب فى العرق ولها خاصية التطاير يضاف إلى ذلك الرائحة الناتجة عن المواد المتطايرة التى تدخل فى إعداد الطعام اليومى للإنسان كالتوابل وخلافه وتفرز مع العرق ، وهناك رأى أخر يعزوها إلى البكتريا الموجودة على جسم الإنسان والتى تقوم بالتأثير على مادة اليوريا والمخلفات البروتينية الأخرى وتنتج من ذلك مواد متطايرة لها رائحة غير مرغوب فيها تلاحظ فى فصل الصيف عنها فى فصل الشتاء.
كما ثبت حديثا أن الرائحة المميزة للفرد ترجع إلى إفراز سائل ثقيل أبيض اللون عديم الرائحة يحتوى على مواد تتحلل بواسطة البكتيريا الموجودة على الجلد فى فترة تصل إلى أربعة وعشرين ساعة وينتج عنها مواد متطايرة ذات رائحة مميزة ، ويفرز هذا السائل من غدد معينة تعرف باسم APOCRINE GLANDS توجد مع الغدد العرقية (أو تفتح فى غلاف الشعرة) فى الطبقة السفلى من الجلد ، كما أنها لا تنشط إلا بعد البلوغ ، ونظرا لتفرد نوع البكتيريا المرتبطة بكل فرد على حدة فإن نواتج التحلل المتطايرة تكون لها خاصية منفردة هى الأخرى تميز كل فرد عن الأخر .()
ولقد أثبتت نظرية الرائحة صحتها عندما استغلت حاسة الشم لدى الكلاب البوليسية() فى شم الأثر المادى الذى يتركه الجانى بمحل الحادث() ، ثم تتبع رائحته وبالتالى التعرف على صاحبه ، فلقد أكدت التجارب أنه حينما تستقر القدم الآدمية على الأرض لمدة ثانية واحدة فإن كمية الرائحة المنبعثة من كل خطوة تبلغ ما بين مليون إلى ثلاثة ملايين مرة قدر الكمية الدنيا التى يمكن أن يتبينها الكلب ، كما يمكن له أن يشم الأشياء بعد مضى ستة أشهر على انفصالها عن صاحبها مادامت فى حرز حرير .
أجهزة قياس بصمة الرائحة :
إن تجربة استخدام الكلاب البوليسية تسمح بافتراض إمكانية التعرف على الجانى من خلال رائحته الخاصة ، ذلك أن اختلاف الروائح البشرية باختلاف الأشخاص يعتبر من الأمور التى تم إثباتها يقيناً ، ليس فقط بالاستناد إلى التجربة وحدها إنماً أيضا بواسطة بعض الأجهزة المتطورة ، بالإضافة إلى ذلك فقد تم إجراء بعض التحاليل للتعرف على الروائح البشرية بالتصوير الطيفى للكتل SPECTROGRAPHIE DEMASSE .
ولقد أمكن تصميم جهاز Caz – Chromatography للاستعاضة به عن أسلوب الكلاب البوليسية التقليدى ، وهو جهاز ذو فاعلية واضحة خاصة وأن الأبخرة المنبعثة من الأجسام لا تتلاشى إلا بمرور فترة طويلة قد تمتد إلى بضعة أشهر .()
كما تمكنت إحدى معاهد الأبحاث فى شيكاغو من إختراع جهاز يمكنه التحقق من وجود قنابل داخل الطائرات وأطلقوا عليه إسم (شمام القنابل) وتقوم فكرة هذا الجهاز على أساس أن المادة الفعالة فى صنع أغلب القنابل الموقوتة هى مادة الـ T.N.T التى تنبعث منها رائحة مميزة يصعب على الأنف العادية تمييزها .()
لذلك فإن التحقق من شخصية الجانى بالاستناد إلى رائحته قد تزايدت أهميته بفضل القاعدة العلمية الثابتة التى تقضى بأنه لا وجود لشخصين اثنين لهما رائحتان متطابقتان . فمن المعلوم جيداً أن كل كائن حى تفرز مسامه عرقا وأنه كلما ارتفعت درجة الحرارة ازدادت جزئيات الرائحة سرعةً وانتشاراً ، ولا يفوتنا أن ننوه إلى أن مصدر جزيئات الروائح لدى الإنسان يكون جسمه بكامله وليس أعضائه فقط مثلما كان يظن قديما ، هذه الجزيئات من الروائح تستقر على الأرض أو على الأشياء التى يلمسها الإنسان لمساً مباشراً . ومهما بلغت احتياطات الجانى وحذره فإنه لا مناص من أن يترك على المكان أثر رائحته الخاصة التى تميزه ، إذ أنه ليس بمقدوره القضاء على أثارها أو منع إفرازها – إن الإحساس بالروائح يأتى عن طريق الشم – فإذا كانت الأجهزة البصرية OPTICS تختص بالضوء والأجهزة السمعية ACOUSTICS تختص بالصوت ، فإن العلماء أجمعوا على إطلاق اصطلاح OLFACTRONICS على أجهزة كشف الرائحة.()
ولما كانت الأجهزة البصرية تستخدم للمرئيات وغير المرئيات بالنسبة للأشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء ، فإن أجهزة كشف الرائحة تستخدم كذلك فى كشف الأبخرة ذات الرائحة التى يمكن للأنف تمييزها وفى كشف الأبخرة عديمة الرائحة والتى لا يمكن تمييزها بحاسة الشم .
وهنا يجب أن ننوه إلى أن انعدام الإحساس بالرائحة لا يعنى بالضرورة عجز أجهزة كشف الرائحة عن القيام بعملها ، ما دامت هذه الأبخرة ـ ولو لم تحس برائحتها أو لأن درجة تركيزها لا تسمح للأنف بكشفها – لا تزال تنبعث بتركيز يكفى لكى تؤدى هذه الأجهزة مهمتها .
حجية بصمة الرائحة فى الإثبات الجنائى : ـ
لقد أثبتت نظرية الرائحة صحتها عندما استغلت حاسة الشم لدى الكلاب البوليسية فى شم الأثر المادى الذى يتركه الجانى بمسرح الجريمة .
وبالرغم من الاعتراضات التى وجهت لاستخدام الكلاب البوليسية فى مجال البحث الجنائى ، إلا أن محكمة النقض المصرية سجلت مشروعية استخدامها كوسيلة من وسائل الاستدلال للكشف عن الجريمة () ، كما قررت فى أكثر من حكم أن تعرف الكلب البوليسى لا يعدو أن يكون قرينة يصح الاستناد إليها فى تعزيز الأدلة القائمة فى الدعوى ، دون أن يؤخذ كدليل أساسى على ثبوت التهمة على المتهم فإن كانت المحكمة قد استندت إلى تعرف الكلب البوليسى كقرينة تعزز أدلة الإثبات التى أوردتها فإن استنادها إلى هذه القرينة لا يعيب الاستدلال .()
وعلة عدم جواز الاستناد إلى الاستعراف فى إثبات التهمة هو أن الأحكام الجنائية يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا على الظن والاحتمال .()
وتعرف الكلب البوليسى على المتهم ليس من إجراءات التحقيق التى يستلزم القانون بصددها شكلا خاصا() ، ولكن يجب إيضاح صلة المضبوطات التى شمها الكلب الشرطى – للتعرف على المتهم- بالحادث ، فلا يجوز أن تكون المضبوطات ملابس أو أشياء وجدت بمنزل المتهم ولم يستعملها وقت ارتكاب الحادث , وقضت محكمتنا العليا بأنه: " متى كان الحكم قد عول فى إدانة الطاعنين على تعرف الكلب الشرطى إذ قال - وثبت من تجربة الكلب الشرطى أنه تعرف على المتهمين الثلاثة بعد أن شم المضبوطات التى وجدت بمنزل المتهم الأول ، وكان الحكم لم يبين مدى صلة هذه المضبوطات التى وجدت بمنزل الطاعن الأول بالحادث حتى يستقيم دليله فيما انتهى إليه - فإنه يكون مشوبا بالقصور مما يعيبه بما يوجب نقضه .()
حجية بصمة الرائحة فى القانون المقارن :
إن فن التعرف على الروائح قد أثبت فاعلية حقيقية ، يتضح ذلك جليا من الإحصائيات الخاصة بقياس وتقييم مدى صلاحية هذه الطريقة من خلال التطبيقات العملية التى أجريت بشأنه ، حيث اتضح أن نسبة الخطأ فيها تتراوح بين (1%-2%).
ولقد استقر القضاء الأمريكى – حديثا – على قبول مشروعية الدليل الناتج عن إستعراف الكلب الشرطى بعد تردد ، وإن كان قد استلزم تعزيزه بأدلة أخرى ، بمعنى أن الإستعراف لا يقبل بمفرده فى الإثبات وبالتالى لا يعول عليه دون دليل أو أدلة أخرى تسانده .()
ولقد استخدمت طريقة حفظ الروائح والتعرف عليها فى مقاطعتين من مقاطعات جمهورية المجر الشعبية ، ونظراً لما تمخضت عنه هذه التجربة من نتائج إيجابية فقد امتد استخدام هذا المنهج تدريجياً إلى سائر المقاطعات وإلى العاصمة بودابست أيضاً.()
بيد أن بصمة الرائحة إن جاز لنا إطلاق هذا الاصطلاح عليها ، مازال عليها أن تجتاز العديد من المراحل الزمنية والعملية إذا تعين لها أن تصبح من بين الأدلة التى يمكن الاعتماد عليها أمام جهات التحقيق المختصة بمختلف دول العالم .