محاكمة جان دارك 2
هذه الجرأة ، تبديها فتاه بسيطه امام محكمة بهذه الضخامة وذاك المقام ، كلفت جان اجراءات مشددة في سجنها فيوم السبت في 17 اذار – مارس 1431 ، كان قد مضى عليها اسبوع كامل دون ان تخرج من زنزانتها . واذا ما أضيف هذا التشدد الى اجراءات اخرى عرفنا مدى ما تركه موقفها من اثر سئ في نفوس حاكميها . لقد نقلت الى سجن علماني يحرسه جنود انكليز . ومعروف كم حاربت دارك الانكليز . وهذا مخالف للقانون الذي يفرض على من يحاكم كنيسة ان يحجز في سجن كنسي . يضاف الى ذلك ان يجب ان تكون في سجن نسائي ومحروسة من قبل حراس من النساء . ومما يبرز التحيز ، هو انه لم يعين محام للدفاع عنها . ناهيك عن ان اتعاب هيئة المحكمة كانت على عاتق الانكليز دون سواهم . والفضيحة الكبرى في هذه القضية هي ان المحكمة أعلنت ، منذ انعقادها في الجلسة الاولى ، ان جان ستسلم الى الانكليز لتحاكم من قبلهم ، اذا ما قررت المحكمة تبرأتها . كل هذا يعني بوضوح ان المحاكمة برمتها ليست سوى تمثيله يراد بها تغطية الحقيقة وهي مطالبة الانكليز لرأس من اقسمت على اخراجهم من فرنسا .
الجلسه الان تعقد في زنزانة السجينة . وفيها تولى جان دي لافونتين الاستجواب مكان بوبير :
هل لك ان تقيمي حبك للكنيسة وخدماتك لها ؟
أحب الكنيسة واتفانى في دعمها بكل ما اوتيت من قوة ، وأود لو تسمحون لي بحضور القداديس . اما اعمالي ، فأترك لرب السماء تقييمها ، الرب الذي ارسلني الى شارل ، الملك الحقيقي لفرنسا ، وبالمناسبة أقول لكم ان الفرنسيين سينتصرون على الانكليز في معركة حاسمة . تذكروا اني قلت لكم ذلك يوماً .
هل تقبلين حكم الكنيسة مهما كان ؟
انا اقبل بحكم الرب . ولما كان الرب والكنيسة واحداً ، فلماذا نوقع انفسنا في متاهات السؤوال؟
هناك كنيسة مظفرة يذوب فيها الرب والقديسون والملائكة . وهناك كنيسة ملتزمة تشمل البابا والكرادلة والاساقفة . هذه الكنيسة معصومة عن اي خطأ لانها بأمره الروح القدس فهل تنصاعين للكنيسة الملتزمة ، الكنيسة الارضية ؟
سؤال محرج . هل ترد بالسلب وتعتبر خارجة على الكنيسة وتحاكم على هذا الاساس ؟
لقد فهمت المأزق . لكنها اختارت طريقها منذ وقت طويل .
لقد أرسلت الى ملك فرنسا من قبل الرب . والى الرب اقدم حساب ما فعلت وما سافعل .
هل تقبلين بالافصاح عما رفضت الافصاح عنه امام قداسة البابا ؟
بالتأكيد . خذوني امامه وسأقول له كل شيء.
كان الجواب واضحاً ومحكماً . لكن المرسوم هو ان تقاد جان دارك امام الانكليز وليس امام البابا . وهذا السؤال يدل على النية المبيته من قبل لافونتين :
هل يكره الرب الانكليز ؟
لا أعلم مشاعر الرب اتجاه الانجليز كل ما اعرفه هو انهم سيطردون من فرنسا ، باستثناء من سيموت منهم على ارضها .
من دفعك الرسم ملائكة بأذرع وأرجل وثياب ؟ هلى يظهرون عليك على هذه الصورة ؟
هكذا هم مرسومون في الكنيسة .
لماذا هم اثنان فقط ؟
لان رايه الجيش المهاجم للانجليز يقودها الرب بواسطة القديسة كاترين والقديسة مارغريت . اللتين قالتا لي : " تسلمي انت هذه الرايه باسم رب السماء " ؟
هل يعتمد الامل في النصر على الراية او عليك بالذات ؟
انه يعتمد على الرب .
لماذا كانت رايتك وحدك حاضرة عند تنصيب الملك وليست رايه سائر القواد ؟
لانها هي التي جاهدت . فهي اذا التي تستحق هذا التكريم .
هل تقبلين خلع لباسك العسكري ولبس ثوب نسائي للذهاب الى القداس ؟
اقبل . ولكني سأعيد بزتي العسكري واعود الى الجهاد حالما اخرج من الكنيسة .
هنا ، وقد اخذ الضيق مأخذه في نفس رئيس المحكمة ، أمر برفع الجلسة . وما هي الا لحظات حتى رأت جان دارك نفسها ثانية في زنزانتها وجهاً لوجه امام حراسها الانكليز .
ثلاثة اشهر مرت والفتاة حبيسة الزنزانة . ثلاثة اشهر عاشت فيها بعذاب نفسي وجسدي فلما أصاب سجيناً اخر . ومع ذلك ، فانها لم تركع . ولما كان يقتضي الانتهاء من هذه القضية خوفاً من تفاقمها وانعكاساتها ، فقد قررت جامعة باريس ، الملتئمة بكامل هيئتها في 15 ايار- ما يو 1431 ، ان تتبنى لائحة من اثنى عشر اتهامياً رئيساً. هذه اللائحة قدمت من قبل كوشون نفسه مرفقه بكتاب من ملك انكلترا . جميع هؤلاء وجهوا الى جان داراك تهمة الشعوذة والهرتقة والوثنية ، كما وجهوا اليها تهمة قتل الانكليز والتعطش للدم المسيحي .
وفي 23 ايار مايو ، طلب من المتهمة العودة عن " اخطائها وتصرفاتها المشينة " لكنها رفضت باصرار " حتى ولو رات النار التي سيحرقونها بها تشتعل " .
24 ايار – مايو في هذا اليوم كان كل شئ قد هي للحكم وللتنفيذ . الحكم بالموت حرقاً . واستكمالاً لفصول المهزلة ، دعي الناس لحضور الجريمة . وعلى رأس هؤلاء ، ملك انكلترا الحقيقي ، اسقف ونشستر وهيئة المحكمة . ومقابل المنصة الرئيسية ، منصة الشرف ، وقفت جان داراك .
بدأ " الاحتفال " بخطاب القاه في وجه المتهمة المحامي غليوم ، صديق كوشون الشخصي :
جان انت ساحرة ومهرتقة وخارجة على الكنيسة . وملكك الذي اراد استرجاع ملكه بواسطة امرأة هو ، في الواقع ، مثيلك . ثم أكمل بلهجة أكثر ليونة :
انا ارثي لحالك . عودي عن اقوالك والا ، فان الحكم سيكون قاسياً عليك .
انك تتعب نفسك كثيراً لتثني عن عزمى ولتحضني على انكار الحق .
هنا ، انبرى جاك كالو ، سكرتير ملك انجلترا ، وأخرج من كم سترته ورقة سطر عليها عليها بضعة أسطر ، هي الدليل على ان كل شئ قد هيء مسبقاً، صرخ غليوم ملتفتاً نحو جان :
وقعي على هذه الورقة والا فانك ستنتهين الى النار .
أذعنت جان بصوت ضعيف . لكن مفاجأة غير متوقعة حصلت . فقد ثار الانكليز الموجودون في المنصة على الرئيس كوشون نفسه وسائر اعضاء المحكمة متهمين اياهم بنقض الاتفاقية والخيانة: لقد اعتبروا ان الورقة التي عرضت على جان دراك للتوقيع ستؤدي ، عند توقيعها ، الى تبرئة المتهمة وعدم تسليمها الى الانكليز . ماذا كانت تحوي هذه الورقة التي وقعتها الفتاه المسكينة بعد ان شنت عليها حرب نفسية رهيبة ؟ انها اعترف منها بالشعوذة ونكران لسماعها صوت الرب كما انها تعهدت بالامتناع عن لبس الثياب العسكرية . أما كوشون ، العميل الامين الاسياده الانكليز ، فقد سارع ، عندما ثارت ثائرة هؤلاء الاسياد ، الى تطمينهم ، وامعاناً في ذلك فقد عجل في اصدار حكمه على جان داراك : السجن مدى الحياة على الخبز والماء لتغسيل خطاياها ولتكف عن اقتراف غيرها .