نقد و حدود مبدأ بطلان التكليف بالوفاء بالأجرة لتضمنه أجرة زائدة عما هو مستحق في ذمة المستأجر
تواتر قضاء محكمة النقض و استقر على أن :
" تكليف المستأجر بالوفاء بالأجرة ، شرط أساسي لقبول دعوى الإخلاء للتأخير في سدادها . خلو الدعوى منه أو وقوعه باطلاً . أثره . عدم قبول الدعوى . تعلق ذلك بالنظام العام . وجوب بيان الاجرة المستحقة المتأخرة في التكليف و أن لا تجاوز ما هو مستحق فعلاً في ذمة المستأجرو ألا تكون متنازعاً فيها جدياً ".
( الطعن رقم 1343 لسنة 68 ق – جلسة 7/2/2001 – مجلة المحاماة العدد الثاني – 2002 – ص 182 )
و التكليف بالوفاء بوضعه الذي تبنته محكمة النقض يثير عندي مسألتان هامتان في ظني ، تتعلق الأولى بنقد هذا المبدأ الخاص بعدم قبول الدعوى ارتكاناً إلى بطلان التكليف بالوفاء ، و المسألة الثانية بشأن مدى إطلاق القول ببطلان التكليف بالوفاء بالأجرة إذا جاوزت الأجرة المطلوبة ما هو مستحق فعلاً في ذمة المستأجر ، و ذلك ما أستعرضه بإيجاز شديد على النحو التالي :
أولاً : نقد مبدأ عدم قبول الدعوى لبطلان التكليف بالوفاء بالأجرة :
وجهة نظري المتواضعة في ذلك المبدأ- و التي تحتمل الخطأ و الصواب - أن التكليف في حد ذاته ضروري حتى لا يساق المستأجر المنتظم في السداد للمحكمة دون داع أو ذنب ارتكبه ، و ما في ذلك من تعريضه للحكم في الدعوى بالإخلاء ، أو حتى مخاطر الحكم به ، فضلاً عن إظهاره بمظهر الرجل المخل بالتزاماته أمام جيرانه و أقربائه و أصدقائه ، و هو ما ينال من حقه في الظهور أمام الناس بالسمعة الحسنة و الشخصية الموفية بالتزاماتها ، و هذا حقه و حق كل الأوفياء ، والتكليف يُثبت على الشخص المكلف امتناعه عن السداد رغم منحه مكنة السداد ( الخمسة عشر يوماً ) ، فإذا رفعت عليه الدعوى في هذه الحالة استحق القضاء بالإخلاء ما لم يتوقى الإخلاء بالسداد بشرائطه المقررة ، أما إذا خلت الدعوى من التكليف فيحق القضاء بعدم قبولها ، لأنه لا يوجد ما يدل على كون المستأجر ممتنعاً عن قصد غير مبرر من عدمه عن الوفاء بالأجرة المستحقة .
أما في حالة اشتمال التكليف بالوفاء على زيادة في الأجرة المستحقة ، فهنا يمكن القول أن مبدأ اعتبار التكليف في هذه الحالة باطلاً بطلاناً مطلقاً و ما يرتبه ذلك من القضاء بعدم قبول الدعوى هو مبدأ يشوبه التعسف في إجراءات التداعي ، فضلاً عما ينتج عنه من إطالة أمد التقاضي ، إذ يضطر المدعي إلى معاودة طرح الدعوى مرة أخرى على القضاء بعد تصحيح الخطأ الواقع في التكليف بالوفاء ، وكذا زيادة كلفة نفقات التقاضي ،و هو ما يتعارض مع ما كان ينص عليه الدستور في مادته الرقيمة 68 من أنه (... و تكفل الدولة تقريب جهات القضاء من المتقاضين و سرعة الفصل في القضايا.....) ، و هو ذات النص الذي تبناه الإعلان الدستوري الصادرعن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتاريخ 30/3/2011 ، كما يتنافي المبدأ المذكور مع المبدأ المستقر عليه فقهاً و قضاءً و هو الإقتصاد في النفقات و الإجراءات القضائية ، لا سيما و أن الزيادة في الأجرة يمكن دفعها بحساب حقيقتها من قبل المحكمة و المدعى عليه ، و الزام المستأجر بها دون زيادة ، و لا غضاضة في ذلك ، لأن هذا التثبت من حقيقة الأجرة هو الأمر الجوهري الذي يبنى عليه الحكم الصادر في الدعوى ، و بذل المحكمة جهداً في هذه الحالة لا ضرر منه ، و ليس أمراً جديداً عليها ، فكم من الدعاوى يقدم فيها التكليف مستوفياً شرائطه المتطلبة فيه ، و مع ذلك ينازع المستأجر في حقيقة الـأجرة ، فهنا و وفقاً لما استقر عليه قضاء النقض يتعين على محكمة الموضوع بحث هذا النزاع الفرعي قبل القضاء في موضوع الدعوى .
لا يبقى إلا القول بأن مواجهة مبدأ محكمة النقض المشار إليه سلفاً تكمن مواجهته عن طريق الرأي ، من خلال الطعون التي تصل لمحكمة النقض المتعلقة بهذا الميدأ ، بتوضيح وجهة النظر تلك ، عساها أن تقتنع به ، و هو أمر ليس عليها ببعيد ‘ لأنها تملك قانوناً حق الرجوع عن المبادئ التي ترى أنها لم تكن موفقة فيها و ذلك في إطار الإجراءات المقررة في القانون .
مدى إمكانية الدفع بعدم دستورية مبدأ عدم قبول الدعوى لبطلان التكليف بالوفاء بالاجرة :
و قد يتبادر إلى ذهن البعض إمكانية الدفع بعدم دستورية المبدأ سالف الذكرمحل النقد الراهن ، و هو ما قيل فعلاً على لسان بعض السادة الزملاء ، و هو ما اضطرني إلى التعليق عليه في هذا المقام .
من الأهمية بمكان ضرورة التنبه إلى أن الرقابة الدستورية محلها النصوص الواردة في القوانين و اللوائح ، حين يشوب تلك النصوص شبهة المخالفة لأحكام الدستور ، أما الأخطاء أو المخالفات التي تخالط المبادئ القضائية الصادرة من الجهات القضائية القائمة على تطبيق القانون ، أو تفسيرات النصوص الصادرة عن الجهات القائمة على تنفيذه ، فليس محلاً للرقابة الدستورية ، فالمحكمة الدستورية تحاكم نصوصاً كما أوردها المشرع ، و ليس مفهوم تلك النصوص لدي البعض .
و قد قضت المحكمة الدستورية العليا في ذلك بأن :
" المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الخطأ في تأويل أو تطبيق النصوص القانونية لا يوقعها في حمأة المخالفة الدستورية إذا كانت صحيحة في ذاتها ، و أن الفصل في دستورية النصوص القانونية المدعى مخالفتها للدستور ، لا يتصل بكيفية تطبيقه عملا، و لا بالصورة التي فهمها القائمون على تنفيذها ، و إنما مرد اتفاقها مع الدستور أو خروجها عليه إلى الضوابط التي فرضها الدستور على الأعمال التشريعية جميعاً ".
الحكم الصادر في الدعوى رقم 215 لسنة 26 ق "دستورية" – جلسة 4/5/2008 ، و الحكم الصادر في الدعوى رقم 121 لسنة 18 ق "دستورية "- جلسة 7/3/1998 .
كما قضت محكمة النقض بأن :
" النص في المادتين 29 ، 49 من القانون رقم 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا يدل على أن مهمة المحكمة الدستورية مقصورة في مقام مراقبة الدستورية على نصوص القوانين و اللوائح ، و لا يتعداها إلى مراقبة دستورية المبادئ القضائية و الإجتهادات القانونية ".
الطعن رقم 1006 لسنة72 ق – جلسة 24/3/2003
و ترتيباً على ما تقدم ، فإنه لما كان بطلان التكليف بالوفاء لتضمنه أجرة تجاوز المستحق فعلاً في ذمة المستأجر هو مبدأ قضائي سنته محكمة النقض اجتهاداً منها في تفسير و تحديد مفهوم الفقرة ب من المادة رقم 18 من القانون رقم 136 لسنة 1981 و ليس نصاً قانونياً ، إذ كل ما تطلبه نص الفقرة المذكورة هو عدم قيام المستاجر ( بالوفاء بالأجرة المستحقة خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ تكليفه بالوفاء ..) الأمر الذي لا يجوز معه الدفع بعدم دستورية ذلك المبدأ ، كما لا يجوز تبعاً لذلك القول بوجود تمييز غير مبرر بين هذا المبدأ و بين منح المستأجر مكنة سداد الأجرة حتى قفل باب المرافعة و لو أمام محكمة الإستئناف ، لأن المبدأ الأول كما سبق القول مجرد مبدأ قضائي و ليس نص ، و العبرة في التمييز غير المبرر أن يكون صادراً من المشرع في صورة نص قانوني أو لائحي ، في حين أن المبدأ صادر من جهة قضائية ، فحتى يتوافر هذا التميير التحكمي كما تسميه المحكمة الدستورية العليا يجب أن ينسب إلى المشرع ، و هو ما لا يتوافر في حالتنا ، فضلاً عن أن التمييز غير المبرر يفترض عينية الحق الذي وقع بشأنه ذلك التمييز ، يحيث يكون حقاً أو أمراً واحداً منح للبعض و حجب عن آخرين على الرغم من توافر شرائط إعماله في الطائفتين ، و مثال ذلك قضاء المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الخامسة من المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991 من تحديد حد اقصى للمكافأة السنوية التي يتقاضاها أعضاء مجلس الإدارة المنتخبون ، في حين أن أعضاء المجلس المعينين يتقاضونها دون حد أقصى , و المسألة الراهنة تنطوي على القاعدتين السابقتين المدعى التمييز بشأنهما ، حين أنهما متغايرتان من حيث مضمونهما ، و لكل منهما مجاله عند التطبيق ، و إن جمعهما وحدة نزاع واحد .
ثانياً : اتجاه محكمة النقض إلى التخفيف من مبدأ بطلان التكليف بالوفاء :
يبدو لي أن محكمة النقض قد استشرفت الخطرلذي قد يداهم المدعي حال انطواء التكليف بالوفاء على المطالبة بأجرة تجاوز ما هو مستحق فعلاً في ذمة المستأجر ، حيث تبين من مطالعة بعض أحكامها اتجاهها نحو التخفيف من حدة هذا المبدأ ، و يظهر هذا التخفيف من استعراض بعض مبادئها في هذا الشأن ، وفقاً لما يلي :
(1) وضعت محكمة النقض مبدأ هاماً في صالح المؤجر ، إذ اكتفت في التكليف بالوفاء بالأجرة أن يشتمل على مقدارها الذي يعتقد المؤجر استحقاقها ، و لكنها لم تطلق هذا الاعتقاد من القيد ، و إلا لادعى كل مؤجر هذا الاعتقاد ، و إنما اشترطت أن يكون الاعتقاد مبنياً على سبب معقول من الواقع أو القانون أدى بالمؤجر إلى اعتقاده باستحقاقه للأجرة التي يطالب بها في التكليف بالوفاء ، و هذا الاعتقاد و أسبابه تخضع و لا مراء للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع في تقديرالأدلة حسبما تستخلصه من ظروف الدعوى وملابساتها .
فقد قضت محكمة النقض بأن :
" التكليف بالوفاء ز المقصود به . كفاية ذكر مقدارالأجرة التي يعتقد المؤجرأن ذمة المستأجرمشغولة بها ولو ثبت بعد ذلك أنها أقل من المقدارالوارد في التكليف . عدم وقوعه باطلاً طالما كان اعتقاد المؤجر مبنياً على اساس من الواقع أو القانون ، التكليف بأجرة مسددة و ثبوت علم المؤجر بهذا السداد . أثره . بطلان التكليف ".
( الطعن رقم 2993 لسنة 72 ق – جلسة 21/4/2004 ، نقض في 21/1/1993 – السنة 44 ع 1 ص 285 – مجلة المحاماة العدد الرابع – ص 314 )
و يندرج تحت لواء هذا العذر الذي التمسته محكمة النقض للمؤجر و لم تقض فيه ببطلان التكليف بالوفاء ، حال ما إذا كان المؤجر قد جهل أو خفي عليه أمر من شأن ثبوت علمه به و سريانه في حقه التأثيرفي تحديد مقدار القيمة الإيجارية بالنقصان لصالح المستأجر ، بحيث إذا ثبت ذلك قبله اعتبر التكليف بالوفاء باطلاً .
فقد قضت محكمة النقض بأن :
" تمسك الطاعن بعدم علمه بتقاضي البائع له مقدم إيجار أو التزامه به لخلو عقد الإيجارمن الإشارة إليه أو قبوله لهذا الدين . دفاع جوهري . قضاء الحكم المطعون فيه بعدم قبول الدعوى لتضمين التكليف بالوفاء مبالغ تزيد عن الأجرة المستحقة بعد خصم قسط مقدم الإيجارالمدفوع باعتبارالطاعن خلفاً خاصاً للبائع له دون تمحيص هذا الدفاع و استظهارشروط الخلافة . قصور ".
( الطعن رقم 4003 لسنة 65 ق – جلسة 21/6/2001 – مجلة المحاماة العدد الثاني 2002 – ص 183 )
(2) تسامحت محكمة النقض مع المؤجر حال حدوث مجرد خطأ حسابي محض في تحديد مقدار الأجرة ، و مقصود ذلك أن يكون المؤجر قد التزم الأسس القانونية الصحيحة في احتساب الأجرة المطالب بها ، و لكنه حال حسابها أصابه الخطأ في تحديد مقدارها .
و في ذلك قضت محكمة النقض بأن :
" إذ كان الثابت من ورقة التكليف بالوفاء المعلنة للطاعن الثالث بتاريخ / / أنها تضمنت المطالبة بسداد الأجرة عن المدة من أول ينايرسنة 1999 حتى آخريولية سنة 1999 و جملتها 5ر31 جنيه بواقع 5ر4 جنيه شهرياً ، و هي الأجرة الواردة بعقد الإيجارالمؤرخ 21/10/1998 و لم يثبت تعديلها زيادة أو نقصاناً ، و لئن تضمن التكليف بالوفاء المطالبة برسم النظافة بواقع 2% من الأجرة المطالب بها فلا يبطله تجاوز المبلغ المستحق بتسعة قروش نتيجة خطأ حسابي محض ، ذلك أن أجرة العين المؤجرة لكلا الطاعنين ليست محل منازعة جدية بين الطرفين ، و إذ اعتد الحكم المطعون فيه بالتكليف بالوفاء المعلن لكل من الطاعنين لصحتهما و رتب على ذلك قضاءه بالاخلاء فإن النعي عليه بهذا السبب يضحى على غيرأساس متعيناً رفضه " .
( الطعن رقم 2216 لسنة 72 ق – جلسة 20/11/2003 – مجلة المحاماة - العدد الرابع – ص 313 )
فإذا قام المؤجر باحتساب الأجرة على أسس غير قانونية أو مخالفة لصحيح القانون ، فلا يعد ذلك خطأ حسابياً ، و بالتالي يحق مؤاخذته بهذا الخطأ غير المغتفر.
فقد قضت محكمة النقض بأن :
" تكليف الطاعن بالوفاء بالأجرة شاملة الزيادة في القيمة الإيجارية المنصوص عليها في المادة السابعة على أساس الأجرة الواردة بعقد الإيجاردون حسابها على أساس القيمة المتخذة أساساً لحساب الضريبة على العقارات في ذات وقت إنشاء العين . خطأ ".
( الطعن رقم 7498 لسنة 64 ق – جلسة 25/10/2000 – مجلة المحاماة العدد الثاني 2002 – ص 183 )
هذا ما من به العزيز المنان ، و له الحمد و الشكر
أشرف سعد الدين المحامي بالإسكندرية