وقال أبو عبيدة: قال المهلب لبنيه في وصيته: يا بني، لا تقوموا في الأسواق إلا على زرَّاد أو ورَّاق. وحدثني صديق لي قال: قرأت على شيخ شامي كتاباً فيه من مآثر غطفان، فقال: ذهبت المكارم إلا من الكتب. وسمعت الحسن اللؤلؤي يقول: غبرت أربعين عاماً ما قلت ولا بت ولا اتكأت، إلا والكتاب موضوع على صدري. وقال ابن الجهم : إذا غشيني النعاس في غير وقت نوم -وبئس الشيء النوم الفاضل عن الحاجة- تناولت كتاباً من كتب الحكم، فأجد اهتزازي للفوائد، والأريحية التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة، والذي يغشى قلبي من سرور الاستبانة، وعز التبين أشد إيقاظاً من نهيق الحمير، وهدّة الهدم.وقال ابن الجهم : إذا استحسنت الكتاب واستجدته، ورجوت منه الفائدة، ورأيت ذلك فيه، فلو تراني وأنا ساعة بعد ساعة أنظر كم بقي من ورقه مخافة استنفاده، وانقطاع المادة من قلبه، وإن كان المصحف عظيم الحجم كثير الورق، كثير العدد فقد تم عيشي وكمل سروري.وذكر العتبي كتاباً لبعض القدماء فقال: لولا طوله وكثرة ورقه لنسخته. فقال ابن الجهم : لكني ما رغبني فيه إلا الذي زهدك فيه، وما قرأت قط كتاباً كبيراً فأخلاني من فائدة، وما أحصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منها كما دخلت!.
وأجل الكتب وأشرفها وأرفعها: ((كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)).


الكتاب والمطالعة
يقول أحد المفكرين المعاصرين : " إن في قراءة الكتب لذة ومتعة ولكن إذا كانت القراءة في الكتب نشوة وإمتاعاً فإن من أمتع اللذات :الحديث عن الكتب"
والحديث عن الكتب - عند من يعرفون للفكر الرفيع قيمته- هو ألذّ من حديث الحسان الذي قال فيه الشاعر العربي:
وحديثها السحر الحلال لو أنه ميجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت‏ ودّ المحدث أنها لم توجز
والحق أن اللذاذة التي يجدها الإنسان في المطالعة وإدمان الصحبة للكتاب هي لذة دائمة متزايدة تنمو مع الزمن وتتكاثر مع تقدم العمر ولعلها اللذة الوحيدة في العالم التي لا تتناقض على مر الأيام كلذة الطعام وشهوة الأكل التي تتناقص مع تزايد الأعمار .
وميلاد كتاب جديد هو -في الحق- مولد لفكرة جديدة وقد تكون الفكرة الجديدة غريبة أو قد تكون تكراراً لفكرة قديمة أو قد تكون ثورة في عالم الفكر أو قد تكون مولوداً ناقص التكوين أو قد تكون عملاقاً جباراً وهي جديرة على أية حال بأن يعرف الناس كيف نشأت في ذهن المؤلف? وكيف تطورت في تفكيره حتى استحالت إلى ما صارت إليه وربما أثارت مسائل وقضايا تستحق النظر .
ومن ثم صدق أبو الطيب المتنبي في قوله : (وخير جليس في الزمان كتاب) لأنه يمدنا بالأفكار الجديدة وهو مأمون الأذى والملل ولا يحتاج في مجالسته إلى تحرز ولا كلفة .
والكتاب الجيد يفقد جنسية مؤلفه ويكتسب عالمية رحيبة الآفاق لا حدود لها ولا تخوم ولا يختص به قوم دون قوم وإن العرب أسبق الأمم إلى بيان قيمة المعرفة وفضل الكتب وفائدة القراءة ولعل الجاحظ من أقدم مؤلفينا العرب في اختصاص الكتب بحديث طويل حيث نجد في صدر كتابه "الحيوان" كلاماً جيداً على الكتاب وفضله وشرائط الترجمة ومشقة تصحيح الكتب وتنقيحها ومما قاله في ذلك ‏ "الكتاب وعاء ملئ علماً, وظرف حشي ظرفاً وإناء شحن مزحاً وجداً ... والكتاب نعم الأنيس ساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة, ونعم القرين والدخيل ونعم الوزير والنزيل" وقرأت في معجم الأدباء لياقوت الحموي أن أحد الأمراء أرسل غلامه إلى العالم اللغوي ابن الأعرابي يسأله المجيء إليه فعاد إليه الغلام قائلاً: قد سألته ذلك فقال لي: عندي قوم من الأعراب فإذا قضيت حوائجي معهم أتيت وتابع الغلام قائلاً للأمير : ولكن لم أر عنده أحداً إلا أني رأيت بين يديه كتباً ينظر فيها ويقرأ .
ولم يلبث ابن الأعرابي أن جاء فقال له الأمير: إن غلامي ما رأى عندك أحداً وقد ذكرت له أنك مع قوم من الأعراب فإذا قضيت أربك معهم أتيت فأنشد ابن الأعرابي الأبيات التالية التي تدل على أنه عنى بالقوم من الأعراب تلك الكتب التي كانت بين يديه:‏
لنا جلساء ما نملّ حديثهم ألبّاء مأمونون غيباً ومشهدا‏
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
فلا فتنة نخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا
وهكذا فالكتب هي تجارب البشرية في سلسلة تاريخها الطويل والقارئ يجمع هذه التجارب ويؤلف بينها فيضيف بذلك أعماراً إلى عمره مستخرجاً من ذلك ألواناً من الثقافة والمعرفة إلى جانب وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة
.