* نسج العنكبوت نسيجه. فألقي بالظلال. وأسرعت الحمامتان فصنعتا عشًّا واستراحتا فيه.. وبدا الغار كما لو كان مكاناً مهجوراً. لا ينبئ عن حياة. ولا يسمح لآدمي بالدخول إليه والرسول صلي الله عليه وسلم يطمْئن أبا بكر صاحبه في
الرحلة قائلاً: لا تحزن إن الله معنا..
وحين سكن الناس قليلاً. وجاءته الراحلة. ارتحل النبي وصاحبه في اتجاه المدينة حتي وصل بعد مشقة كبيرة إلي تخوم المكان. ليجد المسلمين في المدينة ينتظرونه وقد أخذهم الشوق إليه. والرغبة القوية في رؤيته والاستماع إليه.
وعرف أهل المدينة فخرجوا للترحيب بمحمد. وأحاطوا به جميعاً مسلمين. ويهوداً ومشركين كما يقول دكتور حسين هيكل "وكل يخفق قلبه خفقاناً مختلفا عن غيره باختلاف ما يجول بنفسه إزاء القادم العظيم".
وتآخي المسلمون والأنصار فازدادت وحدة المسلمين.
والرسول وهو يبني المجتمع الإسلامي الجديد.. ويرسي قواعده ويحدد أهدافه. وينشر تعاليمه. ويوحِّد صفوفه واجه تجمعات لم تسْتطع إخفاءَ عدائها.. فها هو المنافق الكبير عبدالله بن أبي بن سلول الذي استبدَّ به الحقد. جمع حوله أتباعه. وأشاع ما يفْسد العلاقة بين محمد وأهل المدينة.. وجماعات اليهود بما تملك من مال وحدائق لم تخْف عداءها للنبي بعدما عجزتْ عن استمالته والتأثير فيه. وارتكانه إليهم في مواجهة الجماعات الأخري.. وقد كانوا يشيعون في خبث أن الرسول معهم. وأنه جاء مؤازراً. وكانوا يُخيفون أهل المدينة بما يشيعونه كذباً.
ومحمد صلي الله عليه وسلم وهو يسعي إلي إقامة المجتمع الإسلامي الجديد في بيئته الجديدة. حرص علي أن يعاهد الجميع في كتابه الذي حدَّد فيه العهود والمواثيق والشروط.. وفي هذه الوثيقة تجلَّي حرص الرسول علي "حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة المدينة وحرمة الحياة وحرمة المال وتحريم الجريمة".. وكانت بهذا المعني فتحاً في السياسة والدين معاً.. حتي أضْحتْ المدينة وما حولها حرماً آمناً.
وكان صلي الله عليه وسلم وهو يبني هذا البناء يعلم أن قريشاً لا تزال علي عدائها القديم.. وأنها تنتهز فرصة مواتية للنيْل من الدين.. فقد حزّ في نفسها أن ينجو محمد من قبضتها.
وحرص الرسول صلي الله عليه وسلم علي تجسيد عنصر الإخاء الإنساني. واعتبر أن إيمان المرء لا يكتمل حتي يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه. وحتي يصل الإخاء "إلي غاية البر والرحمة". فيتحقق العدل وتسود المساواة. والدين الذي تحمَّل المسلمون في سبيله كثيراً من الأذي لا يُقر الضعف. ولا يعترف بالاستكانة. بل يفرض علي أتباعه العمل علي إعلاء شأنه والدفاع عنه عبر حماية النفس والمال وحرية العقيدة وتأمين الوطن / الأمة من غوائل الأعداء.
هذا الوطن الجديد انصهرت فيه العناصر البشرية من الأنصار "الأوس والخزرج" والمهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم.. من أجل العقيدة.. وكشأن المجتمعات ذات السيادة نشأت علاقات بين دولة الإسلام في المدينة وغيرها من المجتمعات الأخري والعناصر المختلفة.. كالفئات ذات الطابع الديني المغاير.
ولقد استمدت تلك العلاقات قوتها ورسوخها من الدعوة إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة مصداقاً لقوله تعالي "ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" كما استمدتها من القاعدة الأساسية في تكوين الدولة وبقائها وهي قاعدة الدفاع عن العقيدة والوطن.. إذ إن انتهاك ذلك يؤدي إلي مشروعية القتال.
وهذا الامتزاج بين خطي الدولة / العقيدة / والعناصر الحاكمة والمنظمة يعني أن الدين الإسلامي له بُعْدان أساسيان هما / الدين / والدولة.. وكان صلي الله عليه وسلم رجل دولة من الطراز الأول فضلاً علي نبوته ودعوته إلي الإسلام.
والإسلام دين الفطرة. ومن ثم فهو دين الحق والعدل والنظام.. وهي أسس بناء الدولة. والحروب تدخل في فطرة البشر مادام الدفاع عن النفس والدين والمال والعرض أمراً مشروعاً وفطرياً أيضاً.. وحتي نهذِّب فكرة الحرب الفطْريَة إن صح التعبير علينا أن نضع لها قوانينها التي تحكمها وهي القوانين التي جاء بها الإسلام إذ أباح الدين الحرب دفاعاً عن القيم حتي يتحقق للبشرية "اتصال تطورها في سبيل الخير والكمال".. قال صلي الله عليه وسلم إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا.