زراعة الحكمه فى راس الجحش
الوقت صباحا, ولفت نظري إلي الجحش المعلم عكاشة الجزار قال:
ـ جحش صغير مربوط في حجرة البواب ياباشا.
كنت أهم بركوب السيارة, فتوقفت, ونظرت إلي يميني, ورأيت جحشا صغيرا يقف هادئا إلي جوار الحائط بعيدا عن باب العمارة.
أكمل المعلم عكاشة حكايته, قال:
ـ الجحش مربوط في سرير البواب في داخل الغرفة, ويشد البواب الحبل من داخل الغرفة ويداعب الجحش, وفي الليل, يمسك البواب بالحبل في يده وينام مطمئنا
لعدم سرقة الجحش. قلت ضاحكا:
ـ واذا قطع لص الحبل وسرق الجحش؟
قال عكاشة الجزار:
ـ إذا اقترب أحد من الجحش, ينطلق الجحش في النهيق وطلب العون, فيستيقظ أهل الشارع, هذا جحش مدرب في سيرك ويحمل شهادات, وليس عمالة زائدة مثل البواب, جحش من طبقة ملوك الحمير.
سألت:
ـ وهل الحمير طبقات ياعكاشة؟
قال:
ـ طبعا ياباشا. وطبقاتها مرسومة وموصوفة في الكتب.
سألت عكاشة:
ـ عندك كتب عن الحمير ياعكاشة؟
أجاب في زهو: طبعا
أدار السائق السيارة, وطلبت من عكاشة رؤية هذا الكتاب عند قدومي, فأنا زبون عنده أبا عن جد, ولايصح إخفاء كنوزه الثقافية عني, فرؤية هذا الكتاب, ان صح كلامه, أهم عندي من عشرة كيلو لحمة مشفية دون عظام أو دهون وتركته واقفا يفكر. وانطلقت بي السيارة إلي وسط البلد.
قال لي السائق: صدقه ياباشا, هذه كتب نادرة, وصلت إلي عكاشة عن طريق أجداده, ويقال إنه يمتلك خزانة مليئة بكتب السحر الأسود والفلك وقراءة الطالع والكف وتحضير الأرواح. سألت السائق وأنا أضحك:
ـ وأين كتب الجزارة؟؟ عكاشة جزار..
قال:
ـ كتب الجزارة هذه لايعرفها عكاشة, يعمل بالخبرة
يبدو أن الناس حاليا في بر مصر تعمل بالخبرة, ضحكت في سري مرة أخري, وفردت صحيفة وطالعت الحوادث الغريبة التي أصبحت تزين صفحات الصحف في الفترة الأخيرة, وسرحت بعيدا عن عكاشة أشهر جزار في المنطقة وشغلتني قضية معقدة تخص سيدة قتلت زوجها بدم بارد دون أسباب واضحة, وعندما سألتها أمس وهي في القفص الحديدي: هل تطمع في البراءة؟ أم في تخفيف الحكم؟ قالت الإعدام يناسبني.
قالت السيدة إنها تطمع في الاعدام ونطقت بهذه الكلمات بهدوء قاتل: نظرت إليها متعجبا, المرأة ليست حزينة أو نادمة أو خائفة, غاظني قولها وغاظني برودها, قتلني, تركتها في القفص وتوجهت إلي رئاسة المحكمة, وأعلنت انسحابي من مهمة الدفاع عنها, وإذا كان الاعدام يناسبها, فهذه النوعية من القضايا لاتناسبني, أعلنت انسحابي وغادرت المحكمة علي الفور, متوجها إلي مقهي قريب من نقابة المحامين يتجمع فيه الرفاق بعد حضور الجلسات للراحة والثرثرة وتبادل الأخبار قبل زحمة العمل المسائي.
القتل جريمة بشعة, والنسوة أهل رحمة, ولكن.. من الرجال فئة تستحق القتل أيضا, والكلمات البريئة من الفعل لاتحل اللغز, الكلمات الملحقة في سماء الفكر ليست لها أصول وجذور في واقع الحياة.
المرأة ثرية وشخصية معروفة, وليست غريبة عن الأوساط الراقية, وقررت مواجهة قدرها بمفردها, دون عون من أحد, تمنيت لها الرحمة, وجلست أتناول قهوتي, ففي بعض الأحيان ـ خاصة في قضايا الثأر ـ المجرم لايتوقع معاونة أحد, يحمل رأسه علي كفه, وينظر إلي الامام, سائرا في طريق رسمه له غيره بهمة دون خوف أو وجل. وهذا هو طريق الهاوية الذي ورد في حكايات اللهو والسمر ونوادر السلف الصالح.
هذه المرأة تقف حاليا في منتصف طريق الهاوية؟ أحسست بمرارة, لست الشخص المناسب لمعاونتها, وقد تركتها لمصيرها, ولا أقدر علي التراجع.
القهوة هذه الساعة, طعمها مقبول مهما كانت سيئة, ولمسة السكر علي الريحة تكسبها طعما ورائحة منعشة, درت وحلقت في الدنيا الواسعة, تذكرت الكتاب الغائب عني الخاص بالحياة الطبقية للحمير: عصارة الفهم وخيبة الدليل, كيف؟ ولماذا هذه الخيبة؟
في العشية التقيت عكاشة الجزار كموعدنا في مقهي قريب من مبني المحافظة, بعيدا عن محل الجزارة, وكان الكتاب أمامه قال:
ـ هذه طبقات الحمير الملكية, فردت صفحات الكتاب صفحة صفحة, قرأت شيئا وتفرجت علي رسوم الحمير, أجسام الحمير متناسقة, قلت لعكاشة الجزار, أود صورة من الكتاب.
قال:
ـ ياباشا هذه النسخة لك ـ المكتبة كلها تحت أمرك
اتفقنا سألني عكاشة. قال:
ـ الولد حمادة ابني, طول وعرض, مثل الجحش, لكن مفيش مخ, احترت معه
ياباشا.. أود زراعة مخ له.
ابتسمت, جزار وله خبرة بأمخاخ الجاموس والبقر والجمال والضأن, ويود زراعة مخ لابنه البغل, لا بأس, طاوعته قلت:
ـ ربما بعد خمسين عاما يامعلم يمكن زراعة مخ في رأس جحش صغير.
قال المعلم عكاشة حزينا:
ـ الولد عمره13 سنة ياباشا, يقرأ العربية ولا يكتب حرفا منها, يثرثر بلغات أجنبية لا أعرفها.
سألته في ضيق: كيف يثرثر بلغات أجنبية؟
قال:
ـ من الجري وراء السائحات في منطقة الأهرامات, والسير مع المرشدين وأصحاب الجمال, يعمل معهم في السياحة.
قلت:
ـ اتركه, هذه مهنة لابأس بها, المهم القراءة والكتابة.
قال:
ـ هذا رأيك ياباشا, أتركه في حاله
قلت:
ـ هذا رأيي:
غادر عكاشة الجزار المقهي حزينا, لم يجد بغيته عندي, وتأملت رسوم الحمير في الكتاب, وفي منتصفه كانت هناك نوادر عن الحمير فشغلت بها, ورأيت عدم الذهاب إلي المكتب هذه الليلة.
في الليل داهمتني فكرة جنونية, هل تغير السيدة ع موقفها إذا أطلعتها علي نوادر ورسومات الحمير, وتفصح عن أسباب قتلها لزوجها؟
لم أكن متأكدا