السيد الاستاذ / فؤاد محمد
صباح الخير
ربما في مستهل العام الدراسي 1958/1959 كنت تلميذ في بدايات مرحلة الدراسة الابتدائية ، وفي مدرسة قريتنا جمعنا الاستاذ / محمد عارف وكان عليه رحمة الله مولعا بالسياسة ، وأخذ يمتدح ويشيد بالعراق وثورته الابية في الرابع عشر من يوليو 1958.
ولما كان جميعنا قد أجاد القراءة والكتابة بخط جيد في كتاب القرية قبل التحاقنا بالتعليم النظامي بوقت طويل ، فقد كان الاستاذ يجعلنا نتناوب في كتابة مصطلحات سياسية واسماء دول على سبورة الفصل كأن نكتب مثلا كلمة "تشيكوسلوفاكيا" وهي كلمة ربما تصعب كتابتها الان على واحد من الحاصلين على شهادة متوسطة ، أيضا كان يملينا اسماء بعض اعضاء مجلس قيادة ثورة العراق أمثال عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف ، وكان عليه رحمة الله يقص علينا حكاية هذه الثورة وحكاية الثورة الام في مصر.
رافقنا الاستاذ محمد عارف في فصول الدراسة الابتدائية للعام التالي على التوالي ، وكنا تقريبا في مستهل العام الدراسي حين صرفنا الاستاذ إلى منازلنا طالبا من كل واحد أن يأتيه بحزمة من حطب الذرة ، وطلب من البعض الاخر أن يأتيه ببعض التيل.
وفي خلال دقائق معدودات كان "حوش" المدرسة وكأنه المكان الذي سنوقد فيه فرن الخبيز ليخبز فيه بحسب كمية الحطب الموجودة نصف سكان قريتنا.
قام الاستاذ عارف وكانت لديه قدرة فائقة على الترتيب والتنظيم بتوزيع الادوار فهذا ينظف أعود الاذرة من الاوراق الرقيقة العالقة بها ، وغيره يقوم مع زميل آخر بفتل حبال من التيل الذي استقدمناه من بيوتنا او من الحقول وهكذا إلى ان صنعنا بمعاونة الاستاذ بالطبع نعشا كبيرا حملناه وخرجنا به من المدرسة إلى شارع داير الناحية نردد يا قاسم "أي عبد الكريم قاسم" يا بن سكينه ، يا مقتول بالسكينة.
كانت الحكومة آن ذاك قد غيرت بوصلة دعمها عن عبد الكريم قاسم ورفاقه الثوار ، وانخرط راديو صوت العرب في الهجوم الشرس على عبد الكريم هذا وعصابته على حد ما كان يروي لنا الاستاذ محمد عارف وفق معلوماته التي كان هي مصدرنا الوحيد في هذا الزمان الذي لم يكن في قريتنا غير جهاز أو اثنين على الاكثر من اجهزة الراديو التي كانت تدار بالبطاريات الجافة او بالواح الزنك والنشادر والصودا الكاوية المعبأة في أكثر من عشرين كوبا زجاجيا.
مرت الحادثة علي مرور الكرام ، كان الاستاذ بالامس يؤيد ويمتدح واليوم يسب ويشجب ، كان الامر اكبر من مداركنا بالقطع ، ربما قاسم الامس شخصية تشابهت في الاسم عن قاسم اليوم الله اعلم
حين كبرت ونضجت وبلغت المرحلة الاعدادية ، وكنا تقريبا في مطلع النصف الثاني من ستينات القرن الفائت او منتهى نصفها الأول ، كانت محطات اذاعتنا الفتية تذيع من صوت العرب والقاهرة والشرق الاوسط مسلسلات تسيء إلى حكومة صاحب الجلالة ملك المملكة الاردنية الهاشمية الملك حسين عليه رحمة الله كمسلسل كانت مقدمته الغنائية تقول الشيخ لعبوط لبس الزعبوط ونزل بريطانيا يلم نقوط وهكذا كانت البذاءة على أشدها وبالقطع لم أكن اعرف كيف كانت تدار الالة الاعلامية على الجانب الآخر.
وبعد عام او بعض عام ، حلت بنا هزيمة الخيانة والعار في يونيو 1967 ، وهي كذلك خيانة من الزعيم ، إن لم تكن لصالح اسرائيل والاميركان ، فهي خيانة لاحلام وامال شعب علقت عليه وعلى قيادة الزعيم الملهم بكل هزيمة وخراب
وبعد هذا ، أنعم الله على قريتنا بتقنية الاذاعة المرئية ، فكنا نشاهد القبلات ا لاخوية والعناق الحار بين جلالة الملك والزعيم الملهم الذي حقق لنا اكبر وافدح هازائم تاريخنا القديم والحديث والذي القى بمئات الالوف من المصريين تحت جنازير الدبابات الاسرائيلية.
هنا اوجه اليك والى الاشقاء الاعزاء في الجزائر اننا جميعا وبغير استثناء ينطبق علينا القول "الناس على دين ملوكهم" فهذا الذي بادر بحرق علم دولة شقيقة لم يدفعه لاقتراف ذلك الجرم غير اعلام مضلل سفيه على الجانبين وليس على جانب واحد ، وصدقني لوتبادل الزعيمين التاريخيين بعض النكات من خلال محادثة هاتفية كتلك التي كان يتحدث عنها ايريل شارون ، ما كان حدث عشر اعشار ما حدث حتى وإن مزقت الكرة الجزائرية ليس مرمى فريقنا القومي فحسب بل مزقت قلوب نصف المصريين أو حدث العكس ، وهذا لا يدلل على اعتناقنا المقولة أنفة الذكر فحسب بل يدلل بما لا يدع مجالا لريبة أو شك اننا ننهج سياسة القطيع ويصدق فينا حقا وصدقا ما نظمه بيرم التونسي في قصيدة الجماهير ..
م المستحيل انت تخدع أي طفل صغير
وتلف عقله وتعطيه القليل بكتير
لكن بأهون طريقة تخدع الجماهير
لو كنت اغبى غبي تجري وراك وتسير
خليل يصقف ، يصقف شعب ويا خليل
من غير ما يسأل عن الاسباب والتفاصيل
وحمار يغني وجايب من يقوله : آه
حلا تقول الخلايق كلها وياه
الحق يخفى وفي وسط الزحام ينداس
وناس في فهم الحقيقة ،تتكل على ناس
ويساعدك الحظ يا للي تحسن التجعير
ومن جانبي استاذي الكريم أقول رغم ما حصلناه من علوم وثقافة كلنا هذا الرجل وهذا الجمهور الذي انتقده بيرم التونسي ربما في ثلاثينات او اربعينات القرن المنصرم
تقبل احترامي
محمد أبواليزيد - الاسكندرية
"خيبتنا في نخبتنا"
|