عدم صحة اتفاق التحكيم
مقدمــة:
الحمد لله رب العالمين ، والشكر له على ما أنعم وأولى ، فإنه أجدر بالشكر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله الصادق وعده ووعيده ، أوضح سبيل الهدى ، وأزال ظلم الشك والضلال فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه البررة ، وبعد .... فإن الاشتغال بالعلم والبحث من أفضل الطاعات ، وهو من أسباب الرفعة في الدنيا والآخرة لمن أخلص وابتغى وجه الله فقال عز من قائل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُرُوا فَانشُرُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ، وإذا كان هذا هو فضل العمل والعلماء ، فقد جعل لطالب العلم من الفضل ما لا يقل عن ذلك ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما صنع ) .
بداية لا أدعي أن اخترت تلك الموضوعات حول التحكيم لأشيد بناء لم يكن موجوداً ، ولا لأتدارك موضوعاً من العلم كان مفقوداً ، لأنه لا يكاد يخلو أي مؤلف في التحكيم مما ذكرت ، فالأساس موجود والبناء مشيد ، ولكني أردت أن يوفقني الله في ربط الواقع العملي بذلك الأساس من واقع القضايا ، وأسأل الله تعالي أن يجعل عملي خالصاً لوجهه وأن يبرئه من كل رياء ظاهر وخفي وأن ينفع به .
عدم صحة أتفاق التحكيم :
قد يكون الاتفاق على التحكيم في صورة شرط التحكيم (6) ، وقد يكون في صورة مشارطه التحكيم (7) ، وفى كل من الصورتين فإن الاتفاق على التحكيم هو الذي يجعل النزاع المتفق عرضه على التحكيم غير جائز نظره من قبل محاكم الدولة (8) ، ومن هنا حرصت القوانين الداخلية في كل دوله على النص على ضرورة وجود اتفاق صحيح على التحكيم حتى يمكن الأمر بتنفيذ حكم التحكيم الصادر بناء على هذا الاتفاق.
ولما كان الاتفاق على التحكيم هو تصرف قانوني شأنه في ذلك شأن أي تصرف قانوني أخر حيث أنه تصرف إرادي ينصب على محل معين لإحداث أثر قانوني معين (9) ، (10) ، فإنه كغيرة من الاتفاقات لابد أن يستند إلى قانون معين يمده بقوته الملزمة وينظم وجوده وآثاره ومصيره (11) ، لذلك فإن القانون الذي يخضع له اتفاق التحكيم هو الفيصل في كل ما يتعلق بوجوده وصحته .
ويكشف تتبع الفقه والقضاء عن وجود اتجاهين رئيسيين في تحديد القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم ، أحدهما ينحاز إلى تطبيق قانون مقر التحكيم والآخر ينحاز إلى تطبيق قانون الإرادة الحاكمة للعقود بصفة عامة (11) ، وقد أخذت محكمة النقض المصرية بالاتجاه الأول وقالت في حكم لها : " بأنه لما كان من الثابت أن شرط التحكيم المدرج في سند الشحن قد نص على أن يحال أي نزاع ينشأ عن هذا السند إلى ثلاثة محكمين في مرسيليا وكان المشرع قد أقر الاتفاق على إجراء التحكيم في الخارج ، ولم ير في ذلك ما يمس النظام العام فإنه يرجع في شأن تقرير صحة شرط التحكيم وترتيب آثاره إلى قواعد القانون الفرنسي باعتباره قانون البلد الذي اتفق على إجراء التحكيم فيه " (12) ، ومن الواضح أن هذا الاتجاه ينبع من الطبيعة القضائية للتحكيم لأنه يتجاهل أن اتفاق التحكيم عقد كسائر العقود ، وأن العقد يجب أن يخضع لقواعد الإسناد في تنازع القوانين لتحديد القانون الواجب التطبيق لمعرفة صحته من عدمه ، ومن الواضح أيضاً إذا ما سايرنا هذا الاتجاه أننا سنجد تنوع في الحلول بحسب الوقت الذي يتم فيه تقدير صحة اتفاق التحكيم من عدمه ، فإذا أثير البحث عن ذلك بمناسبة دفع بعدم اختصاص القضاء لسبق الاتفاق على التحكيم ، فسوف يطبق القاضي الذي يثار أمامه ذلك الدفع قانونه باعتباره القانون الذي يطبق على إجراءات التقاضي ، أما إذا أثير البحث عن ذلك بعد صدور الحكم من خلال دعوى البطلان فسوف يطبق القاضي الذي ينظر في هذا الدفع قانون البلد الأجنبي الذي تمت فيه إجراءات المحاكمة بوصفة القانون الذي تمت المحاكمة في ظله .
أما عن الاتجاه الثاني والذي يقرر خضوع اتفاق التحكيم لقانون الإرادة لتقدير صحته من عدمه فهو ينطلق من الاتجاه الذي يشايع الطبيعة التعاقدية للتحكيم ولذلك قد يكون ذلك القانون هو قانون البلد الذي يجري فيه التحكيم أو أي بلد أخر بحسب اتفاق الأطراف ، وبحسب قواعد الإسناد في ذلك القانون التي قد تشير إلى قانون الجنسية المشتركة أو قانون الموطن المشترك أو قانون البلد الذي تم فيه العقد ، أو قانون البلد الذي يتم فيه تنفيذ العقد ، ومن الواضح أن هذا الاتجاه يؤدي إلى توحيد الحلول القضائية بشأن تحديد القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم لتقدير صحته من عدمه سواء كان بحث ذلك أثناء الدفع بعدم الاختصاص أو من خلال الدفع بالبطلان من خلال دعوى البطلان بعد صدور حكم التحكيم ، ولكن قد يسفر هذا الاتجاه عن صعوبة ليست بالهينة في حالة عدم وجود اتفاق بين الأفراد على تحديد القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم (13) .
أما على مستوى الاتفاقات الدولية فقد نصت اتفاقية نيويورك لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية من خلال المادة 5/1/1 على أن تحديد القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم لتحديد صحته من عدمه يكون طبقاً لاتفاق الأطراف ، فإذا لم يوجد مثل هذا الاتفاق يتم تطبيق قانون محل صدور حكم التحكيم ، وبذلك يتضح أن اتفاقية نيويورك لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية قد جمعت بين الاتجاهين السائدين في هذا المجال ، بحيث يكون الاتجاه الأول احتياطياً للاتجاه الثاني .
والواقع أن الاتجاه الثاني الذي يقضي بخضوع اتفاق التحكيم لقانون الإرادة لا يعني تمتع الأطراف بالحرية الكاملة طبقاً لما يوحيه ظاهر الاتجاه لأن ذلك يتوقف على العناصر التي يلزم من وجودها صحة اتفاق التحكيم ، لأن بعض القوانين تتطلب عنصر الكتابة كشكل لازم لإثبات اتفاق التحكيم بحيث يلزم من تخلفها بطلانه ، فلا يمكن مثلاً للأفراد تجاهل هذا العنصر عند اختيارهم لقانون يحكم اتفاق التحكيم لا يتطلب عنصر الكتابة لصحة اتفاق التحكيم ، وكذلك أيضاً عنصر قابلية النزاع للحل عن طريق التحكيم فلا يمكن للأفراد الاتفاق على حل نزاع معين عن طريق التحكيم ويخضعان اتفاق التحكيم لقانون يجيز حل مثل ذلك النزاع عن طريق التحكيم في حين أن القانون لا يجيز من الأصل حل ذلك النزاع عن طريق التحكيم .
ويكاد يجمع الشراح والقوانين على أن هناك عناصر معينة في اتفاق التحكيم يجب توافرها حتى يكون صحيحاً وهى على النحو:-
1- أن يكون مكتوباً
إذا كانت القاعدة العامة في شأن اتفاق التحكيم تقضي بخضوعه للقانون الموضوعي المطبق على العقد (14) ، لذلك يجب الرجوع إلى مثل هذا القانون لمعرفة مدى تطلبه شرط الكتابة لصحة اتفاق التحكيم من عدمه ، وباستقراء مواقف قوانين الدول من النص على هذا الشرط نجد أنها اختلفت وتباينت فمجموعة الدول ذات التقاليد اللاتينية سعت إلى إحاطة اتفاق التحكيم بضمانات معينة وإدخاله في دائرة التصرفات التي يجب إفراغها في شكل معين كالهبة والوصية والصلح ومن ثم تطلبت شرط الكتابة لصحة اتفاق التحكيم ، وذلك حتى يمكن التحقق من إرادة الأفراد قد اتجهت بالفعل إلى الالتجاء إلى التحكيم .
وعلى النقيض تماماً فإن الدول ذات النظم الانجلوسكسونية لم تجد مبرراً يوجب إخضاع اتفاق التحكيم لشكل معين فأخضعته للقواعد العامة التي تحكم التصرفات القانونية ، واكتفت بتدخل القاضي للتحقق من انصراف إرادة الأطراف إلى اللجوء للتحكيم في حالة ما إذا كان الاتفاق شفهياً أو يمكن استخلاصه ضمناً من الظروف القائمة (15) ، فعلي سبيل المثال يجري قضاء محكمة استئناف باريس على أن انعدام الكتابة في حد ذاتها لا يترتب عليه بطلان مشارطه التحكيم ، حيث يمكن التحقق من وجود مشارطه التحكيم من مسلك الخصوم أثناء سير خصومة التحكيم ، فإذا شارك الخصوم في خصومة التحكيم بدون أي تحفظ أو اعتراض على وجود مشارطه التحكيم أمكن القول بموجود اتفاق صحيح على التحكيم (16) .
وقد أختلف قوانين الدول العربية في النص على هذا العنصر ، فالقانون المصري يتطلب الكتابة لصحة اتفاق التحكيم من خلال نص المادة 12 من قانون التحكيم الجديد (17) ، وكذلك القانون الكويتي من خلال نص المادة 173/2 من قانون المرافعات ، وكذلك قانون الإمارات العربية المتحدة من خلال المادة 203/3 من قانون الإجراءات المدنية ، أما القانون اللبناني فيفهم من نص المادة 766/1 من قانون أصول المحاكمات المدنية أن الكتابة شرط للإثبات .
أما بخصوص هذا العنصر على مستوى التنظيمات الدولية الموحدة ، فإن بروتوكول جنيف لعام 1923م واتفاقية جنيف لعام 1927م ، قد رأيا أن يتركا الأمر لتقدير كل دولة حسب قانونها الداخلي بالإحالة إلى التشريع الوطني لكل دولة لتحديد شروط إثبات اتفاق التحكيم ، ولكن اتفاقية نيويورك لعام 1958 حسمت هذا الأمر بالنص صراحة في المادة الثانية على ضرورة الكتابة لصحة اتفاق التحكيم (18) ، والكتابة في هذه الحالة تعد شرط لصحة الاتفاق وليست دليلاً للإثبات ، ولا يكفي أن يكون اتفاق التحكيم مكتوباً بل لا بد أن يكون موقعاً عليه من الطرفين ، وتعترف الاتفاقية كذلك بالخطابات أو البرقيات المتبادلة بين الأطراف دون اشتراط وجود عقد مسايرة لضرورات التجارة الدولية بموجب المادة 2/2 ، أما بالنسبة للاتفاقيات المتبادلة عن طريق الفاكس ، فلم تنص المادة 2/2 من الاتفاقية على هذا النوع من طرق الاتصال ، ولكن لا يوجد ما يمنع من الاعتراف بهذه الوسيلة من وسائل الاتصال حيث اعترفت القوانين الوطنية الحديثة بوسائل الاتصال المكتوبة كالفاكس مثل قانون التحكيم المصري رقم 27لعام 1994م في المادة (12) ، والقانون الإيطالي لعام 1994م في المادة (807) (19) .
ومن التطبيقات القضائية المهمة بخصوص هذا الشرط :
قامت شركة إيطالية باستئجار سفينة مملوكة لشركة مسجلة في بنما ومملوكة لمصالح يونانية ونص في عقد الإيجار المطبوع على التحكيم في لندن ، وعندما نشأ نزاع بين الطرفين امتنعت الشركة الإيطالية عن تعيين محكمها أو الاشتراك في إجراءات التحكيم ، فأصدرت محكمة التحكيم حكماً لصالح مالك السفينة ، وتقدم مالك السفينة بهذا الحكم لتنفيذه على المحكوم علية ( الشركة الإيطالية ) في إيطاليا ، فتمسكت الشركة الإيطالية أمام محكمة استئناف تريستا الذي طرح عليها طلب الأمر بالتنفيذ ، ببطلان اتفاق التحكيم في هذا النطاق لعدم توافر ما تتطلبه المادتين 1341و1342 من القانون الإيطالي التي تشترطان في العقود التي تتضمن شروط عامة مطبوعة أن يقوم الأطراف بالتوقيع على شرط التحكيم ذاته توقيعاً خاصاً بحيث لا يكفي التوقيع بصفة عامة على العقد في مجموعه فرفضت محكمة استئناف تريستا هذا الطعن وقالت أن التنفيذ يتم وفقاً لاتفاقية نيويورك لعام 1958م وهي لا تتطلب شيئاً من هذا القبيل ، وأعادت محكمة النقض الإيطالية التأكيد على انطباق المادة الثانية من اتفاقية نيويورك (20) .
ونخلص مما تقدم أن الدول قد تباينت في النص على اشتراط الكتابة في عقد التحكيم حسب سياستها التشريعية ، ولكن اتفاقية نيويورك قد اشترطته صراحة بموجب المادة الثانية ، ونرى أن التشريعات التي اعتبرت الكتابة شرط لصحة اتفاق التحكيم كالتشريع المصري بقوله في المادة 12 من قانون التحكيم الجديد ( يجب أن يكون اتفاق التحكيم مكتوباً وإلا كان باطلاً ) ، لم تكن موفقة تمام التوفيق لأن الهدف من الكتابة هو الإستيثاق من أن إرادة الأطراف كانت واضحة وصريحة على اللجوء إلى التحكيم ، وهو أمر قد يتحقق بوسائل أخرى غير الكتابة كرفع المدعى دعوى تحكيم وعدم اعتراض المدعى عليه على ذلك ، وعلى ذلك كان من الأجدر عدم ترتب البطلان كنتيجة مباشرة وتلقائية على عدم الكتابة كما فعل نص القانون المصري وعاود التأكيد على ذلك من خلال نص المادة 56 من ذات القانون باشتراط أن يرفق بطلب تنفيذ حكم التحكيم صورة من اتفاق التحكيم المشار إليه في المادة 12، وكان من الأفضل اشتراط الكتابة ، أما تقدير البطلان من عدمه كنتيجة مباشرة وتلقائية على عدم الكتابة فكان من الأجدر تركها للمحكم أو القاضي حسب الأحوال يعملها على حسب كل حالة طبقاً لمقتضيات الظروف ومن مسلك الأطراف في الدعوى ، أما تقدير البطلان مقدماً وصراحة من خلال النص ، فهو أمر قد لا يترك للمحكم أو القاضي أي سلطة تقديريه في تقرير البطلان من عدمه ، ونتوقع أن يجتهد القضاء المصري في تفسير هذا النص بطريقه تحقق الحكمة من وجودة وخصوصاً إذا ما أثيرت مسألة البطلان في مرحلة ما بعد صدور حكم التحكيم ( عند التنفيذ ، أو دعوى بطلان حكم التحكيم ) آخذاً في الاعتبار عنصري الرضائيه والحرية اللذين يسيطران على نظام التحكيم علماً بأن اتفاقية نيويورك لم تقرر البطلان كجزاء لعدم كتابة اتفاق التحكيم كما فعل المشرع المصري من خلال نص المادة 12 المشار إليه ، حتى يمكن القول أن المشرع المصري أراد مسايرة اتفاقية نيويورك ، فصحيح أن اتفاقية نيويورك اشترطت الكتابة لإثبات اتفاق التحكيم ، لكنها لم تقرر البطلان كجزاء لتخلف هذه الكتابة ، بل تركت ذلك حسب الأحوال وفقاً للقانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم ، وقالت في صدر المادة الخامسة أنه لا يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية أ- …. أن اتفاق التحكيم غير صحيح وفقاً للقانون الذي أخضعه له الأطراف … الخ .
2- صحة تراضي أطراف اتفاق التحكيم
التعبير عن الإرادة الذي يتم إفراغه كتابياً بما يفيد قبول التحكيم كوسيلة لحل المنازعات الحالة أو المستقبلة يصدر بالضرورة عن أشخاص أطراف التحكيم أو ممثليهم ، ومن هنا يجب التأكد من أهليتهم القانونية لإبرام هذا النوع من التصرفات وسلامة رضاهم ، والأهلية المشترطة في طرفي اتفاق التحكيم هي أهلية التصرف ، وأهلية التصرف لا تثبت بحسب الأصل إلا لمن بلغ سن الرشد غير محجور عليه لجنون أو عته أو سفه أو غفلة ، كذلك يجب ألا قد أشهر إفلاسه لأنه يترتب على شهر الإفلاس غل يد المدين عن التصرف في أمواله من تاريخ شهر الإفلاس ، ومن ثم فإنه يمتنع الاتفاق على التحكيم اعتباراً من هذا التاريخ ، غير أن المنع لا يشمل بالطبع الأموال غير الداخلة في التفليسة (21) .
وعدم توافر أهلية أحد أطراف التحكيم يعد سبباً لبطلان الاتفاق على التحكيم وهذا أمر مفترض ، ونصت عليه اتفاقية نيويورك صراحة في المادة 5/1/أ .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما هو القانون الواجب التطبيق على أهليه أطراف اتفاق التحكيم حتى يمكن الرجوع إليه لمعرفة أهلية أطراف اتفاق التحكيم ؟
باستقراء قوانين الدول في هذا الشأن نجد أن بعضها تطبق على الأهلية قانون الجنسية بالنسبة للأفراد وقانون الموقع بالنسبة للأشخاص المعنوية كقوانين البلاد ذات التقاليد اللاتينية ، والبعض الأخر من القوانين يطبق قانون الموطن بالنسبة للأفراد وقانون بلد التأسيس بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة كقوانين البلاد ذات التقاليد الأنجلو سكسونية ، وقد تطبق بعض القوانين ضابطاً موضوعياً وليس شخصياً مثل ضابط محل إبرام العقد المعمول به في الولايات المتحدة الأمريكية ، أو أن يكون قانون الأهلية هو القانون الذي يخضع له العقد بوجه عام (22) .
ولم تقرر اتفاقية نيويورك مسألة القانون الواجب التطبيق على الأهلية بل تركت لمحاكم الدول المختلفة أن تطبق قواعد التنازع المعمول بها في كل دوله (23) ، ولعل السبب في عدم وضع قاعدة موحدة بخصوص أهلية أطراف التحكيم تخوف واضعي الاتفاقية من الدخول في مسألة تنازع التكييفات ، ونظراً لاختلاف قواعد الإسناد ولتعذر وضع نصوص موحدة ، لذا فقد آثروا ترك تقدير أهلية أطراف اتفاق التحكيم للقانون الذي تشير إليه قاعدة التنازع في قانون الدولة المطلوب إليها التنفيذ (24) ، ومن ثم فإن اتفاقية نيويورك قد تركت للقاضي الذي يطرح عليه طلب الأمر بالتنفيذ – عند النظر في مسألة الأهلية لتقرير مدي صحة الاتفاق على التحكيم صادر بناء على ذلك الاتفاق بيان ما هو القانون الذي يحكم أهلية طرفي الاتفاق على التحكيم ، فإذا كان الأمر مطروحاً على قاض فرنسي أو مصري مثلاً يأخذ نظامه القانوني بقانون الجنسية ، وجب تحديد مدى توافر أو عدم توافر أهلية الشخص وفقاً لقانون جنسيته ، أما إذا طرح الأمر على قاض بريطاني أو أمريكي يأخذ نظامه القانوني بقانون الموطن ، فإن المناط عندئذ لتقرير مدى توافر أو عدم توافر أهلية الشخص يكون بالقواعد الموضوعية في قانون موطن الشخص الطرف في اتفاق التحكيم (25) .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما هو الحال عند وجود قيود في القوانين الداخلية للدول تؤثر على أهلية الأفراد عند إبرامهم لاتفاق التحكيم كما هو الحال في القانون الإيطالي الذي ينص في المادة الثانية من قانون المرافعات على بطلان أي اتفاق تحكيم بين أشخاص إيطاليين أو متوطنين في إيطاليا لإجراء تحكيم خارج إيطاليا ؟ وكما هو الحال في القانون الفرنسي الذي ينص على حظر الاتفاق على التحكيم من قبل أشخاص القانون العام كالدولة وأجهزتها وهيئاتها العامة ؟ .
بالنسبة للحالة الأولي حسم القضاء الإيطالي الإجابة على هذا التساؤل بقول محكمة النقض الإيطالية مراراً في العديد من أحكامها بتقرير وجوب الاعتراف بصحة الاتفاق على التحكيم في الخارج المبرم بن رعايا إيطاليين مقيمين في إيطاليا أو بينهم وبين أجانب متوطنين في إيطاليا إعمالاً لاتفاقية نيويورك ، لأنه بالتصديق على الاتفاقية صارت جزء من النظام القانوني الإيطالي بحيث يجب تطبيق مضمونها باعتبارها تتضمن قواعد تسمو على القواعد الداخلية ، ولكانت الاتفاقية لم تشترط انتماء أطراف التحكيم إلى جنسية دولة معينة أو توطنهم في دوله ما كشرط لصحة اتفاق التحكيم ، فلا يجوز الادعاء بعدم صحة اتفاق التحكيم لأم أحد طرفية جنسيته إيطالية أو متوطن في إيطاليا (26) .
وبالنسبة للحالة الثانية فقد استقر القضاء الفرنسي على أن القيود المذكورة تسري فقط في شأن المعاملات الداخلية ، ولكنها لا تمنع أشخاص القانون العام من أن تكون طرفاً في اتفاق تحكيم ذي طبيعة دولية ، وأثيرت هذه الحالة أيضاً أمام المحاكم التونسية في نزاع طرح أمام القضاء التونسي حول صحة اتفاق تحكيم أبرم بين شركة الكهرباء والغاز التونسية وهي مؤسسة عامة وبين شركة فرنسية ، وتمسكت الشركة التونسية ببطلان اتفاق التحكيم على أساس أن القانون التونسي يحظر على المؤسسات العامة الالتجاء إلى التحكيم ، ورفضت المحكمة التونسية هذا الدفع واستندت إلى واقعة انضمام تونس لاتفاقية نيويورك ، وقررت أن الحظر القائم في القانون الداخلي لا يسري على الحالات التي يكون فيها الاتفاق على التحكيم متعلقاً بمعاملة دولية وخلصت المحكمة إلى صحة اتفاق التحكيم بغض النظر عن القيود التي يفرضها القانون الداخلي (27) .
ويجب أن نلاحظ أن بطلان حكم التحكيم لبطلان اتفاق التحكيم لنقص أهلية أحد طرفية ، قد يكون بطلان مطلق وذلك إذا وجهت إجراءات المحاكمة إلى ناقص الأهلية نفسه أو باشرها بنفسه ، وللمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها ، أما إذا وجهت إجراءات المحاكمة إلى ممثل أو نائب ناقص الأهلية القانوني ، فإن البطلان يكون بطلان نسبي ، حيث يجب على الممثل أو النائب القانوني أن يحضر إجراءات المحاكمة ويتمسك ببطلان اتفاق التحكيم لنقص الأهلية ، أما إذا حضر ولم يعارض في ذلك اعتبر اتفاق التحكيم صحيحاً من هذا الوجه لأن ذلك بمثابة إجازة من الممثل أو النائب القانوني لاتفاق التحكيم الذي وًّقعه ناقص الأهلية وعلى ذلك يجب على الطرف الأخر تجنب مباشرة إجراءات قابلة للزوال بأن يوجه إجراءات التحكيم إلى نائب أو ممثل ناقص الأهلية من البداية كمحاولة لتصحيح البطلان الذي أصاب اتفاق التحكيم لنقص أهلية الطرف الآخر .
ولا يكفي فقط أن يتمتع أطراف اتفاق التحكيم بالأهلية حتى يكون اتفاقهم على التحكيم صحيحاً ، بل يجب أيضاً أن تكون إرادتهم سليمة خالية من عيوب الرضا ( الغط ، والتدليس ، والإكراه والاستغلال ) ، وسلامة رضا طرفي اتفاق التحكيم مطلب ضروري لتلاقي إرادة الطرفين على الاتفاق على التحكيم ، والتحقق من وجود الرضا و عدم وجودة وما يتعلق بصحته أو فسادة إنما هي أمور تخضع للقانون الذي يحكم اتفاق التحكيم ذاته (28) ، والذي تجد الإشارة إليه حقاً في هذا النطاق أن هناك مبدأ يقتضي بإستقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي ، أي أن إبطال العقد الأصلي لعيب من عيوب الإرادة لا يعني ذلك إبطال شرط التحكيم المحتوي عليه ذلك العقد بناء على ذلك العيب ، كما أن إبطال شرط التحكيم لعيب من عيوب الإرادة لا يعني ذلك إبطال العقد الأصلي المحتوى على ذلك الشرط بناء على هذا العيب (29) .
ولم تتضمن اتفاقية نيويورك نص يعالج المشكلات التي تتعلق بركن الرضا في اتفاق التحكيم ، واكتفت بما ورد في المادة الخامسة من بيان قاعدة الإسناد التي يتم على أساسها تحديد القانون الواجب التطبيق على المسائل المتعلقة بالرضا وهو القانون الذي أخضع الأطراف الاتفاق له ، وفى حالة غياب أية إشارة إلى ذلك يكون قانون البلد الذي صدر فيه حكم التحكيم (30) ، ولهذا يجب الرجوع بصفة أصلية إلى القانون الذي اختاره الأطراف صراحة أو ضمناً ليحكم اتفاقهم على التحكيم أو قانون البلد الذي صدر فيه حكم التحكيم للحكم على كافة المسائل المتصلة بالتراضي وصحته .
وتطبيقاً لذلك فقد ذهبت المحكمة العليا الألمانية بمناسبة إدعاء طرف ألماني أمامها أن اتفاق التحكيم تم توقيعه من قبله تحت ضغط اقتصادي ، إلى اتباع قاعدة الإسناد التي أوردتها المادة 5/1/أ من اتفاقية نيويورك ، والتي بإعمالها يتضح أن القانون الواجب التطبيق هو القانون التشيكي لكونه القانون الذي اختاره أطراف اتفاق التحكيم ، ولما كان هذا القانون لا يعترف بالضغط الاقتصادي سبباً لبطلان اتفاق التحكيم ، فإن إدعاء الطرف الألماني يكون مرفوضاً ، وقررت ذات المعني أيضاً محكمة استئناف نابولي عندما دفع المحكوم عليه أمامها بأن اتفاق التحكيم قد أبرم تحت تأثير الغش والتدليس ، وانتهت المحكمة إلى ضرورة الرجوع إلي القانون الواجب التطبيق وفقاً لقاعدة الإسناد المذكورة في اتفاقية نيويورك – المادة 5/1/أ والتي يتضح من خلالها أن القانون النمساوي هو الذي تشير إلى تطبيقه قاعدة الإسناد (31) .
ولا يختلف الحال بالنسبة إلى الشخص الاعتباري - كقاعدة عامة ، لأن الرأي الراجح لدي الشراح هو الاعتراف للشخص الاعتباري بأهلية الأداء بالنسبة لحقوقه والتزاماته التي تدخل في الغرض من إنشائه (32) ، غير أن الأمر هنا يتم على خطوتين ، الخطوة الأولي التحقق من أن الشخص الذي وقع الذي وقع نيابة عن الشخص الاعتباري يملك سلطة التوقيع بأسمه على اتفاق التحكيم عن طريق القانون الذي يحكم الشخص الاعتباري ، فإذا كان الشخص الاعتباري شركة وجب الرجوع إلى القانون الذي يحكم الشركة وهكذا ، والخطوة الثانية التحقق من توافر الأهلية وسلامة إرادة ممثله وخلوها من عيوب التراضي ، فتحدد أهلية الشخص الاعتباري وصحة إرادة وفقاً للقانون الواجب التطبيق ، وقد خلت المادة 5/1/أ اتفاقية نيويورك من نص يدل صراحة على من له سلطة تمثيل الشخص الاعتبار في اتفاق التحكيم والتوقيع نيابة عنه ولا عن أهليته وصحة إرادته ولكن الرأس استقر الحال على تطبيق ذات القواعد التي أوردتها المادة 5/1/أ من الاتفاقية على الشخص الطبيعي استصحاباً للحال على أساس أن العبرة بالقانون الذي يحكم الطرف الأصيل الصادر التصرف باسمه (33) .
وتطبيقاً لذلك أثير هذا الموضوع في قضية هضبة الهرم المصرية ، وتتلخص وقائع هذه القضية ، في أن شركة أوربية تدعي S.P.P أبرمت عقداً مع الهيئة المصرية للسياحة والفنادق من أجل بناء مركزيين سياحيين أحدهما في الأهرامات وصادق وزير السياحة على العقد بتوقيعه مع كلمات للموافقة والمصادقة والاعتماد وتضمن العقد شرطاً تحكمياً يحيل إلى تحكيم غرفة التجارة الدولية ، وآثار المشروع عاصفة في مصر ، لاسيما في البرلمان ، وكان المأخذ أن هذا المشروع من شأنه تشويه الأهرامات فتخلت عنه الحكومة المصرية وارتدت الشركة الأوربية S.P.P على الحكومة المصرية بدعوى تحكيمية تطالبها بالعطل والضرر لإخلالها بالتزاماتها التعاقدية وعدم إنفاذها للعقد ، وطرح موضوع العقد التحكيمي هل هو صحيح أم أنه باطل ، وبحث المحكمون أول ما بحثوا اختصاصهم واعتبروا أنفسهم مختصتين للنظر في النزاع ، وانحصر موضوع النزاع كله في معني توقيع الوزير على العقد .
أدلت الحكومة المصرية بأن توقيع الوزير هو عمل شكلي إداري بموجبة تخول سلطة الوصاية (أي الوزارة ) هيئة السياحة والفنادق المصرية ، وردت الشركة أنه طلبت توقيع الوزير على العقد لإثبات التزام الحكومة المصرية به ، وكان مكان التحكيم باريس ، وصدر الحكم التحكيمي في باريس يعطي للشركة الأوربية 12500000 دولار ، تقدمت الحكومة المصرية بطلب إبطال الحكم التحكيمي أمام المحاكم الفرنسية مدلية ، بغياب العقد التحكيمي كسبب للبطلان ، وفقاً لقانون التحكيم الدولي الفرنسي ، أبطلت المحاكم الفرنسية الحكم التحكيمي على أساس أن المحكمين نظروا بالدعوى دون أن يكون هناك عقد تحكيمي ، كما أبطلت المحكمة القضائية الفرنسية قرار المحكمين باعتبار أنفسهم مختصين للنظر بالنزاع الذي بني على أن هناك عقد تحكيمي صحيح ، وهكذا أبطلت المحكمة القضائية الحكم التحكيمي برمته (34) .
1- أن يكون موضوع اتفاق التحكيم قابلاً للحل بالتحكيم .
يعد هذا العنصر من أهم عناصر اتفاق التحكيم ، لذلك غالباً ما تحدد قوانين الدول المسائل التي جوز حلها عن طريق التحكيم ، وبالتالي يعد الاتفاق على التحكيم بشأنها صحيحاً ، والمسائل التي لا يجوز حلها عن طريق التحكيم وبالتالي يعد الاتفاق على التحكم بشأنها باطلاً ، وبالتالي يجب النظر إلى هذه المسألة في قانون كل دولة ، والملاحظ أن بعض الدول تأخذ موقفاً مشجعاً للالتجاء إلى التحكيم ، وبالتالي تجعل الأصل فيه جواز ذلك في كافة المسائل مع وجود إستثناءات محدودة مقررة على سبيل الحصر في أضيق نطاق ممكن كما هو الحال في الدول الأنجلو أمريكية والاسكندنافية ، وعلى العكس تماماً فإن هناك دول تقف من التحكيم موقفاً حذراً باعتباره طريقاً استثنائياً مما ينعكس في توسيع نطاق المسائل التي يجوز التحكيم بشأنها واستعمال عبارات معروفة بأنها غير منضبطة الحدود في هذا المجال مثل فكرة النظام العام كما هو الحال في غالبية الدول اللاتينية والعربية ، وتوسطت دول أخري وأخذت بحلول توفيقية عن طريق النص على تحديد المسائل التي لا يجوز في شأنها التحكيم عن طريق نصوص القانون الداخلي أو الاجتهاد القضائي كما هو الحـال في فرنسا وإيطاليا واليابان ومصر (35) .
ولم تفصح اتفاقية نيويورك المسائل التي يجوز حلها عن طريق التحكيم ، أو تلك التي لا يجوز حلها عن طريق التحكيم حيث اكتفت بالإحالة إلى قانون الدولة التي يطلب إليها تنفيذ حكم التحكيم لمعرفة إذا كان قانون هذه الدولة يجيز حل النزاع الصادر فيه حكم التحكيم المراد تنفيذ من عدمه (36) ، ويعد هذا الشرط في حد ذاته حالة من الحالات التي يرفض فيها تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي الذي تقضي به المحكمة من تلقاء نفسها ، ولذا نكتفي بما ذكرناه ، وسنعود للكلام عليه تفصيلاً عند تناول حالات رفض تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي التي يقضي بها القاضي من تلقاء نفسه في المطب الثاني .
2- أن يكون هناك نزاع ناشئ عن علاقة قانونية محدده .
من الطبيعي أن الاتفاق على اللجوء إلى التحكيم يجب أن يكون لحل نزاع وان يكون ذلك النزاع بصدد علاقة قانونية محددة سواء كانت علاقة تعاقدية أو غير تعاقدية ، وإذا كان من الشائع أن يرد اتفاق التحكيم بمناسبة علاقة تعاقدية إلا أنه لا يوجد ما يمنع من ورود اتفاق التحكيم بمناسبة علاقة غير تعاقدية ، مثل التعويض عن العمل غير المشروع ، أو عن الإثراء بلا سبب ، أو التصادم البحري ، أو المسئولية عن حوادث النقل البري والبحري والجوي ، وما إلي ذلك من مجالات حديثة يلعب فيها التحكيم دوراً مهماً (37) ، وهذا هو ما نص عليه كل من قانون التحكيم المصري الجديد في المادة 10/1 ، وقانون التحكيم اليوناني في المادة 868 مرافعات ، والقانون التونسي في الفصل الثاني ، والقانون النموذجي للانسيترال في المادة 70 واتفاقية نيويورك في المادة 2 (38) ، أما بعض القوانين الأخرى فقد قصرت مجال اتفاق التحكيم عن العلاقة الناشئة عن عقد كالقانون الفرنسي في المادة 1442 مرافعات ، وقواعد الانسترال في المادة (39) ، وقواعد تحكيم غرفة التجارة الدوليةICC في المادة 3/2/ج والمادة 8/4 (40) ، والفارق بين الاتجاهين واضح حيث أن العلاقة القانونية في القوانين الأولي أوسع نطاقاً من العقد ، وتطبيقاً لذلك فقد عرض على القضاء البريطاني قضية أقامتها شركة LONRHO وشركة خط أنابيب MOCAMBIQUE ضد شركة SHLE للبترول وشركة BP و27 شركة بترولية أخري مناسبة نكولهم عن استخدام خط الأنابيب المذكور بناء على موصفه المدعون بأنه عمل غير مشروع ناتج عن تآمر ، فقد لجأت الشركات البترولية إلى التمسك بضرورة إحالة النزاع إلى التحكيم استناداً إلى المادة (22) من الاتفاقية المعروفة باسم SHIPPERS’ AGREEMENT الذي يتضمن اتفاقاً على اللجوء إلى التحكيم ، وانتهت المحكمة إلى قبول وجهة النظر هذه بعد أن تأكدت من أن صياغة اتفاق التحكيم تسمح بإدخال المطالبات الناشئة عن العمل غير المشروع في إطاره (41) ، ويثور التساؤل عن النزاع بصدد العلاقة القانونية المحددة الذي يبرر اللجوء إلى التحكيم وتأثير ذلك على الدعوى التي يقيمها أحد أطراف اتفاق التحكيم أمام القضاء ومدى دخولها في مجال اتفاق التحكيم من عدمه فقد عرض على القضاء البريطاني قضية متعلقة بهذا الشأن نعرض لها لأنها تفيد في تقريب وتحديد موضوع النزاع الذي يدخل في اتفاق التحكيم من عدمه فقد أبرمت شركة بريطانية مع شركة ألمانية عقداً للتعاون معاً في مجال تصنيع المنسوجات وتضمن عقد الشركة تحكيم من شأنه إحالة جميع الخلافات التي قد تثور بين الطرفين إلى التحكيم في ميونيخ ، وفى إطارا المعاملات بين الطرفين قامت الشركة البريطانية بتوريد آلات صناعية تم دفع ثمنها بكمبيالات استحق بعضها وتم سداده وظلت الكمبيالات الباقية تحت التحصيل في مواعيد استحقاقها ، وعندما نشأ خلاف بين الطرفين حول عدة أمور من بينها عدم قيام الشركة البريطانية بتنفيذ التزاماتها المتعلقة بالمعونة الفنية وكون الآلات الموردة معيبة ومستعملة على خلاف ما كان مشترطاً في العقد ، قامت الشركة الألمانية برفع الأمر إلى التحكيم مطالبة بالتعويضات المناسبة ، وعقب ذلك لجأت الشركة البريطانية من جانبها إلى إقامة دعوى قضائية للمطالبة بقيمة الكمبيالات التي حلت تواريخ استحقاقاتها ولم يتم دفعها فتمسكت الشركة الألمانية باتفاق التحكيم طالبة من المحكمة البريطانية وقف الإجراءات المقامة أمامها وإحالة المطالبة بقيمة الكمبيالات إلي هيئة التحكيم باعتبار أنها موضوع دعوى مضادة مرفوعة أمام هيئة التحكيم ، فرفضت محكمة أول درجة الأمر بوقف الدعوى المقامة للمطالبة سداد قيمة الكمبيالات على أساس أنها غير مجحودة وليست صحتها كورقة تجارية محلاً لأي نزاع ، فقامت الشركة الألمانية باستئناف هذا الحكم ، فحكمت محكمة الاستئناف بوقف الدعوى القضائية أمام المحاكم البريطانية باعتبار أن سبب الالتزام الصرفي هو بيع الآلات للشركة الألمانية حيث صدرت الكمبيالات وفاء بثمنها ،وما دام عقد البيع مطروحاً على هيئة التحكيم لتقدير مدي جودة الآلات واستحقاق الثمن المتفق عليه فإن الكمبيالات التي تمثل ذلك الثمن تعد من الأمور المتنازع عليها والتي تدخل بالتالي في إطار التحكيم ، وعندما طعن بعد ذلك في هذا الحكم أمام مجلس اللوردات ، قضي بإلغاء حكم محكمة الاستئناف مستنداً إلى أن الأوراق التجارية لا تعد متنازع عليها ومحلا لخلاف إلا في حالة واحدة وهي صدورها بناء على غش ، وبالتالي ففي غير هذه الحالة لا يجوز اعتبار قيمتها محلاً لخلاف بين الساحب والمسحوب عليها وإلا انهارت الثقة في الكمبيالات وما في حكمها (42) .
هذه هي شروط صحة اتفاق التحكيم من حيث كونه تصرف قانوني والتي إذا ما توافرت أنتج اتفاق التحكيم أثره ، وألزمت محاكم الدول المنتمي إليها أطرافه بالاعتراف به والامتناع عن نظر النزاع موضوع اتفاق التحكيم وإحالة الأطراف إلى التحكيم .
ويجب أن نلاحظ أنه قد يكون هناك عناصر أخرى لصحة اتفاق التحكيم بحسب القانون الذي يخضع له اتفاق التحكيم ، وإنما عنينا بالإشارة إلى العناصر السابقة بوصفها موضع تقدير من القانون والقضاء في مختلف الدول .
ومن العناصر الأخرى اللازمة لصحة اتفاق التحكيم تعيين أسماء المحكمين ، وقد أثار هذا العنصر خلافاً كبيراً بين الشراح المصريين ، حيث أن منهم رأي صحة اتفاق التحكيم الخالي من تعين أسماء المحكمين على أساس أن القانون المصري لم يجعل من تخلف هذا العنصر سبباً لبطلان الحكم التحكيمي (43) وأن ومنهم من رأي بأن تعيين أسماء المحكمين يعد ركنا من أركان اتفاق التحكيم لا ينعقد بدونه ، ويترتب على ذلك لزوماً الحكم بطلان اتفاق التحكيم إذا ما كان خالياً من أسماء المحكمين ولم يتم تعينهم في مرحلة لاحقة في اتفاق مستقل (44) ، ولم يكن الخلاف بين الشراح المصريين بشأن هذا العنصر أقل من الخلاف بين المحاكم المصرية حيث ذهبت محكمة جنوب القاهرة الابتدائية إلي أن ( الثابت أنه لم يتم تحديد أسماء المحكمين أو المحكم في اتفاق مستقل أو لاحق لمشارطه التحكيم ومن ثم فإن الاتفاق على التحكيم في الدعوى الماثلة لم يستكمل شروطه وبالتالي فإن الدفع بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى لوجود شرط التحكيم يكون قد قام على غير سند من القانون وترفضه المحكمة (45) ويتضح من هذا الحكم أنه رتب بطلان اتفاق التحكيم جزاء على مخالفة شرط تعيين أسماء المحكمين وذهبت محكمة استئناف الإسكندرية إلي أن ( عدم تضمين شرط التحكيم أسماء المحكمين لا يترتب عليه بطلان شرط التحكيم سواء في ذلك أن يكون متفقاً على إجراء التحكيم في الداخل أو في الخارج ) (46) .
وفى رأينا أن الخلاف الناشئ بين الشراح المصريين وبين المحاكم المصرية ناتج من الطريقة التي صيغت بها المادة 503 من قانون التحكيم المصري ، حيث لم تنص في الفقرة الثالثة التي تناولت أسباب البطلان على البطلان كجزاء على عدم تعيين أسماء المحكمين في اتفاق التحكيم أو في اتفاق مستقل ، ومع ذلك نصت في الفقرة الثانية من نفس المادة على البطلان لمخالفة قاعدة الوترية ، حيث يصعب في رأينا الجمع بين الفقرتين بطريقة توضح مقصد القانون المصري ، وعلى كل فإن اتفاق التحكيم كغيرة من الاتفاقات لابد أن يستند إلى قانون معين يمده بقوته الملزمة وينظم وجودة وصحته ومصيره فإننا نرى هذا الخلاف لا تظهر أهميته إلا عند التمسك بالدفع بعدم اختصاص المحكمة بنظر النزاع لوجود اتفاق التحكيم بينما بعد صدور حكم التحكيم لا يمكن التمسك ببطلان حكم التحكيم لبطلان اتفاق التحكيم ما لم يكن قد تم التمسك بداية بالدفع بعدم صحة اتفاق التحكيم أمام محكمة التحكيم في بداية نظر النزاع ورفضته محكمة التحكيم واستمرت في نظر النزاع لأن البطلان الناشئ على عدم صحة اتفاق التحكيم في هذه الحالة هو بطلان نسبي يجب التمسك به من صاحب المصلحة في بداية نظر النزاع ، فقبول الخصوم المثول أمام محكمين معينين بالرغم من عدم تعينهم من قبلهم في اتفاق التحكيم أو اتفاق لاحق يعني تنازلهم عن التمسك بهذا البطلان .
وبالتالي في مقام تحليلنا لحالة بطلان حكم التحكيم لعدم صحة اتفاق التحكيم نقول في النهاية أنه يجب التمييز بين الحالات التي يكون فيها اتفاق التحكيم غير صحيحاً للوقوف على الغاية منها ، فمثلاً قد يكون اتفاق التحكيم غير صحيح لعدم كتابته ، ولما كانت الكتابة شرط لإثبات اتفاق التحكيم فإنه الاتفاق يكون صحيحاً متي كان ثابتاً بطريقة قاطعة من مسلك الخصوم في خصومة التحكيم كما إذا رفع المدعي دعوى إلى التحكيم ولم يعترض المدعى عليه على ذلك ، فما الفائدة من بطلان اتفاق التحكيم لعدم كتابته بينما يستفاد من موقف الطرفين إقرارهما بوجودة وبمضمونه ، وكذلك أيضاً قد يكون اتفاق التحكيم باطلاً لوقع إرادة أحد الطرفين في غلط ، فإذا ثبت بطريقة قاطعة تتضح من مسلك الخصوم علم الطرف الذي وقع في هذا الغلط بهذا الغلط ولم يتمسك به ، فإن اتفاق التحكيم يكون صحيحاً ، بعكس حالة عدم صحة اتفاق التحكيم لأن موضوع اتفاق التحكيم غير جائز حله عن طريق التحكيم حيث أن اتفاق التحكيم في هذه الحالة يكون غير صحيحاً لبطلانه بطلاناً مطلقاً لتعلقه بالنظام العام .
لذلك يمكن لنا في النهاية أن نضع قاعدة مهمة في حالة بطلان حكم التحكيم لعدم صحة اتفاق التحكيم وهي ، أن الدفع ببطلان حكم التحكيم لعدم صحة اتفاق التحكيم يجوز إثارته لأول مرة من خلال دعوى البطلان متي كان عدم صحة اتفاق التحكيم راجع إلى كون اتفاق التحكيم غير جائز حله عن طريق التحكيم أما إذا كان عدم صحة اتفاق التحكيم راجع إلى أسباب أخرى ، فإنه لا يجوز إثارة ذلك من خلال دعوى البطلان ما لم يتم التمسك به قبل ذلك أمام محكمة التحكيم .