اسم المستخدم: كلمة المرور: نسيت كلمة المرور



 

     
 
 
يسري عوض
التاريخ
5/9/2006 7:37:39 AM
  ماهـية الجـريمة وتأصيلها الشرعي والقانوني      

ماهـية الجـريمة

 

وتأصيلها  الشرعي والقانوني

 

 

     لم يتفق الفقهاء على تعريف موحد جامع لمعنى الجريمة (crime)  وعلى نفس نهجهم ألاختلافي سار فقهاء القانون الوضعي ذلك أن تحديد الجرائم نسبي يختلف من زمان إلى زمان ومن مجتمع إلى مجتمع ، كذلك لم تضع اغلب التشريعات الوطنية تعريفا للجريمة استكفاءً بما ورد من تعريفات فقهية لها ، والتي جاءت تعريفاتهم مختلفة باختلاف وجهات نظرهم الفكرية ، والتي يمكن حصرها في اتجاهين أساسيين اتجاه أتخذ من الشكل أساسا للتعريف ، والأخر اتخذ من الموضوعية أساسا لتعريف الجريمة ويمكننا حصر بعضاً بحيث يغني عن ذكرها كلها ويستوفي بالمقصود وفقاً للمطالب التالية :

 

المطلب الأول

 

التعريف اللغوي والاصطلاحي للجريمة

 

    سنتناول في هذا المطلب التعريف اللغوي والاصطلاحي لدى فقهاء الشريعة والقانون ، ومن ثم نسعى لإيجاد الصلة والرابط بين المعنى اللغوي والاصطلاحي وكذلك تحديد مدى التوافق بين المفهوم الشرعي والقانوني للجريمة وذلك بتحليل مفهومها الشرعي والقانوني .

 

تعريف الجريمة لغةً :

 

      أصل كلمة جريمة من جرم بمعنى كسب وقطع(1) والجرم بمعنى الحر، وقيل أنها كلمة فارسية معربة(2) والجرم : مصدر الجارم الذي يجرم نفسه وقومه شرا  كما تعني التعدي والذنب(3) ، فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب وأجرم فلان أي اكتسب الإثم(4) . كما تعني ما يأخذه الوالي من المذنب(5) ، ورجل جريم وامرأة جريمة أي ذات جرم أي جسم . وجرم الصوت : جهارته ، تقول : ما عرفته إلا بجرم صوته(6) والجريمة تعني الجناية والذنب(7) .

 

تعريف الجريمة في الفقه الإسلامي :

 

     عرفت الجريمة بأنها محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير، ولها عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية ، ولها عند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجبه الأحكام الشرعية(8) وهذا التعريف يشمل الجريمة الايجابية التي تتم بإتيان فعل محظور كما يشمل على الفعل السلبي الذي يتم بالامتناع عن فعل مأمور بإتيانه ذلك أن لفظ المحظورات الشرعية تعني المعنيين .

 

     عرفها الفقيه عبدالقادر عودة بأنها فعل أو ترك نصت الشريعة على تحريمه والعقاب عليه(9) .

 

     والجريمة في الإسلام تعني فعل ما نهي الله عنه ، وعصيان ما أمر الله به (10) ، أو بعبارة أعم هي عصيان ما أمر الله به بحكم الشرع الشريف(11) ، وهذا التعريف عام بحيث يشمل الجريمة المعاقب عليها دنيويا من قبل الحاكم ، كما يشتمل على الأفعال المعاقب عليه بالعقوبات التكلفية الدينية التي تكون كفارة للإثم ، بجانب العقوبات الربانية المؤجلة ليوم الحساب عند رب العالمين .

 

    تعريف الجريمة في الفقه الوضعي :  

 

     الجريمة هي إتيان فعل معاقب عليه أو ترك فعل مأمور به ومعاقب على تركه بحد أو تعزير(12) . يلاحظ أن هذا التعريف قد ضبط بمضابط إسلامية حيث استخدم تعبيري الحد والتعزير التي تعد من التصنيفات الإسلامية لنوع العقوبة أي أن الضابط الأساسي لتعريفه هي العقوبة والتجريم وإن كان قد تجاهل القصاص في تعريفه . 

 

     وجاء في الموسوعة الميسرة في تعريف الجريمة " أنها خرق للقواعد الاجتماعية وفعل يعد ضارا بالجماعة ولاختلاف الحضارات في التنظيم والقيم يختلف ما يعد جرماً" (13) وهذا التعريف نوه فيه واضعه إلى عدم أمكان تحديد كافة الجرائم أو وضع تعريف دقيق لها ، لتعدد الثقافات والقيم والنظم التي يختلف فيها ما يعد جرما ويلاحظ أنه جعل من الموضوعية أساسا لتعريفه .

 

   وعرفها الدكتور مأمون سلامة بأنها الواقعة التي ترتكب إضرارا بمصلحة حماها المشرع في قانون العقوبات ورتب عليها أثرا جنائيا متمثلاً في العقوبة(14) ، يلاحظ على هذا التعريف أنه أشتمل فقط على الأفعال المعاقب عليها بموجب قانون العقوبات في حين أن هناك قوانين أخرى تجرم بعض الأفعال وتضع لها عقوبة مقدرة مثل قانون الجمارك وغيره من القوانين الخاصة أي إن التعريف شمل فقط الجرائم الجنائية وأهملت الجرائم المدنية والجرائم الإدارية والتأديبية .

 

     وعرفها الدكتور يس عمر يوسف بأنها إتيان فعل محرم معاقب على فعله أو تركه(15) . ويلاحظ في هذا التعريف اعتماده على العقوبة والتجريم وجعله أساسا للتعريف.

 

     وعرفها الدكتور محمد نجيب حسني بأنها فعل غير مشروع صادر عن إرادة جنائية يقرر لها القانون عقوبة أو تدبيرا احترازيا(16).

 

     وجاء في تعريف الدكتور أحمد نشأت بأنها ظاهرة اجتماعية من ظواهر السلوك الإنساني المنحرف عن القواعد تواضعت عليها الجماعة تحقيقاً لمصالحها المستقرة في الحفاظ على قيمها وحرماتها" (17) .

 

      ومن التعريفات أن الجريمة سلوك أنساني منحرف ، يمثل اعتداء على حق أو مصلحة من الحقوق أو المصالح التي يحميها الشرع أو القانون الصادر بناء عليه(4).

 

    كما عرفها المشرع السوداني في المادة الثالثة من قانون الجنائي السوداني 1991م بقوله  أن الجريمة تشمل كل فعل معاقب عليه بموجب أحكام هذا القانون أو أي قانون آخر" وكما هو واضح من خلال تعريف المشرع السوداني فإن الجريمة تشمل أي فعل يجرمه القانون الجنائي والقوانين المكملة لها السارية المفعول .

 

      ومن خلال هذه التعاريف نجد أن  البعض من الفقهاء اعتمد المعيار الشكلي  لتعريف الجريمة  ، أي يجعلون مناط التعريف العلاقة الشكلية بين الجريمة والقانون الجنائي لاسيما نصوصه العقابية ، فالجريمة في نظرهم هي الواقعة التي ترتكب بالمخالفة لقواعد القانون الجنائي التي حصرها الشارع ورتب عليها عقوبة جنائية ، سالبين من الجريمة جوهرها إذا أن الجريمة في حقيقتها واقعة تنطوي على ضرر وتهديد للمجتمع حماها المشرع الجنائي بقواعده ، والأصل أن المشرع عندما يحرم الأفعال يفعل ذلك حماية للمجتمع من عبث المارقين عن تقاليد المجتمع ، وهي في ذلك تختلف مع من يجعلون من موضوع الجريمة أساساً لتعريفهم ، أي  مع أولئك الذين يرتكز تعاريفهم على جوهر الجريمة باعتبارها واقعة ضارة بمصالح المجتمع الأساسية والتي يقوم عليها أمنه وكيانه ، حفاظا على مقومات الحياة الاجتماعية ووجودها متأثرين في ذلك بالمدرسة الموضوعية التي تجرد الظاهرة الإجرامية من العناصر القيمية ، فالجريمة والمجرم في نظرهم يستمدون وجودها ليس من القانون إنما من وجود المجتمع ذاته(18).

 

     وعليه يمكننا القول بأن الجريمة هي إتيان فعل أو تركه عن إرادة جنائية إضراراً بمصلحة اجتماعية حماها المشرع بقواعد تجرمه وتعاقب عليه جزائياً . ويتميز تعريفنا هذا بأننا قد راعينا فيه الجانب الموضوعي والشكلي للجريمة ذلك أن بعض الأفعال تعد من قبيل الأفعال التي حرمت إتيانها ولكنها في حقيقة الأمر لا تعد من قبيل الأفعال المعاقب عليها قانوناً مثال ذلك إزهاق روح إنسان دفاعا عن النفس أو إزهاق روح إنسان بحقها كإعدامه استيفاء للعقوبة المحكوم بها ، فإن إزهاق الروح في ناحيته الشكلية يحقق السلوك المنهي عنه والمجرم بنصوص القانون الجنائي  ، بينما في حقيقة الأمر لا يعد من قبيل الجرائم المعاقب عليها قانونا لأنها لم تمس المجتمع بأي ضرر لأنها تمت في إطارها  الشرعي ، كما راعينا في تعريفنا السلوك الايجابي والسلبي المحرم ، بجانب شموله للعقوبات والتدابير الاحترازية التي لا تشملها لفظ العقوبة حيث أن الجزاء يشمل العقوبة والتدابير معاً.

 

 

   ونخلص من هذا كله أن هناك توافق بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للفظ الجريمة والمعنى فيهما متقارب في بعض صوره حيث أن هذا اللفظ استعاره الفقه لإطلاقه على كل اكتساب مكروه وفي ذلك يقول الإمام أبو زهرة " يظهر أن هذه الكلمة خصصت في القرآن للكسب المكروه غير المستحسن ولذلك كانت كلمة جرم يراد منها الحمل على فعل حملا آثماً(19)"، كما أن اللفظ الاصطلاحي في الفقه الإسلامي يتفق تمام الاتفاق مع الفقه الوضعي في تعريف الجريمة  حيث أن الفقهان يتفقان على أنه إتيان أو ترك لما يأمر به الشرع والقانون. كما أتضح لنا أن الجريمة في وصفها الدنيوي الذي ينفذها الحاكم يطابق التعريف الوضعي للجريمة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

* * * * * * *

 

 

 

المطلب الثاني

 

الجريمة  في  مدلولها

 

الجنائي والمدني والإداري

 

 

      للجريمة في القانون معان متعددة بتعدد أفرع القانون التي تتناولها فهنالك الجريمة الجنائية ، والجريمة المدنية والجريمة التأديبية أو الإدارية ، إلا أن لفظ الجريمة المتعارف عليه ينصرف إلى المدلول الجنائي باعتبارها أهم أنواع الجرائم ، وسنحاول في هذا المطلب إعطاء نبذة موجزة عن مدلول الجريمة الجنائية والمدنية والتأديبية بالقدر الضروري فقط الذي يجعلنا لا ننأى عن نطاق بحثنا .

 

الجريمة في مدلولها الجنائي : 

 

      وهي الجريمة التي تترتب عند إتيان فعل منهي عنه أو عند ترك فعل مأمور به بموجب القانون الجنائي ، وتكون من ذو أهلية جنائية ، أي هي الأفعال التي فيها مخالفة لأحكام القانون الجنائي وهي جرائم محددة على سبيل الحصر ،  والجريمة الجنائية تخل بمصلحة أساسية تصدر عن إرادة جنائية فيه عدوان على المجتمع وتكون إما بإتيان فعل يخالف بها القانون الجنائي أو بالامتناع عن فعل يأمر القانون بإتيانه ، ولا يكفي فيه أن يكون مخالفا للأخلاق أو أن يكون محل استهجان أو استنكار من العامة بل لابد أن يوصف الفعل بأنه مخالف للقانون الجنائي ومخصص له عقوبة أو تدبيرا احترازيا والعقوبة الجزائية هي التي تمييز الجريمة الجنائية عن غيرها من الجرائم(20).

 

الجريمة في مدلولها المدني  :  

 

     الجريمة المدنية عبارة عن تصرف ضار بالغير يوجب التعويض ، ويتساوى فيه صدوره  من ذو أهلية كاملة أو ناقصة  ، وسواء صدر عن قصد أم خطأ وسواء تسبب  في الضرر شخص طبيعي أو شيء من الأشياء(21) ، فكل فعل نتج عنه ضرر للغير تعد جريمة مدنية ، ولهذا السبب نجد أن القانون لا يحدد الجرائم المدنية على سبيل الحصر ،  بل يكون التعويض بناء على القاعدة العامة التي توجب جبر الضرر ، ولقد بينت المادة 138 من قانون المعاملات المدنية لعام 1984 تلك القاعدة بقولها "كل فعل سبب ضرراً للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض ولو كان غير مميز " والجريمة المدنية مثلها مثل الجريمة الجنائية يمكن تصورها  بإتيان فعل يسبب ضررا للغير أو بالامتناع وفي ذلك ينص قانون المعاملات المدنية السودانية لسنة 1984على أنه " يعتبر فعلاً ضاراً يستوجب المسئولية امتناع الشخص عن تقديم يد المعونة لحماية الغير من خطر يداهمه في النفس أو العرض أو المال إذا كان في مقدوره أن يبذل هذه المعونة دون أن يتعرض لخطر"(22) . وعموماً فإن أغلب التشريعات العربية لم تطلق أسم الجريمة المدنية على التصرفات التي تتسبب ضررا للغير واستخدمت بدلا عنها لفظ المسئولية المدنية و التقصيرية والفعل الضار وغيرها من الألفاظ الدالة عليه وتكاد تكون هذه التسمية منحصرة فقط في المراجع والكتب .

 

    وعرف الفقهاء الإسلاميون موضوع الجريمة المدنية ولكنهم لم يطلقوا عليه هذه التسمية التي استخدمها القانون الفرنسي ومن تأثروا به ، والأصل أن كل فعل ضار بالإنسان أو بماله مضمون على فاعله إذا لم يكن له حق فيه في الشريعة الإسلامية والضمان أما عقوبة إذا كان الفعل يستوجب ذلك ، أو تعويض مالي إذا لم يكن الفعل يستوجب العقوبة ، أو عقوبة وتعويض معاً إن كان الفعل يستوجب عقوبة وترتب عليه ضررا مادياً أو معنوياً(23) .

 

     ويتفق الشريعة الإسلامية مع القوانين الوضعية في تعويض المضرور من فعل الغير مدنياً سواء كان هذا الفعل يستوجب عقابا جنائيا أم لا ، والضرر مجبور في النظامين.  

 

الجريمة في مدلولها الإداري أو التأديبي:

 

      هي تلك الجرائم التي يرتكبها الشخص في سياق عمله إخلالا بواجبات وظيفته أو مهنته ، والقانون السوداني ورغم أنه لم يطلق هذه التسمية على الجرائم المرتكبة في سياق العمل ،  إلا أنها شملتها بالنص في قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 في الفصل الخامس تحت مسمى الإضرار الشخصي الوظيفي والمهني ومن هذه النصوص فإن الجريمة الإدارية تتحقق متى ما استغل الشخص وظيفته أو عمله ، أو أهمل فيه أو اخل بموجباتها بصورة تسبب بها إضرارا للدولة أو الغير .

 

   ولقد حددت بعض الجرائم الإدارية في قانون المعاملات المدنية على سبيل المثال لا الحصر منها تعطيل الخدمات أو حرمان الغير من خدمة أو من منفعة مشروعة عمدا أو دون عذر مشروع ، كما أن المحاباة دون سبب مشروع يعتبر أضرارا وظيفيا أو مهنيا بالغير(25).

 

        كما يمكن تصور ارتكاب الجريمة الإدارية ضد الدولة وهيئاتها وذلك من الموظف العام الذي يخل بواجبات وظيفته قصدا أو إهمالا(26) . ومثال ذلك أن يكون الضرر نتج للمحاباة غير المشروعة في أي أمر عام أو ذي صبغة عامة ، أو استغلال الستار الوظيفي لتحقيق صفقات خاسرة أو وهمية أو منفعة خاصة أو إجراء مفاوضات تضر بالدولة سواء أكان ذلك لمجرد الطيش وعدم المبالاة أم لتحقيق منفعة شخصية أو منفعة للغير وكذلك إعداد تقارير كاذبة أو  مضللة في أي أمر ذي صبغة عامة أو متعلقا بموظف عام نفعا أو ضررا(27).

 

  والجرائم الإدارية "التأديبية" يصعب حصرها جميعا لذا يكتفي المشرع بتحديد عام مع إفساح المجال للقضاء الإداري "التأديبي" واللجان التأديبية بتحديد أنماط الجرائم التأديبية ، ومع هذا لا ينبغي أن يعاقب الشخص على الأفعال التي لا تنطوي على شيء مناف للأمانة والكرامة أو الشرف أو تكون وقعت أثناء استعمال حق ، على أن الشارع ورغم أنه لا يقوم بحصر الأفعال التي تعد من الجرائم التأديبية ، إلا أنه يقوم بتحديد الجزاءات الإدارية التأديبية على سبيل الحصر ، ولا يجوز للجان والقضاء الإداري أنزال عقوبة لم ينص عليه القانون أو اللوائح الداخلية للجهة التي ينتمي إليها الموظف أو المهني(28) . ومثال ذلك التحديد، الجزاءات الواردة  في قانون محاسبة العاملين بالخدمة العامة لسنة 1994في المادة 27 والتي حصرت  الجزاءات في التالي :-

 

        أ‌-  التأنيب

 

     ب‌-     غرامة لا تزيد عن مرتب ثلاثين يوماً،

 

     ت‌-     الحرمان من العلاوة السنوية، لمدة لا تجاوز عامين اثنين،

 

     ث‌-      تأجيل الترقية، عند استحقاقها، لمدة لا تجاوز عاماً واحداً،

 

      ج‌-     تخفيض الدرجة بما يزيد عن درجة واحدة ،

 

  ح‌-  الفصل من الخدمة على أن يكون وجوبيا في حالة الإدانة الجنائية بجريمة خيانة الأمانة بوساطة محكمة مختصة .

 

 على أنه ينبغي الملاحظة أن بعض الجرائم التأديبية تشكل في حقيقتها جرائم جنائية معاقب عليها بموجب قانون الجنايات مثال بعض الجرائم الواردة في الباب العاشر في القانون الجنائي السوداني لسنة 1991 والمتعلقة بجرائم الموظف العام والمستخدم(29) أو مثال التوقف عن الخدمة الذي يسبب خطـرا على الحـياة أو ضررا للجـمهور(30) والأمثلة على ذلك كثيرة في القانون الجنائي .

 

     ومهما يكن من وصف للجريمة الجنائية فان ذلك لا يؤثر على تطبيق الجزاء الإداري ، كما أن الحكم الإداري الصادر في الدعوى التأديبية لا يمنع من إقامة دعوى الحق العام ولا الحكم الجنائي الصادر في دعوى الحق العام بمانع لإقامة الدعوى التأديبية ، ومع هذا يجب على القضاء التأديبي أن يحترم إلى حد ما قوة الشيء المحكوم فيه  نهائيا أمام المحكمة الجنائية من حيث الوصف القضائي للواقعة إيجابا أو سلبا(33) ، بل نجد في السودان قانون محاسبة العاملين بالخدمة العامة لسنة 1994م توجب فصل العامل من الخدمة في حال ثبوت الإدانة الجنائية بجريمة خيانة الأمانة بوساطة محكمة مختصة .

 

   وفي الشريعة الإسلامية لم يفرق الفقهاء بين الجريمة الجنائية والجريمة التأديبية أو الأخطاء الإدارية ، والعلة في ذلك ترجع إلى طبيعة العقوبات في الشريعة الإسلامية من ناحية ، والى تحقيق العدالة من ناحية ، فالجرائم في الشريعة أما أن تكون جرائم حدود أو جرائم قصاص أو جرائم تعازير ، والخطأ الإداري إذا لم يكن جريمة من جرائم الحدود أو القصاص فهو من جرائم التعازير ، وليس من العدالة محاكمة المجرم جنائيا وتأديبيا حيث أن في ذلك معاقبته مرتين في فعل واحد لان العقوبة التأديبية هي عقوبة تعزيرية وهي في حقيقتها عقوبة جنائية(35) . 

 

    ونحن نرى عدالة ما عليه الفقه الإسلامي حيث أن في معاقبة مغترف الخطأ الإداري أما القضاء الجنائي والقضاء الإداري التأديبي فيه مخالفة للمبدأ القانوني الذي يحظر عودة محاكمة المتهم عن فعل سبق وتحاكم فيه ، وأقرت هذا المبدأ  القوانين الوضعية ، ومن قبلها الشريعة الإسلامية ، ما لم يكن المحاكمة الإدارية القصد منها الفصل من الخدمة حيث إن ذلك ليس من سلطة القضاء الجنائي التي توقع العقوبات المحددة في القانون الجنائي ، ففي هذه الحالة فقط يمكن محاكمته إداريا على إلا يوقع عليه عقوبة أخرى إلا الفصل بسبب الإدانة الجنائية لان من شروط تولى الوظائف الاستقامة والصالح .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

* * * * * * *

 

 

 

 

المطلب الثالث

 

التميز بين الجريمة

 

الجنائية والمدنية و التأديبية

 

 

       تختلف الجريمة الجنائية عن الجريمة المدنية والجريمة التأديبية ، من حيث طبيعته ونوع العقوبة وغيرها من الفوارق التي يميز بها الجريمة الجنائية عن غيرها من الجرائم ، حيث أن الجريمة الجنائية تحدد عدم مشروعيتها من نصوص القانون الجنائي ، والجريمة المدنية تحدد صفتها غير المشروعة قواعد القانون المدني ، أما مصدر الدعوى التأديبية فهو قانون الخدمة المدنية بالنسبة للموظفين العموميين وقانون المهنة والحرفة بالنسبة للمهني والحرفي  .

 

       كما يختلف ضابط انعدام المشروعية في كل من الجريمة الجنائية والجريمة المدنية والجريمة التأديبية ، حيث يكون في الجريمة الجنائية بخضوع الفعل لنص تجريم وعدم خضوعه لسبب إباحة ، بينما ضابط انعدام المشروعية في القانون المدني هو أحداث الفعل ضررا واقترانه بخطأ ، أما الضابط في قانون الخدمة المدنية هو الإخلال بواجبات المهنة أو الوظيفة التي ينتسب إليها الفاعل .

 

       ومن ناحية السبب الذي يستند عليه الدعوى نجد سبب الدعوى في الجريمة الجنائية الاعتداء على أمن المجتمع ومصالحه ولو لم تسبب ضررا ، بينما سبب دعوى في  الجريمة المدنية الأضرار بالغير ، أما سبب الدعوى في الجريمة التأديبية فهو الاعتداء على هيئة عامة.

 

      ومن أهم الفوارق أن الأفعال التي تشكل الجرائم الجنائية تحدد على سبيل الحصر بموجب القانون الجنائي والقوانين المكملة لها  ، بينما لا يتم تحديد الأفعال التي تشكل الجرائم المدنية والتأديبية على سبيل الحصر .

 

    ومن ناحية العقوبة والجزاء نجد أن في الجريمة الجنائية يوقع العقوبة الجنائية الواردة في صلب القوانين الجنائية ، بينما في الجريمة المدنية الجزاء يتمثل في تعويض المضرور من الجريمة المدنية أما في الجريمة التأديبية فيتمثل في  الجزاء الإداري .

 

    يمثل الضرر في الجريمة المدنية أهم الأركان ، بينما لا يعد الضرر ركنا من أركان الجريمة الجنائية والجريمة التأديبية . كما أن للركن المعنوي في الجريمة الجنائية أهمية تفوق أهميته في الجريمة المدنية والجريمة التأديبية .

 

    يسعى المشرع من تجريم الأفعال الجنائية وتوقيع العقوبة الجنائية تحقيق العدالة الاجتماعية وصيانة أمن المجتمع ، والمحافظة على مصلحة الجماعة وصيانة قيمها الأخلاقية ولا شي من ذلك في الجريمة المدنية والتأديبية . كما أن العقوبات في الجريمة الجنائية والتأديبية متنوعة ومتعددة أما في الجريمة المدنية فهي تتمثل في التعويض دون غيرها .

 

   

 

 

 

 

* * * * * * *

 

 

 



(1) الإمام محمد أبو زهرة ـ الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي ـ الجريمة ـ دار الفكر العربي ـ ص 12

 

(2) إسماعيل بن حماد الجوهري ـ الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ـ دار العلم للملايين بيروت ـ الطبعة الرابعة 1407 ه‍ - 1987 م  ـ حققه أحمد عبد الغفور عطار  ج 5   ص 1885

 

(3) أبى الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الأفريقي المصري ـ لسان العرب ـ نشر أدب الحوزة إيران 1405 ج 21   ص 91

 

(4)  محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي ـ تفسير القرطبي ـ دار الشعب بالقاهرة 1372 ـ الطبعة الثانية ـ حققه أحمد عبدالعليم البردوني ـ ج 6 ص 45

 

(5) بطرس البستاني ـ محيط المحيط قاموس مطول للغة العربية ـ مكتبة لبنان بيروت ـ طبعة جديدة 1983 ـ ص 104 .

 

(6) الخليل بن احمد الفراهيدي ـ كتاب العين ـ مؤسسة دار الهجرة إيران ـ الطبعة الثانية 1409 ه‍ ـ تحقيق الدكتور مهدى المخزومي الدكتور إبراهيم السامرئي ج 6 ص 118

 

(7) القاموس المحيط - الفيروز آبادى ج 4   ص 88 ، محب الدين أبى الفيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدى الحنفي ـ تاج العروس من جواهر القاموس  ـ مكتبة الحياة بيروت – لبنان ج 9   ص 341 ـ بطرس البستاني ـ مرجع سابق ـ ص 104

 

(8) أبي الحسن على بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي  ـ الأحكام السلطانية ـ دار الكتب بيروت  ص 273

 

(9) عبدالقادر عودة ـ التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي ـ دار الكاتب العربي ببيروت ـ ج1 ص 66

 

(10) عبدالفتاح خضر ـ الجريمة أحكامها العامة في الاتجاهات المعاصرة والفقه الإسلامي ـ مطبعة معهد الإدارة العامة الرياض 1985ـ ص 12

 

(11) الإمام محمد أبوزهرة ـ مرجع سابق ص 22 .

(12) د. معجب بن معدي الحويقل العتيبي ـ حقوق الجاني بعد صدور الحكم في الشريعة الإسلامية ـ مطبعة سفير بالرياض ـ الطبعة الأولى 1413هـ ـ ص  17

 

(13) د. عبدالله بن الشيخ محمد الأمين بن محمد مختار الشنقيطي ـ علاج القرآن الكريم للجريمة ـ مطبعة أمين محمد سالم بالمدينة المنورة ـ الطبعة الأولى 1413هـ ـ ص 17 محيلاً إلى الموسوعة الميسرة ص 626 مؤسسة فرانكلين بإشراف محمد شفيق غربال .

 

(14) د. مأمون محمد سلامة ـ قانون العقوبات القسم العام ـ دار الفكر العربي 1979 ـ ص 84

 

(15) د. يس عمر يوسف ـ النظرية العامة للقانون الجنائي السوداني لسنة 1991م ـ دار ومطبعة الهلال للطباعة والنشر  ببيروت ـ  الطبعة السادسة 2004 ـ ص 81

 

(16). (2) د. محمد نجيب حسني ـ شرح قانون العقوبات القسم العام ـ دار النهضة العربية القاهرة ـ الطبعة الرابعة 1977م ـ ص 45

 

(17) د . عبدالله بن الشيخ الشنقيطي ـ مرجع سابق ص 17 محيلا إلى بحث في الخطوط الأساسية لسياسة الوقاية من الإجرام في الدول العربية رقم 14بغداد 1969

 

(4) د.عبدالفتاح خضر ـ مرجع سابق ـ ص 11

 

(18). (1) د.مأمون محمد سلامة ـ مرجع سابق ـ ص 82

 

(19) الإمام محمد أبو زهرة ـ مرجع سابق  ـ ص 21

 

(20) د. كامل السعيد ـ شرح الأحكام العامة في قانون العقوبات (دراسة مقارنة )  ـ الدار العلمية الدولية ودار الثقافة للنشر والتوزيع الأردن ـ الطبعة الأولى 2002ص 33

 

(21) راجع الفصل الثالث من قانون المعاملات المدنية السوداني  لسنة 1984 المسئولية الناشئة عن الأشياء .

 

(22) المادة 140 من قانون المعاملات المدنية لسنة 19984م

 

(23) راجع في هذا المعنى عبدالقادر عودة ـ مرجع سابق ـ ج1 ص 77

 

(25) قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 المادة 162 /1 ، ومن التصرفات التي اعتبرتها هذه المادة تصرفات توجب المسئولية الإدارية التصرفات التالية " (أ) إعطاء أدوية غير صحيحة تضر بصحة الشخص المعالج دون اتخاذ الحيطة والحذر اللازمين وكذلك الإضرار بالمريض عن طريق التفريط في الواجبات الوظيفية أو المهنية دون اعتبار لخطورة ذلك على صحة المريض أو إجراء عمليات إجهاض غير قانوني أو ختان غير قانوني أو إجراء عمليات جراحية بإهمال جسيم لا يتصور وقوعه  من الشخص العادي في المهنة وفي ظروف الحال، (ب) تعطيل التحري أو الإعلان أو الفصل في القضايا أو إجراءات العدالة دون سبب مقبول وإصدار الأحكام   ضد صريح النص استهتارا بالقانون أو استهتارا بقصد المشرع وخروجا على ضوابط الاجتهاد الفقهي أو استخفافا بحقوق المتقاضين ،(ج) إصدار شهادات مختومة أو ممهورة مزورة سواء أكانت هذه الشهادات مهنية أو إدارية أو طبية أو هندسية أو قضائية أومن  أي نوع آخر مما  يمكن استخدامه لإلحاق الضرر بالغير أو بالمصلحة العامة أو لتحقيق منفعة شخصية  ،(د) استغلال المنصب أو الوظيفة أو المهنة لمضايقة الغير أو تعريضه لخسائر غير مشروعة أو لإصدار تراخيص أو وثائق رسمية لغير مستحقيها قانونا أو عرفا لتحقيق أي منفعة شخصية غير مشروعة للغير أو إلحاق الضرر بالغير ، (هـ) إعطاء نصح مهني مضلل بقصد إلحاق الضرر بالغير أو استهتارا بحقوق طالب النصح دون اعتبار لمقتضيات الاجتهاد العادي المتوقع من  مقدم النصح . (3) دون المساس بأي إجراءات مدنية أو جنائية، يخضع أي من العاملين للمحاسبة بمقتضى أحكام هذا القانون، في حالة أن: ( أ) يهمل أو يرفض الامتثال لأي قانون أو لائحة أو أمر سار عليه أو أي أمر مشروع صادر ليه من رئيسه. (ب) يهمل أو يرفض أو يعوق أو يخل بأداء واجباته الوظيفية.( ج) يصدر من سلوك يتعارض مع أداء واجباته الوظيفية ولا يليق بمركزه الرسمي، ( د) يدان في تهمة جنائية .

 

(26) راجع الفصل الرابع من قانون محاسبة العاملين بالخدمة العامة لسنة 1994م

 

(27). قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 المادة 163 / 3 .

 

(28)  د. كامل السعيد ـ مرجع سابق ـ ص 34

 

(29) من الجرائم الواردة في القانون الجنائي جريمة الرشوة المعاقب عليها بموجب المادة ،  المادة 89 الخاص بمعاقبة الموظف العام الذي يخالف القانون بقصد الإضرار أو الحماية المادة ، والمادة 90 التي تعاقب الموظف العام الذي يسئ استعمال سلطة الإحالة إلى المحاكمة أو الاعتقال. والمادة 91 التي تتحدث الموظف العام الذي يمتنع عن القبض أو يساعد على الهرب. المادة 92 التي تحرم شراء الموظف العام أو مزايدته في مال بطريقة غير مشروعة.

 

(30) القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م المادة 73

 

(33) د. كامل السعيد ـ مرجع سابق ـ ص 35

 

(35) عبد القادر عودة ـ المرجع السابق ـ ص 74

 


  يسري عوض    عدد المشاركات   >>  60              التاريخ   >>  10/5/2006



نأسف لوجود بعض الأخطاء المطبعية واللغوية حيث لم يتم مراجعة البحث بعد طباعته

نعم المحدِّثُ والرفيقُ كتابُ *** تلهو به إن خانك الأصحابُ لامفشياً سراً إذا إستودعته *** وتُنال منه حكمةٌ وصــوابُ

د.  يسري عوض عبدالله

مجموعة شركات الفوزان الإدارة القانونية

yussrilawfirm@hotmail.com


 
 

 

الانتقال السريع           

 

  الموجودون الآن ...
  عدد الزوار 2968 / عدد الاعضاء 62