نقابة المحامين بالغربية
لجنة الشريعة الإسلامية
بــحــــــــــث
الـشــورى فــي الإســـلام
اعــــداد
احـمـــد عــبــدالمـنـعـم زيــدان
الـمـحــامــى
بالاستئناف العالى ومجلس الدولة
اهــــــــــداء
الى من تعايشنا خصوم راى لا عقيدة.. واحباء وزملاء مهنة
قاصدين مصلحة المحامين والمحاماة
ثم انتهى بنا المطاف بنا وكاْنها ارادة الله عزوجل ان نكون رفقاء ارقى رحلة .. الى اطيب ارض لاداء فريضة الحج ..
فكنت نعم الرفيق ، وخير الدليل
الى/ ابو اسلام ...
الى الاخ الحبيب/ محمد هجرس ( رحمه الله)
واسكنه فسيح جناته
مــقــدمــــــــة
لابد بادئة من التعرّف على الأنظمة العربية للحكم قبل الإسلام ، وهذا يقتضي تحليل المقومات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي أسهمت في قيام التجمعات الإنسانية للمجتمع العربي قبل الإسلام، والتي أسهمت بدورها في قيام أنظمة الحكم المشنقة من طبيعتها الاجتماعية، ومن خصائصها الإنسانية في المعيشة والحياة.
وقد كانت الحياة العربية قبل الإسلام، حياة تلقائية، تتجاوب مع حقيقة التجربة الفعلية، بعيداً عن التعقيد وعن تغليف مضامين الحكم بالمناحي النظرية وأسس الفلسفة السياسية المتعمقة، أي إن تحديد طبيعة أنظمة الحكم، وأسباب قيامها وأشكالها وأنماطها القيادية، وأنشطتها ومعطياتها النظرية والتطبيقية، إنما يعتمد- أساساً- على وجود هذه الأنظمة، عبر الأبنية أو على نمط الحياة المتفردة، ومن خلال شكليها القائمين على نمط الحياة الاجتماعية (البدوية)، أو على نمط الحياة الاجتماعية (الحضرية)؛ ذلك لأن منطلقات نظام الحكم ترتبط تاريخياً ومستقبلياً، مع تلك الأسس والروابط الاجتماعية، التي بُنيت عليها حياة المجتمع- وبالأخص المجتمع العربي- الذي تبلورت نظم الحكم فيه، بتلك التعاليم والتقاليد والأعراف والمعرفة الاجتماعية، ومتطلبات العصبية التي آمن بها الفرد عبر تاريخه ومعتقداته، بالإضافة لارتباطه الدائم بأساليب الحياة العامة، وبالتحولات التي يمارسها على صعيد السلوك والحركة.
وقد شكَّل مثل هذا الارتباط أثراً متواصلاً في مسيرة المجتمع العربي قبل الإسلام إزاء تطور نظمهِ على اختلاف مجالاتها، بما في ذلك نظام الحكم واتجاهاتهِ القيادية، من خلال التقاء الأفراد مع بعضهم البعض، وتحقيق متطلباتهم المادية وغير المادية، وهذا الارتباط يتطلب- تحت جميع الظروف والأحوال- الانضواء تحت مظلة نظام الحكم أو القيادة واستجابة الآخرين لهذا النظام، بما من شأنهِ تأمين سُبل المصالح المشتركة، وتلبية الاحتياجات الملحة، وضمان استمرارها، وتحقيق المطامح، ذلك لأن الإنسان كائن اجتماعي، وأن الحاجة تدعوه بشكل مستمر، للعمل خارج إطار فرديته محدودة العطاء، لأن الخالق (تعالى) قد خلق الإنسان على وجه يجعله لا يعيش بذاته، بل لا بد له من الاجتماع بغيرهِ، لكي تقوم الهيئة الاجتماعية التي يتوقف عليها المطعم والملبس ودوام العيش والبقاء في الحياة. وفي ظل مطلب الاجتماع، يرى "ابن خلدون" أنه: لا بد للناس من إيجاد الحكم ومن ضرورة الانقياد لرئيس متميز في هيئتهِ ومظهرهِ وأخلاقهِ ورجاحة عقله. مما يعني، التأكيد على أهمية المعرفة بالظروف والأحوال الاجتماعية والاقتصادية، التي أسهمت في بناء التجمعات الإنسانية، بوصفها من المؤشرات المهمة، المؤدية إلى دراسة أنظمة الحكم أو ما يعرف بالمُلك عند العرب.
ونظرًا لتنوع اهتمامات الإنسان العربي، فقد آثر الاجتماع والانضواء ضمن وحدات منتظمة، تقوم على أساس التقاء المصالح، وعلى أساس صلة الدم والقرابة، سميت بأسماء متعددة، تفصح عن حجمها وأعدادها في الكبر والقلة، مثل: الشَّعب، القبيلة، الِعمارة، البطن، الفخذ، العشيرة، الفصيلة.
ويُعدُّ الشعب، ثم القبيلة، فالعمارة، من أكبر وحدات التجمع الاجتماعي المنظم التي أسهمت في نشأة التجمعات العربية قبل الإسلام، ودللت على نمط الحياة الاجتماعية والسياسية، وعلى خصائص نظام الحكم القائم في كل وحدة اجتماعية بدوية كانت أم حضرية.
ويشير الواقع التاريخي في بلاد الجزيرة العربية إلى انتشار كثير من المدن والحواضر والممالك التي حظيت بالاستقلال السياسي لممارسة شئونها في الحكم والإدارة، قبل ظهور الإسلام، دون أن تخضع لمراكز الدول الأجنبية الكبيرة آنذاك، مثل الإمبراطورية الرومانية أو الفارسية، ما عدا البعض القليل منها، بحكم التقارب الجغرافي، كما حدث بالنسبة لدويلة المناذرة في العراق، وبالنسبة لدويلة الغساسنة في بلاد الشام. وإلى جانب تلك الشواهد المستقرة، كانت هناك المدن المنتشرة فوق أرض الجزيرة، ذات الاستقلال في حكوماتها معلومة النطاق، مثل مكة والطائف ويثرب، وغير ذلك، ثم هناك الأنظمة القبلية التي تمثل نمط القبيلة كوحدة سياسية واجتماعية، مستقلة، وتتخذ من نمط البداوة والترحال منطلقًا لممارسة شئونها وحياتها وانضباطها، وكل هذا الواقع التاريخي للمجتمع العربي، يدفع إلى القول بأنّ نظم الحكم للمجتمع العربي قبل الإسلام، كانت مرهونة بالهيكل الاجتماعي على أساس الاستقرار أو عدم الاستقرار الجغرافي، وأن سمات تلك النظم قد اكتسبت حراكها النسبي، سعياً وراء إثبات الشخصية العربية، والتكيف مع متطلبات العيش والاستمرار في الحياة، مما يجعلنا نقف عند نظم اجتماعية مختلفة في تبنّيها لأنماط الحكم، أسوةً باختلاف أسلوبها في الحياة والتكيف مع البيئة، ومن خلالها يمكن الوقوف عند أنماط نظم الحكم، التي قد تعاصرت وتواصلت وتكاملت بعضها مع البعض، لتقيم دلائل معروفة للخلفية السياسية وللبناء الاجتماعي للمجتمع العربي، منذ نشأتهِ وحتى مجيء الإسلام.
لذا كان لازما علينا - من وجهة نظرنا – ان نعرف من هو الحاكم وماهى السلطة في الإسلام حيث أنهما محل الشورى في الإسلام وجوهر تطبيقها .. ثم نعرج لمقارنه بين الشورى الإسلامية والديمقراطية كأحد النظم الغربية التي يتشدق أصحابها بأنها النموذج الامثل للحرية وسيادة الأمة .. ثم نتكلم عن لب موضوع بحثنا وهى الشورى في الإسلام من خلال مباحث عدة .. ثم نختم بالهدف المنشود من البحث – من وجهة نظرنا – انه هل يمكن تطبيق الشورى الإسلامية في وقتنا الراهن وعصرنا الحالي .
لذا سنناقش في بحثنا وموضوعه (( الشورى في الإسلام)) على أربعة فصول :-
الفصل الأول :- التعريف بالحاكم والسلطة في الإسلام.
الفصل الثاني :- الديمقراطية والشوراقراطية
الفصل الثالث :- الـشـــورى فـي الإسلام
الفصل الرابع:- الشورى الإسلامية المعاصرة
الخـــاتــمـــة
الفصل الأول
التعريف بالحاكم والسلطة في الإسلام
1- يُعرّف حاكم الدولة الإسلاميّة:- بأنّه ذلك الشخص الموثوق به كفايةً وعقلاً وتقوى وشجاعة وقدرةً في تحمل وأداء ما أنيط به من مهامٍ جسام، تتناسب مع علو منصبهِ الذي يجمع فيه بين حماية المصالح الدينية، وسياسة المصالح الدنيوية، وتوحيد الجهود الإنسانية نحو عبودية الخالق (تعالى)، وإقرار قيم الفضيلة والسلام والعدل.
وهذا يعني أن الحاكم للدولة الإسلاميّة، هو صاحب السلطة العليا في الأمة المتمثلة في الحكومة الإسلاميّة الشرعية التي تحكمها قوانين الشريعة الإسلاميّة المنظمة للشئون العامة.
*- ألقاب الحاكم للدولة الإسلاميّة:-
تعدّدت الألقاب التي أطلقت على الحاكم في الدولة الإسلاميّة، وقد اختصت علوم الفقه، بتبنّيها لثلاثة مصطلحات رئيسة، من الألقاب التي كان يتسمّى بها حاكم الدولة، وجاء ذلك التبنّي، من خلال المراجعات التحليلية، لمسيرة نظام الحكم الإسلامي، خاصة خلال الفترة النبوية، والفترة الراشدية، وهذه المصطلحات هي (الخليفة، وأمير المؤمنين، والإمام)، وهي التي تمثل المصطلحات الأكثر شيوعاً واستخداماً على صعيد المنهج والتطبيق .
.. هذا، ومما يلاحظ على تلك الألقاب الثلاثة، توافق معانيها واتفاق مضامينها مع بعضها البعض، فالخليفة صاحب الخلافة، وأمير المؤمنين صاحب إمارة المؤمنين، والإمام صاحب الإمامة، وكلها تؤكد على معاني القيام على الأمور، والتقدم في تولي نواصيها. وفيما يختص بحكم الدولة الإسلاميّة، فقد جاءت تسمية الخلافة أو إمارة المؤمنين أو الإمامة، علي أنها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وكذلك علي أنها حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية … {أي} خلافة صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
.. إلا انه ليس شرطاً واجباً أن يطلق على رئيس الدولة الإسلاميّة أيٌّ من تلك المصطلحات، وإنما الشرط الواجب هو خضوع الرئيس للشريعة الإسلاميّة ولمصادر التشريع الإسلامي، والالتزام بها، وعدم مخالفتها، سواء أكان لقبه خليفة أم أمير المؤمنين أم إماماً، أم رئيساً للجمهورية أم ملكاً يأخذ الناس بالعدل والرحمة.
2- مدلول السلطة والنظام السياسي في الإسلام:-
لقد أقر الإسلام السياسة مفهومًا وسلوكًا، وأحاطها بضوابط الشرع الحكيم، كما أن الإسلام- بوصفه نظامًا ومنهجًا- قد تَوفَّر له جميع المقومات، التي من شأنها إقامة السلطة والنظام السياسي في بيئة المجتمع الإسلامي، وذلك من خلال تبنيه لمفهوم السياسة الشرعيّة، التي تُشكّل جوهر عمل السلطة والنظام السياسي ومبتغاه، حيث استمد النظام السياسي -انطلاقاً من ذلك- أطر مكوناته النظرية والعملية، واستطاع بلورة منطلقاته وقواعده المهمة، من تلك الأصول والأحكام التي وفرتها له المصادر الشرعيّة للمنهج الإسلامي، وجعلته يستند إليها، بوصفه نظامًا سياسيًا يتمتع بالمعرفة أو العناصر النظرية والمبدئية، إلى جانب تمتعه بالتوجهات والممارسات العملية والتطبيقية، سواء ما يتعلق بسياسة الدولة الداخلية والخارجية وواجباتها، وما يختص بسلطة أجهزتها ونظمها، أو ما يتعلق بنظام الحكم وأسسه وقواعده، وطرق ممارسة السلطة للحكم، وما يرتبط بنظام الحكم من أحكام وقوانين ونظم أخرى إدارية ومالية وقضائية، وغير ذلك من الأطر النظامية التي أكسبت النظام السياسي في الإسلام سمة الوضوح وشمولية المضامين، نظرًا لارتباطه بغايات الرسالة الإسلامية وبمتطلبات تحقيقها القائمة على ذلك الارتباط المُحكم في العلاقة بين الأمة والدولة والحكم، وبين ما تدعو إليه تلك الرسالة العظيمة.
ونركز هنا على تناول دقيق لمدلول السلطة والنظام السياسي في الإسلام، حسبما يأتي:
*- مدلول السلطة في الإسلام:-
لقد ترسخت فكرة السلطة في الإسلام من خلال قيادة نبي الله ورسـوله محمـد(صلى الله عليه وسلم)، بوصفهِ نبياً مرسلاً وقائداً عامّاً على المؤمنين بنبوتهِ ودعوتهِ، وتواصل هذا الترسيخ في السلطة عبر استمرارية قيام الدولة الإسلامية، خلال عصورها اللاحقة، وخلال اضطلاع الفقه الإسلامي بالتنظير المعرفي والشرعي لمضمون السلطة في الإسلام، مما يعني أن موضوع السلطة في الإسلام، قد تبلور ضمن ثلاثة مرتكزات أساسية، تجعل منه موضوعًا أصيلاً عبر المنهج الإسلامي وهي:
المرتكز الأول: ويُعبّر عن ممارسة السلطة في الإسلام بطريقة فعلية وعملية من قبل الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وحظيت بالدعامة الدينية التي يتمتع بها الرسول (صلىالله عليه وسلم)، فضلاً عن الدعامة السياسية.
المرتكز الثاني: ويُعبّر عن ممارسة السلطة في الإسلام، بطريقة فعلية وعملية من قبل خلفاء الرسول في العهد الراشدي والأموي والعباسي، وحظيت بالدعامة السياسية والمجتمعية.
المرتكز الثالث: ويُعبّر عن أن السلطة في الإسلام قد شكّلت أهمية فكرية وجذبت إليها اهتمام الفقهاء والعلماء فأشبعوها تحليلاً وتفسيراً، مما جعلها موضع تطور في التوجهات والتأصيلات والشروحات الفقهية التي عززت مكانة العقل السياسي الإسلامي على صعيد النظرية والممارسة.
مما يتضح معه .. أن السلطة في الإسلام تجعل من الحاكم أو الخليفة أو الأمير أو الإمام.. سلطانا على المسلمين ، مما يدفعنا بداية لتعريف شرعي قويم لمدلول ووصف كلمة ( سلطان ) .
فقد رأى القرطبي:- في تفسير قوله تعالى: "وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً"[الإسراء: 33]، أن "سلطاناً" تعني التمكين في المشيئة قتلاً بمثل أو عفوًا أو أخذًا لفدية، معززًا ذلك برأي ابن عباس بأن السلطان هو الحجة، وبرأي الإمام مالك بأن السلطان أمر الله.
كما يوضح القرطبي أيضًا، في تفسير قوله تعالى: "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِين َكَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً" [آل عمران:151]، أن "سلطانًا" تعني الحجة والبيان والعُذر والبرهان، ومنه قيل للوالي أو للحاكم سلطاناً، بوصفه حجة الله تعالى في الأرض، والتسمية مأخوذة من "السليط"، وهي مادة الزيت للإضاءة، حيث إن السلطان يُستضاء بهِ في إظهار الحق وإزاحة الباطل والظلم، كدلالة على القوة والمنعة.
إن مدلول السلطة في استعمالات القرآن الكريم، يعكس معاني الصلاحية والقوة السليمة الممنوحة أو المرخص بها، من خلال ممارسة ذوي الحق لها كما تؤيدها أحكام الشريعة، ودلّ الشارع تعالى على مكانتها بالطريقة التي تتماثل فيها تلك المعاني مع تعريف السلطة العامة، مثلما جاءت في ضوء القانون المقارن، حيث إنها تعني حق الأمر أو الحق في إصدار الأوامر الملزمة إلى مواطني الدولة، وهنا فإن مدلول السلطة في الإسلام، يتجلى عبر وجود السلطة بصورتها الموحدة، دون تفريق بين سلطة دينية وسلطة دنيوية، حيث إنها سلطة مجتمعة، يقوم على رأسها الحاكم أو الخليفة، ويكون هدفها متركزًا على حماية الدين وسياسة الدنيا به، من خلال استناد هذهِ السلطة إلي أحكام الشريعة واستمداد القوة منها.
وقد رأى الماوردي:- أن السلطة الشرعيّة في الإسلام، هي تلك السلطة التي تحوز على قبول الأمة بها، وإيكالها إلي حاكم يحظى بثقة الأمة، دون أن يكون غاصبًا لها، ودون أن يكون مطمعًا في الخروج عليه.
ويترتب على كون السلطة الشرعيّة في الإسلام سلطة عامة موحدة، مجموعة خصائص دالة على أبعاد هذهِ السلطة العامة، وهي:
أ- إنها سلطة تشمل جميع مؤسسات وهيئات الدولة في مختلف الاختصاصات.
ب- إنها سلطة عليا متفوقة، لا تعلو عليها سلطة أخرى في مضمار نشاطها واختصاصها، وفي علاقتها بالأفراد والجماعات داخل الدولة، أو في علاقتها مع الدول الأخرى.
ج- تتفرع عنها سلطات واختصاصات تمارسها هيئات حاكمة (تشريعية، وتنفيذية، وقضائية).
د- تمتلك السلطة العامة أحقية الاستئثار بالقوة العسكرية وتوجيه حركاتها وفعالياتها، كمطلب يعكس الجانب السيادي لها وتفوق إرادتها دون انتقاص، وبالتالي تمكينها من بسط سلطتها العامة على الكافة ومواجهة حالات العصيان والتمرد.
هـ- تنفصل إرادة السلطة العامة عن أشخاص ممارسيها؛ لكونها تُمثّل الدولة، فحين يتوفى رئيس الدولة، فإن سلطة الدولة تبقى قائمة ومستمرة.
و- إن السلطة العامة ذات طابع حقوقي فضلاً عن ممارستها للقوة، فهي صاحبة الحق في وضع القواعد الحقوقية في الأمر والنهي، من خلال قناعة أفراد المجتمع بهذهِ الأحقية التي تتفق مع غايات قيام الدولة.
إن هذهِ الخصائص الدالة على أبعاد السلطة العامة في الإسلام، تفصح عن حقيقة مضمون السلطة العامة ومكوناتها من خلال وجود سلطتين أصيلتين فرعيتين، هما:
الأولى: تتمثل في سلطة إصدار الأوامر العامة التي يخضع لها جميع المسلمين، وتسمى سلطة التشريع.
الثانية: تتمثل في سلطة تنفيذ تلك الأوامر العامة بين المسلمين ضمن المجتمع الإسلامي، وهذهِ تُسمّى سلطة التنفيذ والقضاء.
ومما يلاحظ على هاتين السلطتين خضوعهما التام لمقررات الشريعة، وأنهما مقيدتان وليستا مطلقتي التصرف في الأمر والنهي، إلاّ في الحدود التي تسمح بها الشريعة لهما في ذلك.
ويتضح من هذا أن السلطة في الإسلام، سلطة ملتزمة، تخضع لمنهجية القانون كما تمثلها الشريعة الإسلامية بشكل لا يملك الحُكّام معه ذريعة لمخالفتها، ولا تملك الأمة أيضًا ذريعة لمخالفتها أو تبديلها، فالحكام والمحكومون في الإسلام مقيدون بمجموعة الضوابط والقيم الأخلاقية والتشريعية التي كونت إطارًا قانونيًا ملزمًا للأمة بأسرها، أي إن سلطة الأمة في الإسلام سلطة مقيدة بإطار يحدّها ويقيّد إرادتها؛ لكونها سلطة قانون أو شريعة، وليست سلطة نخبة أو فئة قليلة.
وعليه فإن السلطة في الإسلام:-
هي تلك السلطة الشرعيّة المطاعة التي تحظى بثقة المحكومين وقبولهم لها والرضا بها، والامتثال لقراراتها في الأمر والنهي، من خلال اتصافها بالصلاح وقوة تحمّل المسئولية، وهذا بطبيعة الحال يجعل منها سلطة حقيقية، مستندة إلي حيازتها للطاعة من وجهة نظر نفسية وشرعية، حيث إن الجانب النفسي يُعبّر عن ذلك التوافق المبدئي والقيمي بين إرادة السلطة الحاكمة، والمحكومين المسلمين، في ممارسة مهام السلطة وإقامة العلاقات المفضية إلي ما يحقق المصلحة الشرعيّة، من خلال القوانين والأنظمة السليمة.أما من حيث الجانب الشرعي، فيُعبّر ذلك عن كون أعمال السلطة في الإسلام تكشف عن التزامها بأحكام الشرع والدين وجعلها محكومة بسنن الخالق تعالى، وليست سلطة مطلقة لا تحدُّها قيود أو ضوابط الشريعة الإسلامية، بل -على العكس- هي سلطة ملتزمة بذلك، وتجمع طرفي المعادلة الصحيحة التي يقوم عليها نسيج المجتمع الإسلامي وضميره الحيّ من خلال (القانون الصالح فضلاً عن السلطة الصالحة).
ويتضح من ذلك، أن السلطة في الإسلام، ليست من قبيل السلطة (العلمانية) التي تفصل بين الدين والدنيا، وإنما هي سلطة مُبرّأة من هذا التوجّه، وقد نشأت على هدى من دين الله تعالى وأحكامهِ وفضائل الإسلام الأخلاقية، في مباشرة أعمالها الدينية والدنيوية، بالشكل الذي يجعل شخصية هذهِ السلطة إسلامية وحسب،
فلا هي سلطة دينية على حدة، ولا هي سلطة علمانية زمنية على حدة.
وذلك يعني أن السلطة السياسية في الإسلام لا تتجزأ عن المنهج الإسلامي الذي يُمثّل منهجًا للدين والحضارة ونظامًا للمدنية والتقدم والتعامل الدولي المتحضرِ، وأن التكامل القائم في نظم الإسلام يأبى إلا الترابط والتأكيد على قيام السلطة وأهميتها في الإسلام، وعند المسلمين لتمضية مصالحهم الشرعيّة العامة.
.. إن متطلبات الحفاظ على المصالح الشرعيّة للأمة الإسلامية التي تقتضي بدورها إنقاذاً صريحًا لمقومات السياسة الشرعيّة، تفرض على الأمة إقامة نظام سياسي محكم القواعد، يشرع في العمل على صيانة تلك المصالح من خلال سياساتهِ العامة ذات الصفة الشرعيّة المستندة إلي مقررات الشريعة الإسلامية.
فقد تبلور النظام السياسي في الإسلام، من خلال مجموعة مقومات ومرتكزات، أضفت عليه طابع المرونة والحركية بعيدًا عن الجمود والعزلة، ورسخت فيه معالم الحكم الصالح، القائم على أسس الخير والفضيلة والتعاون بين الجهات الحاكمة والمحكومة، وتتمثل هذهِ المرتكزات فيما يأتي:
أ- الرسالة: من حيث إن الإسلام، يمثل رسالة إنسانية شاملة لجميع أهل الأرض، كما يمثل مطلبًا في إحلال الخير والحق والعدل في الحياة الإنسانية، تحقيقاً لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ "[النساء: 135]، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" [سبأ: 28]، "فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ"[المائدة: 48].
ب-القيم العليا الثابتة: من حيث إن الإسلام له غايات أخروية تتمثل في تحقيق مرضاة الخالق تعالى، فكل عمل دنيوي يصدر من الفرد أو المجتمع أو الدولة والحكومة، ينبغي أن يصبَّ في تلك الغايات العليا، عملاً بقوله تعالى: "وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ"[الحج:41]، "لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى"[طه/15]، "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سبيله"[الأنعــام: 153]، "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ"[التوبة: 109].
ج- حتمية الإمامة: من حيث إن الإسلام قد أوجب قيام الحاكم أو الخليفة بين الناس، لضمان رعاية المصالح الدينية والدنيوية واستيفاء الحقوق الشرعيّة، لقوله تعالى: " يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ" [الإسراء:71]، "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ" [آل عمران: 104]، "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ" [النساء: 59].
د- الاستقلال وعدم التبعية: من حيث إن الإسلام، قد أقر بأصالة المجتمع الإسلامي، وقيام الأمة الإسلامية، من خلال جهدها وسعيها وحملها للأمانة وللرسالة، بما يؤكد عدم تبعيتها لجهات أخرى خارجية، تأكيدًا على قدوتها ودعوتها للخير وحمل راية العدل، لقوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا ً"[البقرة: 143]. "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ "[النور: 55]. "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ"[الحديد: 25].
هـ- الحريات والحقوق العامة: من حيث إن الإسلام، قد أوكل للناس - أفراداً أو جماعة أو حكومةً - واجباتٍ شرعية، دون حرج أو ضرر، وكفل لهم بالمقابل حقوقاً مصانة من كل نقصٍ، بصورة تجعلهم أحرارًا في امتلاك زمام أنفسهم وغير مستعبدين أو مُكرهين أو مُستغلين للغير، تحدوهم الكرامة والأمن، وتدفعهم نحو بعضهم البعض روح التعاون على البر، والتقوى، واحترام الحقوق، والتمتع بالحريات الذاتية والاعتقادية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك، لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"[الحجرات: 13]. "وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"[المائدة: 2]. "وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ ريحكمْ" [الأنفال: 46]. "وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ"[الأعراف: 10].
فمن خلال هذهِ المرتكزات، يكون المنهج الإسلامي قد دلّ دون ريب، على قيام النظام السياسي فيه، وهذا النظام السياسي له خصوصية متفردة، تعكس المنهج الإسلامي فقط، دون الانغمار في أيٍّ من المسميات المعاصرة له آنذاك (الكسروية أو القيصرية)، ودون تحميله من المفاهيم الحالية الحديثة (الديموقراطية أو الدكتاتورية)، بما ليس فيه أصلاً، إذ إن طبيعة الالتزام بالمنهج الإسلامي كانت السمة الواضحة في طبيعة النظام السياسي الإسلامي، ويدعم هذا ما جاء على لسان الخليفة الرابع علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حينما خاطب الناس في الكوفة قائلاً: "الزموا السُنّة تلزمكم الدولة ".
.. وهذا كله يرسخ للخصائص الشاملة، التي اتصف بها النظام السياسي الإسلامي، بوصفه نظامًا ينزع إلى العدل والحق في ممارسة السلطة، ويأخذ في حسبانها اقتران الشريعة بالواقع، دون تطرفٍ في المثالية، ودون انغماس في المقتضيات الدنيوية.
وعليه، فإن المنهج الإسلامي- ومن منطلقه الديني- استطاع أن يقدم إطاراً للسياسة العادلة والقويمة، ويتجاوز إطار السياسة المتولدة عن المنهج العقلي المحض، أو تلك المتولدة عن تفسير الحوادث التاريخية، كما يستخلصها المنهج التجريبي، أي إن إطار السياسة في الإسلام لا يتشكّل من طاقة العقل المحدودة، ولا من عجز هذا العقل عن مواجهة مشكلات الحياة الإنسانية الدائمة، ولا من حالات الصراعات بين أقطاب المصالح الذاتية، فضلاً عن أن إطار السياسة في الإسلام لم يتشكل من خلال سلسلة المآسي والمظالم التي أفرزتها الظروف التاريخية للحياة المجتمعية التي كانت سائدة قبل الإسلام، ولا من خلال ما اتصفت به من ضيق في الحوادث، بل من تحديد المعالجات التي يمكن أن تكون محكا سليمًاً لتأسيس منهجي جديد لسياسة مستقبلية ذات امتداد واسع وكبير، كما في المجتمع الإسلامي الذي قدم له الإسلام سياسة جديدة خلت من معايب مناهج السياسات الأخرى العقلية والتجريبية، واتسمت بطابعها الشرعي والأخلاقي، وتبنيها لنواحي العدالة في الحكم، واستيفاء الحقوق، وإسداء الخدمات وتلبية الحاجات، وبناء المجتمع الأخلاقي الفاضل، الذي تناست المناهج الأخرى في السياسة نواحيه الأخلاقية والروحية من قبل ومن بعدُ، ليكون منهج الإسلام هو المنهج الوحيد في إطار السياسة الذي دعم مقوماتها المادية بالمقومات الروحية والدينية، بشكل يمنحه الأحقية والأفضلية والاستعداد الأكبر للنهوض بالأعباء الاجتماعية والسياسية في المجتمع الإنساني، مهما تغيرت الظروف والأحوال، ومهما تبدلت الحوادث والوقائع.
الفصل الثانى
الديمقراطية والشوراقراطية
1- مفهوم الحرية فى الاسلام :-
يدعو مفكرون وسياسيون إسلاميون، إلى إقامة نظام ديموقراطي إسلامي. ويقوم هذا النظام على أساس حرية انتخاب نواب البرلمان ورئيس الدولة، وحرية تداول السلطة. ويرى مؤيدو الفكرة إنها تناسب طبيعة المجتمعات الإسلامية حتى لو كان تكوينها الثقافي والاجتماعي مختلفاً عن الغرب. بينما يرى معارضوها إنها لا تتيح الفصل بين الدين والدولة، وتجعل لرجال الدين الكلمة الأخيرة في كافة التشريعات.
.. إننا نرى أن الدستور الذي ينظم حياة البشر ويرسي العدل بين الناس فهو دستور الله المتمثل في القرآن الكريم ومن هنا تبلور الحق الإلهي في إرساء الشورى والحق المفروض على البشر في المشاركة في الحكم فقال تعالى(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله أن الله يحب المتوكلين) اَل عمران:159 وقال تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) الشورى:38.
ثم نجد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ينزه اجتهاد الأمة من الخطأ حيث قال"إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" رواه ابن ماجة. فبالشورى الإسلامية تكون السيادة في التشريع, ابتداء، هي لله(سبحانه وتعالى)، تجسدت في الشريعة التي هي وضع إلهي وليست إفرازاً بشرياً ولا طبيعياً وللإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة أن تظل السلطة البشرية محكومة بإطار معايير حدود الله الشرعية فأصول الشريعة ومبادئها وثوابتها وفلسفتها إلهية، وهذا يشكل الفصل بين إطار التدبير الإلهي الذي وقف عند الخلق وعند خلاص الروح والانتقال بعد ذلك إلى الحياة الأبدية وبين إطار التدبير الإنساني الذي أعطاه السيادة في تدبير العمران الإنساني.
وهناك ما ميز الموروث السياسي الإسلامي على الوجه النظري أيضا وهو التراتبية في حفظ الأدوار أو عدم التعدي أو المساس بالأولويات فقضاء الله لا شورى فيه ولا خيار حيث قال تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا). (الأحزاب:36) فالحرية هنا ليست امتيازا للأحرار والأشراف والنبلاء والصفوة بل حددتها أطر الاستجابة للتوحيد والعمل به لذلك مثل الإسلام نموذج وفاء لتحقيق المقاصد الإنسانية جمعاء والتي تحددها رؤية الإنسان للكون في كل حضارته الواسعة.
وأما الشورى فقد أخذت الحيز الأكبر عندما كان يحين موعدها ومن الإشارات إلى ذلك هو سبب اختيار المكان الذي نزل به جيش المسلمين في موقعة بدر حين أخذ الرسول الكريم برأي احد الصحابة عندما أدرك الأخير بأن سبب الاختيار هو الرأي والمشورة وليس الوحي مما استدعاه المقام هنا المشاركة في انضاج الرأي وصناعة القرار.
لقد جاء الإسلام ، والتعصب الديني يفرق بين بني الإنسان من نصارى ويهود ومجوس ووثنيين، ثم يفرق التعصب المذهبي بين أهل الدين الواحد، وكان الناس قبل الإسلام يضطهدون من يخالفهم في المذهب الديني ولحسم هذا النزاع نادى القرآن بالتسامح الديني التام حيث قال الله تعالى:(لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي) البقرة: 256) فجعل الإسلام للحرية قيمة أساسية، ذلك أن اعتناق الإسلام كمبدأ يقوم على حرية الاختيار، فلا يصح اختيار الإسلام كعقيدة بالتقليد والناس عندما اتبعت -الرسول صلى الله عليه وسلم- اتبعته بوصفه محررا للناس؛ ولذلك كانوا يأخذون على الرسول الكريم، انه قد اتبعه الأراذل من الناس، وكلمة الأراذل هنا تعني الطبقات المسحوقة فكان للإنسان الحرية في الاختيار ومن هنا جاءت الحرية في اعتناق المذهب.
فالحرية أسبق من الإسلام وبالحرية تم اختياره, لذلك لم يبخل الإسلام عن توفير أعظم الضمانات لهذه الحرية، وقد أعطى الإسلام الحق لمن شاء الاحتفاظ بنصرانيته أو يهوديته أو مجوسيته، وتعهد بحماية هؤلاء وحماية كنائسهم ومعابدهم، فامتازت الحضارة الإسلامية على حضارة الرومان وامتازت كذلك على حضارة الأسبان في القرن الخامس عشر الميلادي حين أخرجوا العرب من بلادهم واضطهدوا من بقي فيها من المسلمين واليهود أشد الاضطهاد في حين أن هؤلاء الأسبان عاشوا قبل ذلك مئات السنين تحت الحكم الإسلامي آمنين على دينهم، آخذين بنصيبهم في مرافق الدولة الإسلامية بالأندلس، أما الديموقراطية المتبناة في ذلك الحين فقد مثلها ما كان عند اليونانيين والرومان حيث كانت مصدرا دائما للعساكر المتوثبين بالبلاد الطامعين بالسلطة المتفردين بالحكم في نهاية الأمر حتى وصفها بعض المؤرخين الغربيين بالديمقراطية العسكرية.
إن النظرة الديمقراطية الحديثة إلى الإنسان تدعوه إلى الاستقلال بذاته بعيدا عن خالقه وتدبيره وان يستمد قوته بمنئي عن خالقه أما في النظرة الإسلامية، فان الله سبحانه وتعالى، ليس مجرد خالق فقط وإنما هو خالق ومدبر معا ومع استمرارية الخلق يستمر التدبير فكما أن هنالك آلية إلهية للخلق فهنالك آلية إلهية أيضاً للتدبير وهما مرتبطتان ببعضهما بعضا, ومن هنا جاء التحدي الإلهي للبشر عندما بين الله تعالى ذلك في الآية الكريمة التالية (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) النحل: 17)، ومنذ أن خلق الله الإنسان ربط حريته بعبادته وحده لا شريك له فكانت عبودية الإنسان لله هي قمة حريته، لأنها هي التي تحرره من العبودية لكل الطواغيت المادية منها والمعنوية.
لقد احتفظ السجل التاريخي بأفعال البشر، وما زال يؤرخ لوحشية الإنسان الديموقراطي الذي لم تردعه ديمقراطيته من إنتاج عصور عنصرية وحروب باسم القوميات وحماية الأمن القومي، والتحكم بثلثي اقتصاد الأرض ولم تستطع الديموقراطية أن تهذب سلوكيات معتنقيها بإبعادهم عن تجارة السلاح والمخدرات وأعراض البشر وإيقاف تصدير الدعارة بدل من التسامح والثقافة الإنسانية الناعمة التي نصت عليها جميع الديانات.
فكم نحن بحاجة إلى إيجاد مصطلح حديث يعطي المضمون الحقيقي للديموقراطيات المعاصرة ويلمس الحقيقة التي نعيشها في الوقت الحاضر, وكم من واجب ترتب علينا للعمل على إبراز الهوية الثقافية العربية المسلمة بالعمل الجاد الدؤوب النابع من صميم ديننا الحنيف وان نعمل على أسلمة الديمقراطية وإنشاء آلية ذاتية مصدرها ديننا وانتماؤنا إلى عروبتنا وأسلمة الحداثة وما بعدها بدل من تحديث الإسلام أو ديمقراطته وان ندعو إلى ربط لغة الخطاب بأرضية الواقع.
.... فهذا الفصل محاولة لحل الإشكال المرتسم في بعض الأذهان عن إمكانية المواءمة بين الشريعة الإسلامية والديموقراطية. إذ يبدو موقف الإسلاميين متناقضاً أو مرتبكاً، في نظر البعض، حين يطرحون تمسكهم بالشريعة وقبولهم بالديموقراطية. يتساءل الكثيرون: كيف يمكن التوفيق بين (الشريعة) الثابتة المستقرة، والديموقراطية النابعة من رؤية بشرية متغيرة خاضعة لمجموعة معقدة من العوامل والمؤثرات؟!
وللإجابة على هذا السؤال، سيمر هذا البحث سريعاً على أطر الديموقراطية ومحددات القرار الديموقراطي. لينتقل إلى الحديث المكثف عن الشريعة الإسلامية من حيث أنها شريعة ربانية مدنية تقوم على إقرار القواعد العامة للحياة الإنسانية، وتترك للاجتهاد البشري المنضبط مساحة واسعة لتقدير مصالح الناس في الزمان والمكان.
وبين هذا وذاك نؤكد أن الإسلاميين المعتدلين قد توافقوا عموماً على أن يكون مدخلهم إلى تطبيق الشريعة في فضاءاتها العامة صندوق اقتراع حر ونزيه يعبر عن رؤية الأكثرية من أبناء مجتمعاتهم. وأنهم مستعدون دائماً للنزول على نتائج هذا الصندوق حتى ولو يكن في جانبهم.
يقرر المفكرون المسلمون أنه لا نزاع حول المصطلحات إذا تطابقت المفاهيم. في التأسيس الإسلامي للحياة العامة المشتركة تقدم القرآن الكريم بلفظ (الشورى) معبراً عن ضرورة مشاركة الرأي العام في مهمات الأمور.
الشورى في معناها المجرد، وفي شيوعها المجتمعي التربوي، تجسد الضمانة لمفاهيم القسط والعدل في حق الأمة ، فجعلَ الشارع الشورى – ابتداء – سمة للأمة (وأمرهم شورى بينهم)، ثم جعلها أساساً للحكم وممارسته ، لئلا يحتكر أحد السلطة فيجور على الناس ، ويغتال قدراتهم وآرائهم في المساهمة التنموية العامة، فغاية الشورى هي العدالة التي تحقق التوازن الدقيق بين حرية الفرد والجماعة من ناحية، ووجود سلطة عامة تفرض قيوداً على هذه الحرية ، وهذا التوازن أساسه الشرع ومقاصده الحكيمة.
الشورى كذلك – كما في الحادثة – تؤكد على إيجابيتها من خلال دورها الفاعل في تجسيد الإنجاز وتحقيقه، ذلك من خلال التبادلية في الخبرات والآراء، فمقدم المشورة يشعر في أعماقه بالمكانة التي تؤهله نفسياً وعقلياً للقيام بدوره، وتحمل مسؤولياته بالشكل الأمثل، وهذا معروف في علم الإدارة واتخاذ القرار، وهنا يتم تجاوز مفهوم ( نفذ ثم ناقش ) الذي أصبح سائداً في حياتنا العملية عند اتخاذ أي قرار .
كذلك المشاوِر ( المسؤول ) يشعر بارتياح ناتج عن تحصيل المشروعية لقراره ، وتحصيل الضمانات الجماعية لتحمل مسؤولية نجاح وفشل هذا القرار، عندها يتم الوصول لأفضل صيغة للقرار نظراً لاحتكامه لأكثر من خبرة ورأي.
ومن الصفات الملازمة للأمة المسلمة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الفريضة تجعل من الواجب على الواحد منا، أن يقدم مشورته ورأيه، إما لتصحيح خطأ، أو لبيان صحة توجه أو رأي في شؤون الدولة والمجتمع، وفق ضوابط وأصول حددتها مصالح الأمة ومقاصد الشريعة .
إن الشورى في محصلتها تهدف لإكرام الأمة والإنسان، وتضمن حريته ومساواته مع الآخر، وتعطيه الحق في ممارسة دوره والتعبير عن ذاته، وكل ذلك سبيل لمزيد من إبداع الأمة وسيرها نحو النهضة لا سيما إذا كانت الشورى حالة تربوية عامة وأصيلة .
حين نقرن الشورى بالديموقراطية نرى أن في محتوى المصطلحين محاولة أفضل للتعبير عن رأي الأكثرية المجتمعية (الرأي العام) بحيث يكون القرار العام نتاج مشاركة جمعية. ولكن أين يتحدد الخلاف بين المفهومين؟
يقتضي منا الحق أن نبين في هذا السياق أن (الشورى) الإسلامية لا تطرح نفسها في فراغ وإنما ضمن أطر وقواعد عامة تنص عليها الشريعة وهذه الأطر والقواعد هي التي سنحاول الوقوف عندها في هذا البحث.
ولكن ومن ناحية أخرى هل تتحرك الديموقراطية في جميع دول العالم في فراغ مطلق؟! أبدو
ندرك أن العملية الديموقراطية ماتزال محاطة بأطر وقواعد القانون الطبيعي إلى جانب إرث قيمي ثقافي وفكري واجتماعي لا يزال له وقعه وأثره في الحياة الإنسانية ببعديها الخاص والعام.
وسنعترف جميعاً أن في هذه الأطر والقواعد منها ما هو مطلق وما هو نسبي. المطلق هو الذي تشترك فيه الأمم والشعوب، وتجمع عليه الشرائع والأديان والثقافات. والنسبي ما كان وليد ثقافة أو ظرف خاص.
حين نقرر السير مع رغبات أو توجهات الرأي العام أو رأي الأغلبية يتطلب الأمر أن نتوقف ملياً عند مكونات (الرأي العام) والعوامل المؤثرة فيه حرصاً على مستقبل الإنسانية والإنسان.
إن ما سنقدمه في هذه الدراسة عن الشريعة الإسلامية يؤكد أن هذه الشريعة بمحدداتها العامة لا تزيد على ضبط الأطر والقواعد تاركة للعقل البشري في الزمان والمكان مساحات واسعة للاجتهاد والتصرف.
وسيبين هذا البحث أن الأحكام التفصيلية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية لا تشكل إلا دائرة محدودة في مقابلة الدائرة الأوسع التي تركتها للاجتهاد البشري. وأن لهذه الدائرة الضيقة من الهوامش ما يؤهلها للصلاح في متغيرات الزمان والمكان. وغني عن البيان أننا عندما نتحدث عن الشريعة لا نتحدث عن العقيدة التي تتمتع بثبات مطلق يقوم على نصوص قطعية في ثبوتها ودلالاتها.
إن حماية الإنسان حياته وعقله وحريته وحقه في الوجود أصلاًً كما حقه في الملكية، وإقرار المساواة والعدل بين البشر على اختلاف اللون والمعتقد والجنس هي الأطر العامة التي تضبط القرار الإنساني في الشريعة الإسلامية والتي يجب أن تضبط كل قرار.
ففي الناحية الدستورية..
أقرت الشريعة هنا ثلاثة مبادئ أساسية:
المبدأ الأول: الحرية التامة للناس دون إخلال بالنظام والآداب العامة. ودون التجاوز على حريات الآخرين.
المبدأ الثاني: المساواة أمام القانون في جميع الحقوق فلا امتياز لأي انتماء في دائرة الحقوق والالتزامات (الناس سواسية كأسنان المشط).
فتح الإسلام الباب لتحرير الرقيق منذ ألف وخمس مائة عام فجعل تحرير الرقاب كفارة (شرطاً للمغفرة) للعديد من المخالفات الشرعية. كما جعل تحرير الرقاب قربة وعبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه. وأوجب مكاتبة الرقيق إذا رغب في ذلك. والمكاتبة نظام خاص يقوم على أن يشتري الرقيق رقبته من سيده بمال معلوم إلى أجل معلوم. وجعل للمكاتب سهماً من أسهم الزكاة يعان على فكاك رقبته. إلى جانب كل ذلك سد الإسلام منابع الرق وحرم استرقاق الأحرار أو شراءهم إلا ما يكون نتيجة الحرب حسب النظام الدولي الذي كان متبعاً في العالم آنذاك. نضيف إلى ذلك ما حض عليه الإسلام من الإحسان إلى الرقيق بدأ من طرائق الخطاب إلى طرائق المعاملة. فقال الرسول الكريم (لا يقل أحدكم عبدي أو أمتي وليقل فتاي وفتاتي..)، وقال (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم مالا يطيقون فإذا كلفتموهم فأعينوهم).
المبدأ الدستوري الثالث: الحكم في دولة الإسلام يقوم على أساس الشورى. وهذا مبدأ تضمنه القرآن الكريم (وأمرهم شورى بينهم). وأُمر به الرسول الكريم بوصفه حاكماً (وشاورهم في الأمر)، وطبقه الرسول طوال حياته ونزل في بعض الحالات على رأي الأكثر من أصحابه مع مخالفته رأيه.
ولكن الإسلام لم يحدد طريقة الشورى ولا آلياتها، لأن ذلك يختلف بحسب الإمكانيات الزمانية والمكانية وما يستجد من أساليب مفيدة. الشورى مبدأ عام مناقض للاستبداد فكل أسلوب ضمن مشاركة عدد أكبر من الناس من حيث الكم، وعبر بطريقة أفضل عن إرادتهم الفردية من حيث الكيف كان أقرب للشورى الإسلامية ومجسداً لها. وقد أجمع الفقهاء المعتبرون من علماء الأمة على أن الأمة هي مصدر الولايات بما فيها ولاية القائم على أمر السلطة العليا الذي يطلق عليه (الخليفة) أو (الإمام) وهما مصطلحان سياسيان غير ملزمين. وصاحب هذا المنصب يمثل الدولة الإسلامية باعتبار أن الدولة بمجموعها شخص اعتباري.
تتنافى الشريعة تماماً مع اختيار الحاكم على أساس (الوصية المقدسة) كما تتنافى تماماً مع اختيار الحاكم على أساس الوراثة أو على أساس النسب.
وتعتبر الشريعة اختيار الحاكم الأول عقداً رضائياً طرفاه الحاكم والأمة، وهو يستوجب سائر ما تستوجبه العقود الرضائية.
فقررت الشريعة لممثل السلطة العليا في الدولة الإسلامية صلاحيات تشريعية وتنفيذية، منضبطة بضوابط الشورى. منذ عصر الإسلام الأول تمتعت السلطة القضائية باستقلالية تامة. وقد قام القضاة المسلمون في كثير من الوقائع بمحاكمة الخلفاء والحكم عليهم ونفذت أحكامهم.
إن قواعد الشريعة الإسلامية لا تمنع، أيضاً، إمكان فصل السلطات، وجعل حق إصدار الأنظمة الزمنية في يد سلطة خاصة منتخبة كالبرلمانات اليوم إذا رأت الأمة مصلحتها في ذلك، إذ الأصل في النظام القانوني من الشريعة هو رعاية المصلحة العامة والتحول معها.
وبعـد..
حين يتحدث الإسلاميون عن الشريعة والديموقراطية فإنهم يؤكدون أن الشريعة الإسلامية تترك مساحات واسعة للاجتهاد البشري من خلال دائرتين أساسيتين الدائرة الأولى التي يسميها الفقهاء وعلماء الأصول بدائرة (العفو) والتي أشار إليها الحديث الشريف (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان..) وهي دائرة تنظمها قواعد المصالح الشرعية المرسلة.
والدائرة الثانية هي دائرة البناء على القواعد، والاجتهاد في إطار الضوابط، وهي دائرة تتسع لعقول المشرعين واجتهادات المجتهدين، مما يلبي حاجة الناس ومصالحهم في كل حين.
وإذا كانت المجتمعات الإنسانية في كل دول الأرض لا تتحرك ولا تشرع في فراغ وإنما ضمن منظومات من القيم الخاصة التي تؤمن تلك المجتمعات بها. فإن من حق المشرع في العالم الإسلامي بل من واجبه أن يكون متناسقاً مع قيم مجتمعه وثقافته.
وفي كل الظروف فإن الحركات الإسلامية قد حسمت أمرها للقبول بالديموقراطية كآلية معبرة عن آراء الأكثرية المجتمعية وتوجهاتها. والنزول عند مخرجاتها.
وهي إذ تدرك الخطورة التي تتعرض لها القيم الإنسانية تحت ضربات الإمبرياليين من الذين يسيطرون على رأس المال، فإنها قد علمت أن المعركة القائمة على هذه الأرض هي في السعي الدؤوب لكسب (الرأي العام)، بل في إقامة التحالفات الإنسانية مع جميع قوى الخير في العالم، لحماية منظومة القيم الحضارية والإنسانية. وإعطاء المدى للعقل الإنساني لتعميق معاني الحق والخير والجمال على هذه الأرض.
ثمة مشروعان متناقضان بلا شك؛ ولكن مفتاحهما واحد (الرأي العام) على الصعد المحلية والإنسانية وهذا الفهم هو الذي يجعلنا نؤكد قبولنا بالخيار الديموقراطي. إنه قبول التحدي الذي يتطلب الكثير من الوعي والكثير من الجهد.
وإذا كان البعض يضع الشورى الإسلامية في مقابلة الديمقراطية –سواء بالتسوية التامة بينهما ... أو بالتناقض الكامل بينهما – فإن هذا الموقف ليس بالصحيح إسلامياً ... فليس هناك تطابق بينهما بإطلاق ... ولا تناقص بينهما بإطلاق ... وإنما هناك تمايز بين الشورى وبين الديمقراطية، يكشف مساحة الاتفاق ومساحة الاختلاف بينهما.
فمن حيث الآليات والسبل والنظم والمؤسسات والخبرات "التي تحقق المقاصد والغايات من كل الديمقراطية والشورى، فأنها تجارب وخبرات إنسانية ليس فيها "ثوابت مقدسة " ... وهي قد عرفت التطور في التجارب الديمقراطية، ومن ثم فإن تطورها وارد في تجارب الشورى الإسلامية، وفق الزمان والمكان والمصالح والملابسات ... والخبرات التي حققتها تجارب الديمقراطية في تطور الحضارة الغربية، والتي أفرزت النظام الدستوري، والتمثيل النيابي عبر الانتخابات، هي خبرات غنية وثروة إنسانية، لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنها تقدير خلاف لما عرفته حضارتنا الإسلامية، مبكرا، من اشكلا اولية وضمنية في " البيعة" و "المؤسسات"...
أما الجزئية التي تفترق فيها الشورى الاسلامية عن الديمقراطية الغربية، فهي خاصة "بمصدر السيادة في التشريع الابتدائي "...
فالديمقراطية تجعل "السيادة" في التشريع ابتداء للشعب والأمة، إما صراحة، وإما في صورة ما أسماه بعض مفكريها بـ " القانون الطبيعي " الذي يمثل بنظرهم- أصول الفطرة الإنسانية ... ومن ثم، فإن "السيادة"، وكذلك "السلطة" في الديمقراطية، هما فلإنسان ... لا شعب والأمة ...
أما في الشورى الإسلامية، فإن " السيادة" في التشريع ابتداء، هي لله، سبحانه وتعالى، تجسدت في " الشريعة" التي هي " وضع إلهي " وليست إفرازاً بشرياً ولا طبيعياً ... وما للإنسان في " التشريع" هي سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية، والتفصيل لمجملها، والاستنباط من نصوصها وقواعدها وأصولها ومبادئها، والتفريع لكلياتها والتقنين لنظرياتها ... وكذلك، لهذا الإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سمادي، شريطة أن تظل "السلطة البشرية" محكومة بإطار معايير الحلال والحرام الشرعي، أي محكومة بإطار فلسفة الإسلام في التشريع ...
الفصل الثالث
الـشـــورى فـي الإسلام
فإن موضوع الشورى في الإسلام من أخطر الموضوعات وأجلها لأنه أهم الأمور في تسيير شئون المسلمين، ورسم سياستهم، وكما قال الحسن البصري رحمه الله: "أفسد أمر هذه الأمة اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية يرفع المصاحف، والمغيرة بن شعبة حين أشار على معاوية بالبيعة ليزيد، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة" ، ولذلك بقي هذا الحكم معطلاً في ظل الأنظمة الإسلامية التي تلت ذلك اللهم إلا لمحات قليلة كانت الشورى تطبق تطبيقاً جزئياً تافهاً. ولذلك فقد فسدت أنظمة الحكم، وسارت وفق الهوى والاستبداد أزماناً طويلة حتى ألف المسلمون هذا الفساد والاستبداد، وظنوا مع مرور الزمن أن هذا جزءا من النظام الإسلامي نفسه، ومن تشريع رب العالمين.
* وقد قرأت كثيراً مما كتب الأقدمون والمحدثون بهذا الشأن ولست أدعي مع ذلك إحاطة بالموضوع، ولا وفاء له من كل وجه، ولكنه محاولة أظنها ستسهم كثيراً في توضيح هذا الأمر الذي تضاربت فيه الأقوال، وتصارعت فيه الآراء. ولقد ظننت أيضاً بعد تمامه أن الموافق لي في الرأي سيفرح بذلك كثيراً لأنه سيلمس الدليل لمساً، وأما المخالف فإنه سيغير رأيه إن شاء الله هذا إذا كان خلافه لنقص في الدليل أو لعدم وضوح في الحجة، وأما من اتبع هواه فلا يملك أحد له هداية إلا إذا أقلع عن الهوى.
* وقد قسمت هذا الفصل إلى خمس مباحث:-
المبحث الأول:- يتحدث عن حقيقة الشورى وما هيتها .
المبحث الثاني:- يتكلم عن مبدأ الشورى ومرونة التطبيق .
المبحث الثالث:- يتحدث عن مجالات الشورى في الإسلام .
المبحث الرابع:- :- يتحدث عن أهل الشورى وطرق اختيارهم.
المبحث الخامس:- هو جوهر البحث وثمرته ويتكلم عن كيفية الوصول إلى الرأي الأخير في الشورى.
في الختام أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع بهذا البحث المخلصين من هذه الأمة وأن يكون في جلائه خروجاً من الاستبداد والظلم الذي تعيشه الأمة، وحماية لجماعات الدعوة الإسلامية من فساد التنظيم، وضعف الإرادة، وإرشاداً للفرد المسلم حتى يؤسس بيته وعمله ونظام حياته وفق الشورى، وأسأله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم.
المبحث الأول
حقيقة الشورى وما هيتها
* مدخل إلى الشورى
مر على الناس – في هذه الأرض- أزمان من الظلم والتسلط والاستبداد وكلها كانت من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فالظلم من طبائع النفوس ولا ينفك عنه إلا من علمه الله ووفقه وهداه.
وكانت رسالات الله إلى الناس داعية أول ما تدعو إلى العدل والإنصاف وهو ثمرة توحيد الله والإيمان به، فالكافرون هم الظالمون والمؤمنون هم الأتقياء العادلون الرحماء. وعلى هدي هذه الرسالات قامت في الأرض في فترات من حياة الناس حياة طيبة زاخرة بالحب والألفة والتراحم والتكافل والعدل. خلصت الناس من عبادة العباد إلى عبادة الإله الواحد سبحانه وتعالى.
والإنسان يتسلط على أخيه الإنسان حالما يملك طريقاً إلى ذلك ولهذا ذاق الناس ظلم الأغنياء لأن المال قوة بأيديهم وظلم ذوي السلطان لأن السلطان قوة بأيديهم ولذلك كان من هدي الإسلام تفتيت هاتين القوتين وتوزيعيهما حتى لا تتجمع واحدة منهما في أيد قليلة أو يد واحدة فيقع الناس تحت القهر والظلم.
ففي المال كانت الزكاة، والميراث، ونصيب الفقراء من الفيء والغنائم وتحريم الربا والاحتكار والغش، وكل هذا حتى لا يكون المال متداولاً في أيد قليلة تتسلط بواسطته على رقاب الناس.
وفي السلطات كانت الشورى ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك لتولية الحاكم الكفء وعزله إذا ذهبت كفاءته ونصحه إذا ظلم ومعاونته على الخير ومنعه من الغي... فما الشورى، هذا التشريع الرباني الفريد الذي يقوم نظام الحكم العادل عليه.
* حقيقة الشورى:
الشورى من مستلزمات الفطرة، ومن سنن استقرار المجتمع، وهي ليست هدفًا في حد ذاتها بل شُرعت في الإسلام كوسيلة لتحقيق العدل، وتنفيذ مقاصد الشريعة. لذا فهي فرع من فروع الشريعة وتابعة لها وخاضعة لمبادئها، وهو ما يميزها عن الديمقراطية كنظام و التي تنبني على الاجتهاد البشري مطلقاً دون هدي من وحي أو فترة تاريخية مرجعية.
وتعد الشورى في الرؤية الإٍسلامية مبدأً إنسانيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا، بجانب كونها قاعدة لنظام الحكم، وهي في المجال السياسي حق الجماعة في الاختيار وتحمل مسئولية قراراتها في شئونها العامة.
* بين الشورى والاستشارة
وإذا كانت أحكام الإمامة أو ما يُسمى "فقه الخلافة" هي الموضوع الرئيسي الذي تناولته الكتابات السياسية الإسلامية لقرون طويلة، فإن فقه خلافة الحكام أو نظام الحكومة يجب أن يدرس باعتباره فرعًا من فقه الشورى، فالشورى هي الأصل، إذ أنها خلافة الأمة، أما خلافة الخلفاء وولاية الحكام فهي فرع، لذا فإن فقه الخلافة في عصرنا يجب أن يعود إلى الشورى، أي إلى سلطان الأمة، ويتأسس على البيعة الحرة أو الولاية التعاقدية التي تتيح للأمة الرقابة على الحكام ومحاسبتهم، فالشورى أسمى من الدولة.
وقد اختلفت الآراء بشأن وجوب الشورى، فذهب فريق إلى أنها واجبة، في حين أكد آخرون أنها جائزة، كما اختلفت الآراء بنفس القدر بشأن إلزاميتها-أي وجوب إتباع الحاكم لرأي الأغلبية ، مع ملاحظة عدم التلازم بين الأمرين، إذ أن وجوب الشورى كآلية لا يعني بالضرورة الالتزام بما تنتهي إليه من نتائج والعكس.
ويلاحظ على هذه الآراء المختلفة أنها انصبت على جانب الحاكم، ولم تتعرض لجانب المحكومين، فالشورى وردت في إطار الحديث عن الجماعة في آيتين في القرآن الكريم، تلزم الأولى الحاكم بالمشاورة " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران: 159)، وتلزم الثانية الجماعة بالشورى "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" (الشورى38). وإذا كانت الشورى فطرة وسنة اجتماعية، وأداة لتحقيق مقاصد الشريعة، فإن حكمها يصبح الوجوب والإلزام لا على الحاكم بل على الأمة كذلك.
فالشورى التزام شرعي يدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يحق للأمة التنازل عن أدائها. ولقد حاولت بعض الآراء الخروج من الخلاف بشأن مدى إلزامية الشورى فذهبت إلى أن الأمر في مسألة الشورى مرده إلى الأمة؛ فإن شاءت أن تقيد الحاكم بالأغلبية فعلت، وإن شاءت منحته الحكم والتقرير نيابة عنها، وهو رأي لا يتفق مع كون الشورى فطرة وسنة، فهي حق لله لا يجوز التنازل عنه، وهو ما يجعلها مسئولة عن حمايتها، ويطعن في شرعية نظام الحكم الذي يتجاوزها، ويلزم الأمة برده إلى الالتزام بها.
كذلك فإن هذه الآراء لم تميز في استدلالها بين الشورى والاستشارة، حيث تتميز الأولى بأنها ملزمة وواجبة، في حين أن الاستشارة هي طلب النصيحة وهي مشورة غير ملزمة.
تعرفها اللغوي:
(( الشورى اسم من المشاورة. وتشاور أي استخرج ما عنده من رأي ))
وتعريفها الاصطلاحي :
تعريفات السلف للشورى تكاد تكون متوافقة وإن اختلفت تعبيراتهم فقد عرفها الأصفهاني بأنها : (( استخراج الرأي لمراجعة البعض للبعض )) وعرفها ابن العربي بأنها هي : الاجتماع على الرأي ليستشير كل واحد صاحبه ويستخرج ما عنده , وقد عرفها أحد المعاصرين بقوله:
(( استطلاع الرأي من ذوي الخبرة فيه للتوصل إلى أقرب الأمور للحق )) وقد تعرض هذا التعريف للنقد على أساس : (( أنه يصدق على نوعية خاصة في الشورى هي
( الشورى الفنية ) الخاصة باستشارة أهل الرأي والخبرة في المسائل الفنية , ولكن الشورى كنظام للحكم أعم من هذا التعريف )).
ويقول د. محمد عمارة :- أن الشورى: مصطلح إسلامي خالص وأصيل ... وهو اسم – من "المشاورة" – التي تعني، في اصطلاح العربية: استخراج الرأي ... فهي فعل إيجابي، لا يقف عند حدود "التطوع" بالرأي ... بل يزيد على "التطوع" إلى درجة "العمل" على استخراج الرأي/ استخراجاً واستدعائه قصواً ؟
وإذا قلنا: أشار فلان على فلان بالرأي ... فإن معناه – في اصطلاح العربية : أمره به! .. وليس مجرد إبراء الذمة بإلقاء الرأي فقط؟!...
فالرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده كانوا يستشيرون عامة الناس في الأمور المتعلقة بهم , كما كانوا يستشيرون عامة الناس في الأمور المتعلقة بهم , كما كانوا يستشيرون أهل الرأي والخبرة في بعض المسائل الخاصة . كما كانوا يستشيرون كبار القوم الذين يمثلون جماعاتهم في أمور أخرى تم تعريفها بقوله: (( إنها استطلاع رأي الأمة أو من ينوب عنها في الأمور المتعلقة بها )).
وهذا الاعتراض لا مبرر له ولا يقوم على دليل فلم يثبت عن الرسول عليه السلام ولا الخلفاء من بعده أنهم قسموا المسلمين إلى فئات معينة وحددوا اختصاص كل فئة فيما يستشاروا فيه وعلماء السلف والخلف عندما تكلموا عن رجال الشورى قالوا أنهم أهل الحل والعقد, وأنهم الذين يعرفون في الأمة بكمال الاختصاص والأوصاف... إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه تفصيلا عند الكلام عن أهل الشورى.
ويمكن أن نعرف الشورى بأنها:
النظر في الأمور من أرباب الاختصاص والتخصص لاستجلاء المصلحة المفقودة شرعا ً وإقرارها. وهذا التعريف اعم وينسحب عل كل أمر تجري بشأنه مشاورة سواء على مستوى الأسرة, أو الدولة, أو المنظمات الداخلية, أو المنظمات الدولية التي يكون النظام العام الإسلامي نبراساً لها. مثل منظمة المؤتمر الإسلامي, وجامعة الدول العربية, وجامعة الشعوب الإسلامية إلى غير ذلك وينسحب من باب أولي على سلطة التشريع والرقابة.
*ماهية الشورى في المنظور القرآنى :-
1. الشورى عندنا تقابل الديمقراطية في التراث الغربي.. وقد يجادلنا البعض في هذه المقولة، وذلك ليس مستغربا، لأن الديمقراطية نفسها في التطبيق الغربي تختلف من دولة لأخرى، فشتان بين ديمقراطية إنجلترا وديمقراطية فرنسا، وبينهما وبين أمريكا قمة الديمقراطية في العالم، اْو هكذا يقولون.
تتعدد الديمقراطيات الغربية، ولكنها تشترك في أسس عامة – في الأغلب- تقوم على مسئولية السلطة التنفيذية أمام ممثلي الشعب.. بما يعني خضوع الحاكم للشعب أو ممثليه.. واستمداده السلطة منه أو منهم.. أو هكذا يقولون.
ولسنا في مجال المقارنة بين الشورى الإسلامية في المنظور القرآني والديمقراطية الغربية النيابية، ولكن نتوقف مع القدر المشترك بينهما وهو المعنى الحقيقي للشورى والديمقراطية، وهو فن ممارسة السلطة والقوة، لأن الجهة التي يخضع لها الحاكم هي المصدر الحقيقي للسلطة والمنبع الذي يستمد منه الحاكم سلطانه.
2. إن الحكم هو القوة والسلطة.. أو ممارسة القوة والسلطة.. والعلاقة بين الحاكم والشعب تحدد من هو صاحب القوة والسلطة ومدي وجود الشورى (أو الديمقراطية ) في تلك العلاقة.
هناك الحاكم المستبد الذي يتأثر بالقوة والسلطة، وليس لشعبه عنده وزن، بل يعتبر نفسه وصيا على ذلك الشعب الذي لم يبلغ بعد درجة المسئولية والأهلية، وهذا الحاكم المستبد يعتبر نفسه مصدر السلطات كلها، فهو نفسه مجلس الشورى والمشير وهو المستشار وهو الحاكم بأمره في كل شئ، ومن هنا تكون المشورة في نطاق سلطاته التي يمنحها لنفسه، غاية ما هنالك انه يستشير نفسه أو يعين مجموعة من الخدم لتفكر له فيما يرضيه.. وعلى الشعب الطاعة لأنه مجرد من القوة، فقد احتكر الحاكم القوة لنفسه.
ولكن قد يحس الشعب ببعض الوعي ويستحوذ على بعض التأثير والقليل من القوة مما يجعل الحاكم المستبد يضطر لتقديم بعض التنازلات تتناسب مع بعض القوة التي ينتزعها الشعب لنفسه ، ولذلك تتغير مجالس الشورى ، من مجرد العبيد الذين يتفانون في التفكير لأرضاء الملك المستبد ألي مجالس شورى لها بعض الحرية في الحركة ألي دور أكبر مرهون بقدرة الشعب على انتزاع حقوقه ، وهل يرضى الشعب بوجود مجالس صورية تعطى شرعية زائفة لدكتاتورية الحاكم وتغطي عورة الاستبداد ، أم تتطور هذه المجالس لتحاسب الحاكم وتقلص سلطاته .. وفي كل الأحوال فالشورى هنا هي فن ممارسة القوة.. وتلك الممارسة يتجاذبها الشعب والحاكم كل منهما بحسب ما لديه من قوة وصمود.
وقد تكون القوة – كل القوة – للشعب، فيفرض سلطانه على الحكومة ويعين الحاكم ويسائله ويعزله ويعين بدله ويراقبه ويحاكمه، والحاكم هنا يعتبر نفسه موظفا في خدمة الشعب، أجير لديه، والشعب هنا يمارس بمشورته فن القوة.
وهكذا فلدينا ثلاثة أنواع من الشورى:
1. الشورى الحقيقية للشعب القوى الذي يملك إرادته بنفسه والذي يقوم بتعيين الحاكم ويعتبره أجيرا لديه ويحاسبه ويقرأ ويعزله ويعاقبه إذا اخطأ.
2. والشورى الصورية لحاكم يدعى التمسك بالديمقراطية وهو يضطر لذلك لمواجهة الانتقادات واحتمالات التمرد من بعض طوائف شعبه، ويدور صراع ( القوة) بين الحاكم والشعب وبقدر ما للشعب من قوة وصمود ينتزع حقوقه في المشاركة والشورى.
3. و أخيرا لدينا الدكتاتور الفج المطلق الذي يحكم بالقوة ويستشير نفسه أو خدمة وحاشيته والشعب مجرد قطيع وقع في أسره وتحت هيمنته وسيطرته، حيث احتكر ذلك المستبد لنفسه القوة ومارس من خلالها الشورى.. لنفسه .
إذن فالشورى هي لعبة القوة أولا و أخيرا .. القوة بكل أشكالها ، قوة السلاح وقوة المال وقوة التأثير في الجماهير .. وقوة الجماهير نفسها أو ضعفها وقوة الحاكم أو قوة شعبه .
وحيث توجد القوة تكون القدرة على المشورة ، لأن المشورة هي فن ممارسة القوة . وهذه هي ماهية الشورى في المنظور القرآني .
وحسب التعريف السابق ندرك الحقائق التالية:
1- لا بد لتحقيق الشورى من تصفح الآراء والأفكار في الأمر المشار فيه من كل صاحب رأي وفكرة.
2- الأمور المقطوع بأنها حق ليست مجالاً للشورى، ولا هي داخلة فيها. فالحقائق الثابتة في أمور الدين والدنيا ليست مجال نقاش وآراء لأنه مجمع على أنها حق ولا مجال للاختلاف فيها.
وحسب ما مضى ندرك – نحن المسلمون- أن حقائق الإسلام الثابتة ليست من مجالات الشورى عندنا: فكون الإسلام قرر أن الصلاة واجبة والجهاد فرض والخمر حرام والزنا حرام أمور قد سلمنا بها بشهادتنا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعرض هذه الأمور وأمثالها على الشورى كفر بالإسلام وخروج من دائرته.
وليس بقبيح لو اجتمع قوم من غير المسلمين ليتشاوروا أدين الإسلام حق أم لا؟
بل يجب عليهم أن يتشاوروا ويذكر بعضهم بعضاً بذلك كما وعظهم الله عز وجل بهذا عندما قال تعالى:
{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}.
فنحن لا نستنكر اجتماع غير المسلمين للتشاور في شأن دين الإسلام ولكننا نرى أن المسلم يكفر إذا ما دعا الناس للتشاور في شأن القصاص هل هو عدل أم لا، وفي قطع يد السارق هل هو حق أم لا، وفي شأن الخمر هل نحرمها أم لا؟
لأنه بذلك يهدم إسلامه السابق إذ من مقتضى الإيمان الإقرار بحكمة الله وعلمه والإيمان بتشريعه كله سبحانه وتعالى..
3- الأمور التي تدخل في إطار الشورى غالباً ما يكون الحق والمصلحة فيها مظنون من الجميع ولا يستطيع أحد أن يجزم به، وقد يعلم الحق في بعض أمور الشورى إذا كان عند أحد المستشارين نص واضح جلي من الكتاب أو نص صحيح صريح من السنة .
ومثال الأمر:- وهو الذي يظن الحق فيه ولا يقطع به: أمور الحرب والسلام والمعاهدات، فكم من دول دخلت حروباً وهي تظن أن النصر معها والمصلحة في خوضها ثم باءت بالخيبة.
وكم من دول أخرى أبرمت معاهدات وعقدت صلحاً وهي تظن الخير لها في ذلك وكان العكس هو الصحيح.
وهذا الأمر يعم كل الأمم ولا يخص دولة دون دولة، فقد أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية وهو مسلم لأمر الله تبارك وتعالى غير عالم بنتائجه إلا أنه قال: [إنه ربي، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني]. فقد كان منفذاً لأمر الله تبارك وتعالى مؤمناً بأن العاقبة ستكون له بمشيئة الله سبحانه وتعالى وقد أنكر صحابته غالبيتهم أمر هذا الصلح إنكاراً شديداً، ولكن كانت عاقبته أن كان أعظم فتح في الإسلام.
وقد أشار بعض المسلمين على الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء في المدينة في غزوة أحد، وألح عليهم آخرون بالخروج، والكل يقدر جانب المصلحة في ذلك لم يكن أحد منهم يقطع أين يكون الخير، قد كان احتمال النصر مع الخروج وارداً بل محققاً لولا مخالفة الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والشاهد أن أمور الحرب والسلم والسياسة والمعاهدات أمور لا يقطع عند المشاورة فيها بالحق والخير والصواب، وإنما بترجيح جانب المصلحة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي قواده الذين يرسلهم في الغزو قائلاً:
[وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم علي حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا].
فيستفاد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم [فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا] أن حكم الله في هذه الأمور مظنون وليس بمقطوع به. ألم تر أن الله عاتب رسوله والمؤمنين لقبولهم فداء الأسرى في بدر، وأخبرهم أن الحكمة والمصلحة كانت تقتضي قتل الأسرى في هذه الغزوة وذلك حتى لا تقوى شوكة الكفار فلا تقوم لهم قائمة بعد.
وليس أمام أمير مسلم يحاصر أهل حصن وينزلوا على حكمه احتمال واحد لإبرام الصلح على أساسه بل أمامه عشرات الاحتمالات والشروط وكلها يستند إلى نصوص من الكتاب والسنة، فهل يقتل مقاتلتهم ويسبي نساءهم وذراريهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير وبني قينقاع. أم يمن عليهم جميعاً، أو يفادي برجالهم أسرى المسلمين ببلاد الكفار كما قال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداءاً حتى تضع الحرب أوزارها} وهل يترك لهم معابدهم ويسمح لهم باستحداث شيء جديد، أم يترك لهم الموجود منها فقط أم يصالحهم على هدم البعض وتحويله إلى مساجد؟ وهل يصالحهم على ترك أرضهم لهم أم يأخذها منهم؟.. كل هذه احتمالات واردة وكل منها قد فعله المسلمون في حروبهم وكلها في شأن أمر جزئي وهو: استنزال قوم من الكفار من حصن من حصونهم، أي قبول بلدة. ما مصلحة المسلمين، والنزول على حكمهم بعد حصارهم؟
وأقول: من يستطيع اليوم أن يقطع بالحق والخير والمصلحة للمسلمين في شأن يهود فلسطين عندما ينصر الله المسلمين وهذا آت لا محالة بإذن الله! هل يجلون من فلسطين إلى الديار التي أتوا منها، أم تقتل مقاتلتهم وتسبى نساؤهم وذراريهم كما فعل بيهود بني قريظة، أم يمن عليهم ويعيشون كمعاهدين وأهل ذمة؟ وإذا كان ذلك فما هي نوع الحريات التي تعطى لهم والتي تمنع منهم؟ أم يجلى من هاجر بعد عام 1948 ويترك من هاجر منهم قبل ذلك؟ وهل تعود الأرض إلى أربابها الذين تركوها وهاجروا من أهل فلسطين، أم تكون غنيمة للمحاربين؟ وهل توزع أم تكون أرضاً خراجية؟ وأملاك اليهود التي أحدثوها هل تصبح ملكاً للدولة أم للمحاربين؟ احتمالات كثيرة وآراء مختلفة متباينة، ويستطيع كل صاحب رأي من الآراء السابقة أن يدعم أقواله بآية من كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من زعم أن الحق والصواب والمصلحة في رأيه هو فقد أخطأ خطأ بيناً وتحكم في دين الله عز وجل ولا يستطيع أحد أن يجزم بالصواب والمصلحة في مثل هذه الأمور إلا بعد وقوعها ومعرفة نتائجها وعلى قياس هذه النتائج يكون تقدير الرأي والحكم عليه بالمصلحة أو المفسدة.
ولكم عذري - إن أطلت في بيان هذا الأمر وضرب الأمثلة من الوقائع السالفة والوقائع المرتقبة والحديثة.
وذلك أن بعض الناس ممن يزعم العلم الديني ويفتي في مثل هذه الأمور ويجزم بأن الحق معه ويرم بالجهل والفسق بل والكفر أحياناً من خالفه الرأي.
ولكن هناك أموراً أخرى من أمور الشورى قد يعرضها إمام المسلمين للمشاورة ويكون الحق فيها معلوماً بالنص عند بعض الناس، وهذا مثاله الحادثة المشهورة في مشاورة عمر بن الخطاب للمسلمين في دخوله ومن معه أرض الشام بعد أن وقع بها الطاعون، فإن أبا عبيدة بن الجراح قال لعمر: ما أرى أن ترجع بل أنت قادم لأمر لا بد من نفاذه ثم أنفر من قضاء الله!؟ ولكن آخرين وجدوا المصلحة في غير ذلك وقالوا: يا أمير المؤمنين، ارجع بمن معك، ولا تقدمهم على هذا الوباء فتعرض نفسك ومن معك للخطر!!
فشاور عمر المهاجرين الأول ثم الأنصار فلم يختلف عليه اثنان أن يجب عليه الرجوع فقال لأبي عبيدة: يا أبا عبيدة، نفر من قضاء الله إلى قضاء الله! ثم جاء عبدالرحمن بن عوف -وكان غائباً- فلما علم بذلك قال: عندي في ذلك علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله: [إذا وقع الطاعون بأرض فلا تدخلوها ولا تخرجوا منها] فانحسم الأمر وعرف الحق المقطوع به وليس المظنون لأن مستنده نص ظاهر جلي، ولو علمه عمر أولاً ما استشار الناس في هذا الأمر، ولو علمه أبو عبيدة قبل هذا ما قال لعمر: كيف تفر من قضاء الله؟!
والمقصود بهذه الأمثلة بيان أن بعض أمور الشورى قد يتوصل إلى الحق فيها إذا كان هناك دليل ظاهر جلي وليس هناك دليل مخالف له أو معارض، والبعض الآخر لا يمكن القطع فيه بالحق والخير والمصلحة قبل حدوثه.
المبحث الثانى
مبدأ الشورى ومرونة التطبيق
الشورى في الإسلام قاعدة من قواعد الحكم، ونظام صالح للجماعات وسيرة كريمة للأفراد، وإليك بيان لهذا الإجمال: دل الكتاب، والسنة، وأقوال الخلفاء وسيرتهم، وأقوال السلف، وأقوال علماء العصر على أن الشريعة الإسلامية جاءت مقررة لمبدأ الشورى وإليك الأدلة على ذلك:
أولاً: الكتاب:-
قال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران:159).
نزلت هذه الآية بعد غزوة أحد التي استشار الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين في الخروج إلى عدوهم أو البقاء في المدينة، فأشير عليه من جمهورهم وغالبيتهم بالخروج، وذلك من الذين لم يشهدوا بدراً وكان فيهم تحرق إلى لقاء العدو. ولقد كان ما كان من مخالفة الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقاء فوق الجبل وهزيمة المسلمين واستشهاد سبعين منهم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم عقب هذه الغزوة بالعفو عمن صدر منهم خطأ كالرماة والذين فروا، والذين تعجلوا الخروج ولم يأخذوا بالرأي الأحكم وهو البقاء في المدينة، وأمر أيضاً أن يستغفر لهم، وأن يستمر على مشاورته إياهم في مثل هذه الأمور، التي هي سياسة الحرب، ومكايد العدو.. ونزول الأمر بالشورى في مثل هذه الظروف يؤكد حتميتها ولزومها. ونعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ: {وشاورهم في الأمر} ليبين أن الشورى ليست في كل الأمور، وسيأتي لهذا الأمر تفصيل إن شاء الله تعالى في مجالات الشورى.
ونعلم أيضاً أن عامة السلف والفقهاء قالوا بأن أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالشورى كان للوجوب وليس للندب أو الاستحباب، وخالف في ذلك الإمام الشافعي رحمه الله وقاس الأمر هنا على قوله صلى الله عليه وسلم: [البكر تستأذن] أي عند الزواج، قال الشافعي: لو أجبرها أبوها على الزواج جاز!! وقد رد هذا القول الفخر الرازي في تفسيره بقوله: القياس في مواجهة النص باطل.
ولكن بعض السلف – مع قولهم بالوجوب في حق الرسول صلى الله عليه وسلم- نفوا أن يكون هذا الوجوب عن حاجة عند الرسول للمشاورة، بل قالوا: لقد أغناه الله عن المشورة بما أوحى له وهداه ووفقه ولكن أمره بذلك ليقتدي به من بعده الأئمة والخلفاء، وليكون هذا سياسة دائمة في الأمة إذا رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من هو كان مأموراً بذلك ومطبقاً له.
ولكن الفخر الرازي نفى هذا القول بقوله: "والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار، ومدح المستنبطين فقال سبحانه: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس عقلاً وذكاءً وهذا يدل على أنه كان مأموراً بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة" . وخلاصة هذا الكلام أن الشورى لازمة للاجتهاد ولا تقدح في شخص المستشير بل هي دلالة على رجاحة العقل، وأضيف هنا إلى كلام الفخر الرازي رحمه الله أن الشورى تكون أحياناً في أمور دنيوية صرفة، كالخبرة بشؤون القتال، ومنازل الحرب ومكايد العدو، وأصلح الناس للإمارة، ولا يقول أحد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بشؤون الدنيا ولذلك فهو مستغن عن المشورة فيها وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: [أنتم أعلم بشؤون دنياكم] فليس نقصاً في حق الرسول صلوات الله عليه وسلامه، ولا طعناً في منزلته أن يكون أمر الله في الآية السالفة الوجوب، وذلك لتتجمع له الخبرة التامة، والعلم الشامل لتصريف شؤون الأمة الإسلامية الناشئة وليكون هذا سنة للخلفاء بعده ليلتزموا هذا المنهج الكريم.
قال تعالى في مدح المؤمنين الذين ادخر لهم الخير: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (الشورى:38).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: {وأمرهم شورى بينهم} أي لا يبرمون أمراً حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها.
وإذا أردت أن تعلم لزوم الأمر هنا فاعلم أنه جاء بالجملة الاسمية التي تفيد الاستمرار والثبوت وأنه جاء بعد الاستجابة لأمر الله وهي الإسلام ثم الصلاة وهي عماد الإسلام وجاء خلف الشورى الزكاة وإنفاق المال فوضع الشورى بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من أكبر الأدلة على لزومها.
ثانياً: الحديث الشريف:-
جاء في السنة ما يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك المشاورة قط بل قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله لأصحابه".
وجاء أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحرص دائماً على مشاورة الشيخين أبي بكر وعمر، بل جاء في حديث الإمام أحمد رحمه الله أن الرسول قال لهما: [لو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما] وهذا الالتزام من الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على تأكيد هذا الأمر ووجوبه. ومما جاء في شأن الوقائع التي شاور فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه: مشاورتهم يوم بدر في الخروج إلى العير، ومشاورتهم في منزل الحرب وهي ثلاث مشاورات كلها في غزوة بدر، وكذلك شاورهم في أحد القعود في المدينة أو الخروج للعدو وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة فى هذا العام ، وقال في حديث الإفك: [أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء! وأبنوهم بمن؟ والله ما علمت عليهم إلا خيراً!!].
ثالثاً: سنة الخلفاء وسيرتهم:
وأما خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم الراشدون فإنهم ما تركوا المشورة وخاصة في المسائل الهامة كتولية الإمام وشن الحروب وتصريف أمورها وتولية الأمراء على أقاليم الإسلام، فتولية أبي بكر وعمر وعثمان كلها كانت بمشورة وإن اختلفت صورها وظروفها.. وحروب الردة وفارس والروم كلها كانت بمشورة المسلمين علانية في المسجد. وسأعرض لبعض هذه المشورات في الكلام على مجالات الشورى إن شاء الله تعالى. ولذلك جاء عن عمر بن الخطاب قوله: "من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا" (البخاري ).
مرونة التطبيق:
فيما قدمت من آيات وسنة، وأقوال للخلفاء والأئمة دلالة واضحة على أن الشورى قاعدة من قواعد الشريعة، ومبدأ من مبادئ الحكم في الإسلام.
ولكن يجب أن نعلم أن هذه القاعدة كانت من المرونة، والقابلية للتكييف بحيث لا تلزم المسلمين بصورة من الصور، ولا بكيفية من الكيفيات تكون واجبة التطبيق وجوب المبدأ نفسه. فليس في الآية ولا السنة بيان بعدد المستشارين ولا بكيفية استشارتهم، ولا في صفتهم، وليس فيها إلا أن الإمام يجب عليه أن يستشير الناس فيما يعرض لهم من شؤونهم، وأنهم إذا وصلوا إلى قرار أخير بعد الشورى فإنه لا يجوز العدول عنه، ويجب بعد ذلك التوكل على الله عز وجل وعدم التردد والخوف {فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}.
وهذا يعني أن التحكم يجعل كيفية ما من الكيفيات أمراً شرعياً مقرراً تحكم باطل. إلا أن كانت مستندة إلى نص من النصوص، أو ما تقتضيه (المصلحة المرسلة) والصالح العام للمسلمين. وفي هذه الحالة الثانية الأمر خاضع للنظر والترجيح.
وحتى نفهم هذا الكلام المجمل يجب أن نفرق في فهم شريعة الإسلام بين أمرين: العبادات والمعاملات.
فالعبادات وهي القرب التي شرعها الله تبارك وتعالى لنتقرب بها إليه كالصلاة والزكاة والصيام والحج الأصل فيها تحريم تركها .. ولا يجوز إثبات شيء منها إلا بنص وذلك أن الله لا يعبد إلا بما شرع هو سبحانه وتعالى وهذا أيضاً شأن كيفيتها، وحركاتها وسكناتها، ولذلك تكفل الشارع ببيانها أتم البيان فبين كلماتها وكيفيتها وأوقاتها، ومقاديرها وحركاتها وسكناتها، وكل عمل من هذه الأعمال في هذه العبادات ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود على فاعله، ولا يقبله الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم: [من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد] متفق عليه.
وأما المعاملات فالأصل فيها الإباحة، ولا يجوز تحريم شيء منها إلا بنص عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم. فالمعاملات من بيع وتجارة وهبة، وولاية، وسياسة، وتنظيم لشؤون الدنيا الأصل في كل ذلك الإباحة، ولا يجوز تحريم شيء منها إلا بنص، ولا يجوز أيضاً أن يعطى شيء منها إلا بنص، ولا يجوز أيضاً أن يعطى شيء من هذه المعاملات وغيرها صفة شرعية محددة لم ينص الله عليها، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. فليس في تنصيب الأئمة مثلاً صفة شرعية محددة وكيفية واحدة بل الأصل فيها أن تكون عن شورى كما سبق ونص عمر بن الخطاب على ذلك.
وببيان هذا الأصل تعلم خطأ من ذهب من الفقهاء إلى أن البيع لا يجوز إلا بصيغة تفيد الإيجاب والقبول (بعت وقبلت) ولذا ذهب من قال بهذا إلى تحريم ما يعرف ببيع المعاطاة، وهو أن تعطي البائع مبلغاً من المال وتأخذ منه السلعة دون كلام يفيد الإيجاب والقبول، وهذا بيع جائز نفعله جميعاً فأنت تشتري الآن صحيفتك اليومية، وكثيراً من السلع المعلومة دون أن تلفظ بكلمة واحدة من البائع فهل هذا بيع باطل شرعاً؟! بل وأنت تضع عشرين فلساً في الآلة فتخرج لك (قارورة البارد) فتشربها وتنصرف والطرف الثاني في هذا العقد ليس إنساناً وإنما هو آلة، وكل هذه البيوع مباحة لأن الأصل في المعاملات هو الإباحة ولا يجوز تحريم شيء منها إلا بنص، فالذين نظروا إلى المعاملات نظرتهم إلى العبادة أخطأوا خطأ فاحشاً لأنهم حجروا على الناس استحداث الجديد منها، وضيقوا القديم بكيفيات وهيئات وشروط لم يأذن بها الله سبحانه وتعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. فالذين قالوا لا ينعقد النكاح إلا باللغة العربية قد حجروا واسعاً، والذين قالوا شركات المساهمة حرام لأنها لم تكن معروفة في عهود الفقهاء الأولى قد أخطأوا خطأ فاحشاً، وضيقوا على الناس حياتهم بل الأصل في هذه المعاملات هو الحل ولا يحرم منها إلا بنص.
وكذلك أخطأ من نظر إلى العبادة نظرته إلى المعاملة فظن أن الأصل فيها التوسعة، وعدم الالتزام ولذلك فهو ينفر ويغضب إذا قيل له يجب أن تسوى الصفوف في الصلاة، ويلزق القدم بالقدم، ويسجد على هيئة معينة، ويركع بكيفية خاصة. أقول مثل هؤلاء ينفرون إذا ذكروا بهذا ومثله، وظنوا أن هذا من التحجير والتضييق بل ليس هذا هو التحجير والتضييق، وإنما الشأن في العبادة أن تؤدي كما شرعها الله تبارك وتعالى بكيفيتها، وحركاتها، وسكناتها وبذلك نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [صلوا كما رأيتموني أصلي]، ونفهم أيضاً أن الذين لا يتقيدون في مناسك الحج بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم وعبادته مخطئون لأنه يقول: [خذوا عني مناسككم] فالأصل في العبادة التقيد التام، والحرفية المطلقة وعدم الابتداع، ومن أحدث في أمور العبادة ما ليس مأموراً به فهو مردود عليه.
وأما شؤون الدنيا وتنظيمها فالأصل فيها الإباحة مع التقيد التام بحدود الله تبارك وتعالى، فلا يفعل فيها حرام، وأما الابتداع فيها والاستحسان فهو أمر مباح بل مطلوب شرعاً.
... هذه قاعدة هامة من قواعد فهم الشريعة، فلنحرص عليها فإننا محتاجون لها طيلة حياتنا.
وإذا فهمت هذه القاعدة - فاعلم أن الشورى من المعاملات التي شرعها الله لننظم بها شؤون حياتنا الدنيوية على أكمل وجه وأتمه وشؤون حياتنا الدينية أيضاً.
ولما كانت خاضعة دائماً إلى ظروف المجتمعات ونموها ورقيها، وتعدد مصالحها فإن الله عز وجل قرر المبدأ فقط (الشورى) ولم يقرر لنا كيفية معينة لتطبيقها. وذلك حتى نتصرف في الكيفية على النحو الذي يرضي ربنا، ويحقق لنا مصلحتنا الدينية والدنيوية ولذلك - أكـرر - يخطئ من يفرض على الناس صفة معينة لمبدأ الشورى ويقول: هذه هي الصفة الشرعية وغيرها باطل. بل الصفة التي تحقق مصلحة الأمة والجماعة، ويتحقق بها تنفيذ هذا المبدأ فهي الصفة التي يحبها الله ويرضاها. ولذلك يجب أن ينظر في الصفة الصالحة نظرة المصلحة العامة ولا نحجر على الناس بصفة معينة، فأي الصفات حققت مصلحة الجماعة فهي صفة شرعية واجبة أوجبتها هنا (المصلحة المرسلة) .
المبحث الثالث
مجالات الشورى
مضى القول بأن الشورى في حقيقتها استطلاع الرأي من أهل الخبرة للوصول إلى أقرب الأمور للحق، وأن الحق في أمور الشورى لا يقطع به لأن المقطوع بأنه حق لا يدخل في مجالات الشورى، وعرفنا أيضاً أن أسعد الناس حظاً في الوصول إلى الحق هم الذين يتجردون لله سبحانه وتعالى، ويتخلصون من هوى أنفسهم، ومضى كذلك القول بأن الشورى مبدأ واجب التطبيق وقاعدة من قواعد الحكم في الإسلام، وأنه مع ذلك مرن في التطبيق واتخاذ الشكل المناسب في كل عصر من عصور الإسلام.
والآن نحن مع المجالات التي سيعمل أهل الشورى فيها، و ما العمل الذي سيزاوله أهل الشورى عندما يجتمعون، وفي أي القضايا سيبحثون ويناقشون.
ونستطيع أن نرد هذه القضايا إلى خمس موضوعات رئيسية هي:
أولاً: سياسة الأمة في الحرب والسلم:
الأمة الإسلامية تحمل عقيدة نشطة تلزم أتباعها بالحفاظ عليها أولاً ثم الدعوة إليها، وذلك أنها تحمل كلمة الله وتطبق نظامه وشريعته، ومن أجل ذلك فالأمة تعمل -أو هكذا فرض عليها- لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وبذلك ينقسم الناس مع هذه الأمة إلى مؤمن موال مؤيد وكافر معاند محارب أو مستأمن مسالم أو معاهد له شروطه ومدته، والأمة في حركتها النشطة بدعوتها، وقيامها بنشر رسالة الإسلام التي تؤمن أنها رسالة الله، وانقسام الناس معها على هذا النحو فإنها تخوض حروباً، وتبرم عهوداً، وتجنح للسلم أحياناً، وفي كل هذه الأحوال يحتاج الأمر منها إلى دراسة وافية لقوتها وقوة أعدائها، والشروط التي ينبغي أن توقع العهود بها، ومتى تجنح للسلم، ومتى تنشط في الحرب، وهذا كله لا يحتمله عقل واحد، ولا يحوطه رأي واحد، ولا يستطيع رجل واحد مهما بلغ علماً وتقوى أن يصدر فيه عن الحق دائماً، ولذلك كان أول مجالات الشورى في النظام الإسلام هو تنظيم وتخطيط سياسة الأمة في الحرب والسلم، ولأهمية هذا الباب من أبواب الشورى حصر كثير من علماء السلف الشورى فيه فقالوا قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وشاورهم في الأمر} هو في الحروب ما جرى مجراها. وذلك أنهم رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من استشارة أصحابه في هذا المجال كما استشارهم في بدر وأحد وفي فداء الأسرى، وفي مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة.. الخ.
ففي القتال مثلاً آيات كثيرة بعضها يأمر بقتال من يقاتلنا فقط كقوله تعالى: {وقاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا}. .. وأخرى تأمر بقتال المشركين كافة كقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة}.
وهناك آيات تأمر بالسلم إذا جنح إليه العدو كقوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} وأخرى تأمر بالقتال وعدم الدعوة إلى السلم: {فلا تهنوا وتدعو للسلم وأنتم الأعلون} وليس هناك اختلاف بين هذه الآيات فلكل آية ظروفها وملابساتها، وإذا كان هناك نسخ في بعضها قرره العلماء فإنما كان ذلك بحسب المدى الذي وصلت إليه أمة الإسلام، فالمسلمون قبل بدر سمح لهم بالقتال وكان حراماً عليهم، وسمع لهم بقتال من قاتلهم فقط، والانتصار ممن ظلمهم وأخرجهم من ديارهم، ثم لما تألبت العرب عليهم ورمتهم عن قوس واحدة في الخندق، وأصبح بعد النصر في هذه الغزوة للمسلمين طاقة بقتال الناس والكفار جميعاً أمرهم بذلك. ولا يعني هذا عند من يفهم شيئاً من دين الله عز وجل أن المسلمين في حال ضعفهم مفروض عليهم أن يعلنوا الحرب على الناس جميعاً من أول وهلة، ولكن السياسة الشرعية تقتضيهم أن يعملوا بكل نص حسب ظروفه ومقتضياته وأحواله دون إلغاء لما سواه من النصوص. ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد عطل العمل بسهم المؤلفة قلوبهم وقال: لقد كان هذا وفي المسلمين ضعف أما الآن فلا، ولكنه لم يلغ النص ولم يعارضه وإنما ترك العمل به فقط في الظروف الذي أداه اجتهاده إلى أنه لا لزوم للعمل به فيه. وأنه عطل حد السرقة في عام الرمادة ولا يسمى هذا منه إبطالاً أو نسخاً. وملابسات الأمة الإسلامية وظروفها في كل عصر من العصور تلزمها اجتهاداً تضع به كل نص من النصوص في مكانه وملابساته الصحيحة ولا يمكن أن يصدر بهذا رأي رجل واحد، واجتهاد حاكم واحد ولا بد أن يجتمع لذلك ويقرر ذلك مجموع علماء الأمة ومجتهدوها ولا مكان ولا مجال له إلا بالشورى.
وأزيد هذا الأمر وضوحاً وهو واضح -بحمد الله- فأقول: لا يزعم زاعم منا أنه يقوم بكل أوامر الإسلام التي أمره الله بها وإنما يفعل -إن رزقه الله التقوى- في حدود الاستطاعة التي جعلها الله مناطاً للتكليف حيث قال: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال أيضاً: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} فالمؤمن التقي يفعل في حدود استطاعته، ومعنى ذلك أنه يجد ويجتهد ويبذل الوسع والجهد المستطاع ومع ذلك لا يزعم لنفسه أنه قائم بكل ما كلفه الله به من عمل واجب كحضور جماعة الصلاة دائماً والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله..
وكذلك الشأن بالنسبة للأمة فإن الواجب على الأمة بمجموعها من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى دين الله هو بحسب إمكانياتها وجهدها ووسعها. وإذا كان الفرد المسلم يستطيع أن يصل بمفرده إلى حدود وسعه وطاقته وما يجب عليه نحو أوامر الله عز وجل. فإن الفرد الواحد لو كان مجتهداً لا يستطيع وحده أن يقرر مدى طاقة الأمة وما ينبغي عليها أن تقوم به نحو تنفيذ أوامر الله عز وجل لها بقتال الكفار والدعوة إلى دينه ولا يستطيع أيضاً أن يصل إلى الكيفيات والأحوال التي تشن فيها الحرب أو يركن فيها إلى السلم ولذلك كان لا بد من الشورى في هذا الميدان. أعني ميدان سياسة الأمة في الحرب والسلم والمعاهدات ، وستكون الشورى لاختيار حكم الله المناسب للظروف والحالة والمكان والزمان، ولن يعني هذا مطلقاً تعطيل أحكام أخرى في هذا المقام. وهذا سر قول الرسول صلى الله عليه وسلم لقواده في الغزو: [وإن أنت استنزلت أهل حصن فطلبوا منك أن تنزلهم على حكم الله وحكم رسوله فلا تفعل لأنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا] .
وخلاصة هذا الأمر أن الميدان الأول من ميادين الشورى هو سياسة الأمة الإسلامية مع غيرها من الأمم قتالاً أو سلاماً أو عهداً أو صلحاً ولا يقرر هذا الحاكم المسلم بمفرده بل بمجموع آراء الأمة وفكرها، وهذه هي الشورى. وتبادل الرأي في هذا الصدد هو لاختيار حكم الله المناسب للظروف والحكم بحسب قوة الأمة وحالة عدوها..
ثانياً - أولويات التطبيقات للأحكام الشرعية:
المشكلة الأولى التي ستقابل أي حكم إسلامي بمفهوم الكلمة الشرعي -لا بمعنى الكلمة العرفي الكاذب هي أولويات التطبيق للأحكام الشرعية- فالأمة الإسلامية بعد ضياع الخلافة منها، وقيام الدول في أرضها على أسس وطنية أرضية لا على أساس عقائدي إيماني، وإزاحة التشريع الإسلامي من منصة الحكم ومزاحمة القوانين الأخرى للتشريع الإسلامي نشأت فيها بذلك أوضاع بعيدة كل البعد عن تشريع الإسلام وروحه، فقانون العقوبات الإسلامي بوجه عام مبعد مقصي، وكذلك قوانين السياسة الخارجية، وطائفة كبيرة من الأحكام الإقتصادية والاجتماعية بعيدة عن تشريع الإسلام، ولذلك فستكون المشكلة الأولى من أين يبدأ الحاكم الإسلامي تطبيق الشريعة الإسلامية. أمن السياسة الخارجية أم من إقرار قانون العقوبات فيقتل القاتل، ويقطع يد السارق ويرجم الزاني، أم بتعديل النظام الإقتصادي فيحرره من الربا والامتيازات المحرمة، أم بتطهير المجتمع من الرذائل والفسق فيمنع الخمر، ويغلق أماكن الفساد واللهو المحرم ويأمر النساء بالستر والتعفف. وهل يبدأ بهذا كله دفعة واحدة وفي يوم واحد؟ أم يتدرج في الإصلاح والبناء؟ وإذا كان يتدرج فما هم الأهم من ذلك ليقدمه على المهم؟
وهنا يأتي دور الأولويات في تطبيق الشريعة، وهذه الأولويات سيختلف النظر فيها كثيراً. إذ بينما يرى أناس أن النظام الاقتصادي يأتي في المقدمة سيرى آخرون أن تطهير المجتمع أولى من ذلك، وسيدافع آخرون عن رأيهم بأن السياسة الخارجية هي أهم المهمات، وسينادي آخرون بتطبيق قانون العقوبات أولاً وقبل كل شيء، ولا شك أن مجلساً للشورى يجتمع فيه أولو العلم والفضل من المسلمين سيقرر بعد نظر ونقاش الخطة التي يراها أمثل لتطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً كاملاً، وهذا هو المجال الثاني من مجالات الشورى إنه بحث الأولويات في تطبيق شريعة الإسلام وذلك حسب ملابسات الوقت وأحوال الناس واستعداداتهم والقوة المهيأة لحكومة إسلامية تريد تطبيق الإسلام وسط هذا الطوفان الهائل من أفكار الجاهلية ومعتقداتها ووسط طوفان آخر من الفسق والرذائل عم وجه الأرض كلها بالفساد والانحلال ولن تكون هذه مهمة يسيرة أبداً بل أنها مهمة شاقة للغاية لأنها تقتضي علماً واسعاً وحكمة عظيمة ولا يفهم هذا إلا من عرف منهج التشريع الرباني وتدرجه حسب استعداد النفوس وقبولها وعرف أيضاً منهج الإسلام في تربية الجماعة المسلمة والأمة المسلمة وأما من أوتوا نصيباً قليلاً من العلم فإنهم يظنون أن حاكماً مسلماً يستطيع أن يطبق الشريعة الإسلامية في الأمة بين عشية وضحاها وهذا سذاجة وجهل وإذا كان الأمر بهذه الأهمية والخطورة فلا يمكن أن يكون لرأي واحد وصول إلى الحق في هذا الأمر الخطير، ولذلك كانت الشورى في هذا الصدد من أهم الأمور.
وأعيد القول هنا أيضاً بأن الشورى من أوليات تطبيق الحكم الشرعي لا تعني مطلقاً أن الحكم الذي تأخر في التطبيق قد كفر به وجحد، وإنما تعني أن وسع الأمة وطاقتها لم تحتمله بعد، وهكذا تتدرج الأمة في مراقي العمل بالشريعة كما يتدرج الفرد فيتكلف من الأعمال ما يطيق شيئاً فشيئاً حتى يبلغ الكمال الذي قدره الله له، وهكذا تتدرج الأمة في تطبيق الأحكام حسب استطاعتها حتى تبلغ الكمال المقدر لها، ولا يستطيع تقدير هذه الاستطاعة إلا أهل الرأي والخبرة والمشورة من المسلمين.
ثالثاً: اختيار الإمام أو الخليفة اْو اْمير المؤمنين:-
الأسماء الثلاثة السابقة أطلقها المسلمون على من يتولى شؤونهم. وسر اختيار هذه الأسماء ليس غامضاً، ولا بعيداً، فالأمير بمعنى الآمر وقد اختار هذه التسمية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قيل له: يا خليفة خليفة رسول الله فقال: أنتم المؤمنون، وأنا أميركم. فسمي أمير المؤمنين، وأما الخليفة فهو من يأتي بعد سابق له، وقد سمي بذلك أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام بشؤون المسلمين، وتوحيدهم، والدعوة إلى الإسلام وقتال المخالفين، وإقامة شرع الله في الأرض. وأما الإمام فهو المقدم في الأمر ويطلق على من يتقدم للصلاة بالناس وقد أطلق على الأمير والخليفة والإمام لأنه المقدم في أمور المسلمين عامة، وفي الصلاة خاصة، والمقتدي برأيه.
والحاصل أن الحاكم في الإسلام يطلق عليه الخليفة لأنه يخلف من سبقه في القيام بشؤون المسلمين ويطلق عليه الأمير والإمام.
وهذا المنصب عظيم خطير لأن المسؤولية فيه مزدوجة فالإمام في الإسلام مسؤول عن أعماله أمام الله تبارك وتعالى، ومسؤول أمام الأمة أيضاً فهو ليس حاكماً مطلقاً لا يسأل عما يفعل بل يسأل ويراجع ويناقش لقوله تبارك وتعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} الآية، فبعد أن أمر تبارك وتعالى بطاعة أولي الأمر أخبر أنه قد يحصل التنازع في أمر ما وعند ذلك يجب رد ما تنوزع فيه إلى حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا إقرار لمبدأ اختلاف وجهة نظر الناس مع وجهة نظر ولي الأمر، ولم يقل سبحانه وتعالى مثلاً: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ولا تنازعوهم في شيء، بل اسمعوا لهم وأطيعوا مطلقاً، وذلك أن أولياء الأمور ليسوا بمعصومين لا بمنجاة من الخطأ بل هم معرضون لذلك، وقد يوفق إلى الصواب غيرهم، وهنا كانت القاعدة الربانية للوصول إلى الحق في أمور الاختلاف. وهي رد ما تنوزع فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أعلن الصديق أبو بكر من أول يوم تولى فيه خلافة المسلمين هذا المبدأ "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". وأعلنه عمر بن الخطاب أيضاً رضي الله عنه حيث قال: "إذا أحسنت فأعينوني وإذا أسأت فقوموني"..
وأما المسؤولية أمام الله تبارك وتعالى فقد نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله المشهور [كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته..] الحديث.
ومهمة الحاكم في الإسلام مهمة شاقة عسيرة لأنها ذات طرفين: الطرف الأول القيام بشؤون الدين تطبيقاً وتحكيماً والطرف الثاني القيام بشؤون الدنيا، ورعاية مصالح الأمة في هذه الدار. وأما الحاكم في غير النظام الإسلامي فمهمته دنيوية خالصة لا يضيره عند قومه أن يكون جاهلاً بالدين غير عالم به.
وإذا كانت مهمة الأمير في الإسلام ذات شقين وميدانين، فإن من مقتضيات هذا أن يكون الأمير عالماً بالدين مجتهداً فيه، عالماً بالدنيا ذا رأي وسياسة وحكمة في معرفة شؤونها. وليس هذا بالطبع أمراً سهلاً ميسوراً، فدراسة الدين دراسة واسعة عظيمة تحتاج إلى اجتهاد وانقطاع وتوفر زمناً ليس قصيراً ودراسة الدنيا تحتاج إلى معرفة بأنواع الناس، وعوائدهم، وأفكارهم، وعقائدهم وبسياسات الحرب والسلم، وعلم بالتاريخ ومجاري الأمور وكل هذه الآن علوم عظيمة مستقلة، لا بد من الإلمام بشيء كثير منها لمن يتصدى لمثل هذه الأمور، ومن الجهل والغباء الظن بأن الصحابة والخلفاء رضي الله عنهم قد ساسوا الدنيا وفتحوها ولم يكونوا على علم بهذه الأمور. وليس المجال الآن مجال بيان المدى الذي وصله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من علم ودراية بهذه الأمور الدنيوية ومكان هذا كتب التاريخ .
هذا المنصب الخطير العظيم، الإمامة العامة للمسلمين ليس هناك من طريق سليم شرعي للوصول إليه إلا طريق الشورى، فالشورى هي النظام الإسلامي الوحيد الذي يأتي عن طريقه الإمام أو الحاكم أو الأمير أو الخليفة كما يحلو لنا أن نسميه.
وقد يكون هذا مخالفاً لما دونه علماء السياسة من المسلمين الذين جعلوا من طرق الوصول إلى الحكم التغلب العام (الغلبة) وحيازة الشوكة (والشوكة هي القوة الضابطة للنظام والأمن) وأعطوا الشرعية ووجوب الطاعة لمن توصلوا إلى الحكم والخلافة على هذا النحو.
إلا أن كلامهم هذا ليس في حقيقته إقراراً لهذا المبدأ، ولكن رضوخاً له في ظروف استثنائية، وهو كما يقولون من باب (ارتكاب أخف الضررين) فالخروج على طاعة الإمام والخليفة الذي جاء إلى الحكم تسلطاً وقهراً وحاز الشوكة والغلبة أكثر ضرراً من الرضوخ له، وإقراره، وهذا ما جعل بعض كتاب الغرب يتهم الإسلام بمساندة الظلم، وإقرار التسلط. واتهامهم هذا في حقيقته قصور نظر، وعدم إدراك. وليس هذا مجال الرد على هذه الشبهة.
فالمهم هنا إثبات أن المبدأ الأساسي في الظروف الطبيعية الآمنة لاختيار الحاكم هو الشورى، وليس هناك طريق غير ذلك، وإن كان يتجاوز عن هذا المبدأ إذا وصل الحاكم المسلم المنفذ لشرع الله للحكم عن طريق الغلبة وفرض السلطان ويفتي بطاعته ويحرم الخروج عليه، وليس من هذا إقرار لطريقة وصوله إلى الحكم - فالتسلط وفرض السلطان بالقوة مرفوض شرعاً ولكن حقناً للدماء وارتكاباً لأخف الضررين.
وإذا كانت الشورى هي المبدأ الأساسي لوصول الحاكم إلى الحكم فالواجب أن لا يجعل الواقع التاريخي دليلاً شرعياً يتبع ويقاس عليه، وذلك أن الواقع التاريخي خاضع تماماً للظروف والملابسات التي تأخذ مجراها، وتفرض نفسها.
رابعا: رقابة الحاكم وتسديده:
الميدان الرابع لعمل أهل الشورى هو رقابة الحكم وتسديد الحاكم فالحاكم في الإسلام ليس حاكماً مطلقاً ولكنه حاكم مقيد بدستور الشرع ونصوص الكتاب والسنة، وقد أعطى الله سبحانه وتعالى لكل مسلم حق الإنكار للمنكر سواء صدر هذا من عامة الناس أو خاصتهم فالقائد والإمام في الإسلام معرض للنقد والإنكار عليه متى خالف نصاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت الدساتير في عهود الظلم والجاهلية قد جعلت ذات الحاكم فوق النقد، وجعلت من تعرض لنقده كأنما تعرض لنقد الدولة وقدسية النظام، وبهذا جعل الأمراء والحكام والملوك آلهة تعبد من دون الله سبحانه وتعالى، فالذي يحكم ولا معقب لحكمه هو الله والذي لا يسأل عما يفعل هو الله سبحانه وتعالى وذلك أنه العليم بكل شيء وأما غيره فمعرض للخطأ والزلل والغفلة بل وللهوى والميل مع المصلحة، وقد عجبت أشد العجب عندما ناقشت بعض المتحمسين للإسلام والذين يؤلفون جماعات للدعوة إذ وجدت آراءهم ومعتقداتهم في أنفسهم أنهم فوق النقد، وأن نقدهم إنما هو نقد للنظام ذاته أي للإسلام نفسه.. إن فهمكم هذا لا يختلف عن فهم سدنة الحكم الجاهلي في أشد عهود الطغيان تسلطاً وقهراً. فإذا كان ذواتكم هي ذوات النظام والنظام عندكم هو الإسلام نفسه لأنكم تدعون السير على هداه إذن أصبح النقد لكم كفراً بالله تعالى لأنه اعتراض على تشريعه.. وماذا تعترفون أنتم بهذا الفهم عن حكم طغياني أن يقول للناس كما قال فرعون {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}
لقد امتاز الإسلام عن جميع مذاهب الأرض أنه جعل كلمة الحق والصدع بها حقاً لكل مسلم بل واجباً على كل مسلم بل كان مما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم به العهد على بعض أصحابه [أن يقولوا الحق لا يخافون في الله لومة لائم] قالوا: الحق لنا يجب أن يقال سراً خوف الفتنة ولغيرنا لا بأس أن يقال جهراً. قلنا كلامكم هذا هو الفتنة.. لقد دعا عمر الناس إلى قول الحق له وذلك عندما قيل له: اتق الله.. قال: لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها وقال أبو بكر في خطبة العرش "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم" فنبذ الطاعة حال معصية الإمام حق للأمة. وقال عمر: "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني" ولم يقل فانصحوني سراً.. حتى لا تقتلوا النظام ولا تهدموا الإسلام. فأنتم بالله خير أم عمر؟ أم أبي بكر؟ ولقد كان الخير في الأمة عندما كانت النصيحة جهراً، فلما آلت إلى السرية والاستخفاء، فسد الناس أمراء وعامة وليس هذا مجال تفصيل هذا الأمر. والمهم هو أن نعلم أن حق الإنكار على الحاكم حق لكل مسلم بل هو واجب على كل مسلم يعلم أن ثم منكراً أظهره أمير فعليه بيانه، وبذلك تستقيم أمور شرعية ويستقيم الحاكم لأنه سيخاف الفضيحة والنقد وأما إذا آلت الأمور إلى السرية والمداراة فسدت النفوس وحلت الموعظة واستشرى الشر ووجد الاستبداد.
وإذا كان التقويم والتسديد للحاكم حقاً بل واجباً على كل مسلم كان وجوبه على أهل الشورى ألزم وأحرى فهو المفوضون من الأمة المؤتمنون من الحاكم، ولذلك فإن حق التسديد والتقويم واجب يفرضه الالتزام بالدين ويفرضه أيضاً التفويض من الأمة، والإستئمان من الحاكم فهو واجب مثلث أو قيل هو واجب من ثلاث جهات من الله الذي أخذ العهد على أهل العلم بالبيان وعدم الكتمان ومن الأمير الذي ائتمن أهل الشورى على تقويمه وتسديده، ومن عموم الناس الذين فوضوا في شؤونهم أهل الشورى.
وإذا كانت الدول التي تدعي الديمقراطية قد أعطت النائب في البرلمان أو مجالس الأمة حقاً خاصاً سمي بالحصانة أي براءة الذمة والحماية لقول كلمة الحق. فإن الإسلام قد أعطاها لكل مسلم، فكل مسلم في ظل نظام إسلامي صحيح يحمل هذه الحصانة وهي براءة ذمته من الدخيلة والتهمة حتى يثبت عكس ذلك، وحمايته ليقول كلمة الحق. فكلمة الحق فرض على كل مسلم، ولا تتم هذه الكلمة إلا بحماية وأمانة وأمن، وقد تقرر في أصول الفقه إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذاً يجب على الحاكم المسلم أن يؤمن الحصانة والحماية وبراءة الذمة لكل مسلم ليقول كلمة الحق وذلك أن قول كلمة الحق واجب أوجبه الله عليه ولا يتم هذا الواجب إلا بهذه الحماية فيجب أو توجد الحماية والحصانة.
وإذا كانت هذه النعمة قد سلبها المسلمون مثلما سلبوا كثيراً من النعم بتهاونهم وتفريطهم فإنها قد أسهمت إسهاماً كبيراً في إطالة ليلهم وإبعاد نهارهم. فمن تشرق عليهم شمس الحرية؟ فيقول أحدهم كلمة الحق يبذلها الصغير للكبير، والمحكوم للحاكم..؟ وما أرى هذا الليل زائغاً سريعاً وذلك أن كثيراً من المقلدين الجامدين قد زيفوا مفهوم الطاعة في الإسلام فجعلوها طاعة عمياء خرساء فقد رددوا [اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد] دون فهم ودون وعي، وحجبوا نصوص الطاعة عن نصوص التقويم والتسديد والنصح فخلقوا الاستبداد والطغيان بل أن كثيراً من المتحمسين للإسلام الذين زعموا الدعوة إلى الله وكونوا الخلايا والتنظيمات أمروا الأتباع بالسمع والطاعة، بلا مناقشة وفهم واسلطوا عليهم سيفاً أسموه مصلحة الدعوة وسرية الحركة، وقادوهم في هذه العماية إلى التهور تارة والإحجام تارات ثم إلى التمزق والضياع، ولو كانت هناك أعمال تحت الشمس وفي وضح النهار أقول لو كانت هناك نصح وتناصح وتربية على الصدع بكلمة الحق وعلى النقد البناء لجنبوا الدعوة المزالق والتبدد والضياع. ولذلك فإن الليل ليل المسلمين سيطول حتى تنشأ أجيال تتعلم الصراحة والوضوح وكلمة الحق لا تخاف في الله لومة لائم. ولم أر في حياتي كلمة حق واحدة علنية أعقبت فتنة أو عطلت مصلحة؟ ولكنني وجدت أن إخفاء النصيحة والضيق بها يولد قالة السوء في السر ثم يولد الجيوب التي تعمل في الخفاء ثم ينتج الضياع والتمزق. فمن يقدر من قادة المسلمين قيمة الكلمة الطيبة والنصيحة الخالصة العلنية فيقبلوها من قائلها لا يهابون ولا يخافون.
وإذا كان الإسلام قد أعطى كل فرد في الجماعة الإسلامية حق النصح والتقويم والتسديد لقائده وأميره، فإن هذا الحق بل الواجب في ذمة أهل الشورى وهم أهل الحل والعقد أشد وجوباً ولزوماً لأن هذا جزء من مهمتهم الأساسية التي رشحوا من أجلها.
وغير خاف أن إعطاء الحصانة للنائب عن الأمة في النظام الديمقراطي مفخرة لهذا النظام يجب أن نعترف بها، ويجب أيضاً أن نعترف أن التطبيقات السيئة لنظام الإسلام في الحكم قد حجبت طويلاً كلمة الحق عن الظهور وهذه التطبيقات السيئة ليست حدثاً شاذاً للأسف وإنما مرت عبر عصور طويلة ما زالت إلى يومنا هذا حتى أن كثيراً من المنتسبين للإسلام لا يفهم من قيام دولة للإسلام إلا القتل والصلب ومنع الرأي المخالف. وهذا خطأ في الفهم.
ونحن إذ نعترف بأن الإسلام قد أعطى الحماية والحصانة لكل فرد في الأمة أن يقول كلمة الحق التي يراها ويظنها حقاً، فإنما نعترف بشيء واقع في الإسلام قدمنا عليه الأدلة والبراهين ولا يوهن هذا الحق سوء التطبيق في عصور التسلط والقهر.
وعلى هذا فأي مجلس شورى في ظل نظام إسلامي صحيح ستكون إحدى مهامه الرئيسية تقويم الحاكم ونصحه وإرشاده، كما كان لها من قبل توليته وعزله وإلغاؤه. ولذلك فالحاكم نائب عن الأمة في تنفيذ حكم الله سبحانه وتعالى التي اختارته وهي التي تملك عزله. وهي التي وكل إليها تقويمه إذا حاد، وتسدده إذا أخطأ.
وليس الحاكم في الإسلام نائباً عن الله -حاشا وكلا- ولو كان ذلك صحيحاً لكان منصوصاً عليه من الله بأن فلان قد اخترته لكم فاسمعوا وأطيعوا وذلك كما تقول الشيعة بأن الإمام لا بد وأن يكون منصوصاً عليه من الله، ولذلك اعتقدوا في الأئمة النصحة وأنهم لا يقولون خطأ أبداً، وأما عند أهل السنة قاطبة فالإمام نائب الأمة وهو يصيب ويخطيء والأمة هي التي تملك توليته وهي تملك عزله، ويجب عليها وجوباً شرعياً نصحه وتسديده وتقويمه. وفي هذا الإطار عليهم له حق الطاعة ما دام لم يأمر بمعصية ولم ينه عن طاعة.
وبهذا نعلم أن من الواجبات الأساسية لمجلس شورى في ظل نظام إسلامي نصح الحاكم وتسديده وهو واجب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خامساً: بحث أحكام المعاملات الحادثة:
في كل يوم تستجد للناس معاملات وأقضيات لم تكن في أسلافهم، وقد أتم الله سبحانه وتعالى دينه في حياة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا شرع إلا ما شرع، وبعض هذه المعاملات الحديثة قد يشتبه بما حرم الله أمثاله، فيخاف المسلم الوقوع في الحرام، ولذلك شرع لنا الاجتهاد لإلحاق كل معاملة بأصولها من الحل والحرمة. فالأطعمة والأشربة التي تتصف بما حلل الله من الطيبات تلحق بالحلال والأطعمة والأشربة التي يتصف بالوصف التي جعله الله علة في التحريم كالخبث والإسكار فإنها تلحق بأصولها من الحرام. والمعاملات التي غلب عليها التراضي والعدل ألحقت بالحلال، والمعاملات التي غلب عليها الغش والحيلة والحظ والغرر ألحقت بأصولها من التحريم. وهكذا وهناك معاملات تنشأ يشتبه الحرام فيها والحلال فيغلب بعض الناس فيها الحلال لما فيها من الحل والخير ويغلب بعض الناس الحرام لما فيها من الحرام والشر وهكذا والوصول إلى الحكم الصحيح وخاصة في معاملات سيبنى عليها قضايا وحقوقاً واجب في ظل حكم إسلامي والحكم في الإسلام أصلاً هو حكم الله ولذلك كان المجتهد يجتهد إلى ما يظن أنه حكم الله وقد مضى هذا مشروحاً في أول البحث .
ولم يعرف تاريخ الإسلام ولا يجوز أن يعرف الوصول إلى الحكم الشرعي بطريق التصويت لأنه حكم الله سبحانه وتعالى لا يعرف بالكثرة أو القلة وإنما يعرف بالنص فإن لم يكن فبالاجتهاد كما مضى، وليست الأصوات والكثرة دليلاً على الحق في ذاته، ولذلك فلا يجوز قطعاً في التعرف على حكم شرعي أن نراعي فيه كثرة القائلين أو قلتهم، وإنما الإجماع فقط جعل حجة شرعية لأن الأمة كلها يستحيل أن تجمع على الباطل فإن الله قد عصمها من ذلك ولو هذه العصمة لما كان هذا محللاً ولكن الله لم يعصم الكثرة من الوقوع فيه، بل قد يكون الباطل مع الكثرة والحق مع القلة ولهذا أمثلة كثيرة.
والحاكم المسلم سيحتاج في الوصول إلى أحكام شرعية في معاملات كثيرة كثر فيها الرأي والخلاف. والطريقة لمعرفة الحق والصواب في هذا الأمر إنما هو الاجتهاد ولا بد أن يكون مجتهداً لأن الاجتهاد شرط من شروط صحة الإمامة العامة، فالإمام العام لا يكون مقلداً قط اللهم في حالات الضرورة والقهر، ذلك يكون كالميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله يؤكل ذلك كله اضطراراً. وكذلك يذعن لحكم المقلد اضطراراً لا اخياراً وقد أخطأ خطأ فاحشاً من قاس حالات الضرورة على حالات الاختيار والشورى والمهم أن الحاكم المسلم بصدد الوصول إلى حكم شرعي لحادثة أو معاملة جديدة سيجتهد، ومن أركان هذا الاجتهاد أن يسأل أهل العلم، وأهل الشورى هم أهل العلم أو أهل العلم يجب أن يكونوا أهل شورى، وكذلك كان القراء وهم الحفاظ الفقهاء هم أصحاب الشورى في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وبسؤال أهل العلم يصل الحاكم أو الأمير إلى ما يظن أنه حكم الله في هذه الحادثة أو المعاملة الجديدة.
وهكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا نزل به الأمر لا يعرف حكمه بالنص من الكتاب والسنة جمع له المهاجرون فسألهم ثم الأنصار فسألهم فيما كان عند أحدهم من نص حكم به، فإن اجتمعوا على شيء قضى به. فإن اختلفوا اجتهد رأيه رضي الله عنه. وهذا هو المسلك الصحيح في الوصول إلى الحكم الشرعي. الحكم بالنص فإن لم يكن فالحكم بإجماع أهل الفضل والعلم في الأمة فإن لم يحصل اجتهد الإمام رأيه ونسب القول إليه فيقال حكم عمر في هذه المسألة بكذا وقضى فيها بكذا.
وذلك حتى يكون لمن بعده الاختيار في نقض هذا الحكم إذا خالف الحق أو حدثت منه مفسدة أو وجد الخير بخلافه.
خلاصة:-
مر بنا الآن خمسة ميادين يعمل فيها رجال الشورى هي باختصار تولية الإمام الكفء وعزله بشروط في ذلك موضحة في كتب السياسات ونصح الإمام وتسديده وتقويمه عند الميل والانحراف.
وكذلك فمن مهمة رجال الشورى بحث الأوليات في تطبيق حكم الإسلام وذلك للظروف الطارئة على بلاد المسلمين وتغيير أنظمتهم بأنظمة كافرة بل وجميع أوضاعهم الاجتماعية والتعليمية والخلقية ولا بد به الشورى لبحث أهم الأعمال والقرارات بالبدء في التنفيذ.
وكذلك فأهل الشورى هم مخططون سياسة الأمة حالة سلمها وحربها فتنظيم السياسة الخارجية للأمة من مهمات الشورى.
وأخيراً فالإمام يسترشد بأهل الشورى آرائهم في الوصول إلى الحكم الشرعي للمعاملات الحادثة والقضايا الجديدة وقد مر بك ذلك والحمد لله مفصلاً.
المبحث الرابع
أهل الشورى وطرق معرفتهم
من التعرف على مجالات الشورى في الصفحات السابقة نحكم بأن الذين يتولون مثل هذه الأمور التي يتوقف عليها مصلحة الأمة في دينها ودنياها لا بد وأن يكونوا على مستوى هذه المسؤولية لقول الله تبارك وتعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} والشورى أمانة عظيمة فيجب أن تسند إلى أهلها الذين يقومون بها على وجه حسن ونعلم أيضاً أنه لا بد وأن يكونوا حائزين على ثقة الناس وحبهم واحترامهم حتى تكون آراؤهم وقراراتهم مقبولة عند الناس. ومعنى هذا أنه لا بد من توفر شرطين فيمن يجعلون أهل الشورى، وهما (العلم والقبول عند الناس).
وإذا تتبعنا وقائع الشورى في المجتمع المسلم الأول في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة، وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور في الأمور العامة التي تخص الناس جميعاً كما فعل في بدر شاور الناس كلهم وخاصة الأنصار الذين أخذوا عليهم العهد في العقبة على النصرة، وذلك ليتأكد لديه إن كانوا سينصرونه خارج المدينة أم لا. ولذلك تكلم عنهم سعد بن معاذ وكان سيد الأوس رضي الله تعالى عنه فقال خطبته المشهورة.
وكذلك في أحد استشار الناس جميعاً في الخروج أو البقاء لأن الأمر يهمهم جميعاً وأشار عليه البعض بالخروج والبعض بالبقاء وكان عامة الرأي على الخروج فخرج وإن كان ذلك مخالفاً لرأيه صلوات الله وسلامه عليه.
واستشار السعدين فقط في مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة ليرجعا بقوميهما وذلك في غزوة الأحزاب، وسر اختصاصه السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة بذلك أن الأمر يخص الأنصار لأنهم أصحاب الثمار في المدينة، والسعدان هما رؤساء الأوس الخزرج فهم النواب عن قومهم. ورفضا رضي الله عنهما الصلح ومزقا كتابه فأقرهما الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجع عن رأيه.
واستشار الناس جميعاً في شأن من سبوا زوجته عائشة رضي الله عنها وكان ذلك في المسجد وقال: من رجل يعزرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي. واستشار علياً وأسامة بن زيد فقط في شأن فراق عائشة بعد أن قال أهل الإفك فيها ما قالوا وذلك أنهم الصق الناس ببيته واعلم بمن يخرج ويدخل. وأما حوادث استشارة الخلفاء بعده فمعروفة مشهورة بكليتها كذلك على نحو هديه صلوات الله وسلامه عليه. فأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه استشار الناس في حرب فارس والروم وكذلك فعل عمر بن الخطاب واستشاروا أيضاً في اختيار الأمراء وقسمة الأرض وتولية الخلافة، واستشار عبدالرحمن بن عوف الناس جميعاً حتى النساء والعامة في أيهم يختارون للخلافة عثمان بن عفان أم علي بن أبي طالب وحوادث الشورى في عهدهم كثيرة مشهورة. ومن هذه الحوادث يتجلى لنا الحقائق التالية:
1- أن أهل الشورى هم عموم الناس إذا كان الأمر سيتعلق بعمومهم كاختيار الخليفة والحاكم وإعلان الحرب فهذه الأمور العامة لا بد فيها من رأي عام وموافقة عامة لأن الاختيار هنا هو لعموم الناس فالحاكم نائب عن الناس في تولي أمورهم وتسيير قضاياهم، ولذلك لا نولي إلا من يحوز ثقة عامتهم ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه للأنصار لما رأوا أنهم أولى الناس بالخلافة لأن المدينة عاصمة الخلافة هي دارهم قال لهم: "إن الناس لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش" أي أن عموم الناس لا يرضون أميراً إلا إذا كان قريشياً لأنهم أشرف العرب نسباً وأوسطهم داراً، وليس لهم عند أحد من العرب ثارات قديمة وأما الأنصار فلم يكونوا كذلك بل أن الأنصار لا يرضى بعضهم إمامة بعض فالأوسي لا يرضى بإمامة الخزرجي لما كان بينهم من ثارات قديمة. ويعني هذا أن الإمام العام لا بد وأن يستشار فيه عموم الناس ولا بد أن يرضى عنه جمهورهم وأغلبيتهم.
2- وأما الأمور الخاصة فيستشار فيها أهل هذه الخصوصية وأهل العلم والدراية بها. ففي تنفيذ الأعمال العسكرية يستشار أهل الرأي في ذلك وفي الأعمال الصناعية أهل الخبرة فيها وهكذا.
3- وفي سياسة الأمة وإدارة شئونها بوجه عام فمجلس شورى يختلف من أهل العلم والرأي من المسلمين بشروطه السابقة بعلم ورضى الناس عنهم ولذلك كان القراء أصحاب مشورة عمر رضي الله عنه كهولاً كانوا أو شباناً (البخاري) وكان أهل بدر لأنهم السابقون إلى نصرة الإسلام، هم أهل الحل والعقد وأهل الشورى كما نص علي بن أبي طالب عندما جاءه من يبايعه بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه قال: "ليس هذا لكم إنما هو لأهل بدر وأهل الشورى فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة فتجتمع وتنظر في هذا الأمر".
هل يشرع الانتخاب لمعرفة أهل الشورى:
بعض الناس الذين لم يستطيعوا التفريق بين الأمور التعبدية والقرب العبادية كالصلاة والصيام والحج يظن أن الأمر في السياسات الشرعية وأنظمة الحكم وشئون المعاملات المختلفة لا بد وأن يكون فيه نص شرعي أو سابقة في عهد الخلفاء ليصبح مشروعاً ويستدل في مثل هذه الأمور خطأ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم [من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد] فيجعل حكم العبادات والقرب هم حكم المعاملات. وهذا خطأ قد بيناه في صدر هذا البحث وقد قلنا آنفاً أن أوامر الشورى في الإسلام قد جاءت عامة مرنة لم تلزم المسلمين بعدد معين لرجال الشورى، لا بطريقة بعينها لكيفية اختيارهم، ولا بنظام خاص للاقتراع بينهم، بل أمرت هذه النصوص الحاكم بالشورى، والزمت المسلمين أن لا يصدروا في جميع أمورهم إلا عن الشورى كما قال تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} أما كيفيتها وتنظيمها فقد وكل هذا إلى عرف الجماعة ومستواها، وظروفها في العصور المتعاقبة.
ولذلك فإن من قال أن الانتخاب ليس نظاماً إسلامياً لأنه لم يأت به دليل شرعي فهو جاهل بالفروق بين المعاملات والعبادات.
وإذا نظرنا إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وجدناه أنه يستشير الشيخين أبي بكر وعمر كثيراً بل ويقول لهما: [لو أجمعتا في رأي ما خالفتكما في رأي ما خالفتكما] ويستشير السعدين أحياناً كما فعل في غزوة الأحزاب ومصالحة غطفان، ويستشير الأنصار في بدر.
ويستشير الناس عامة في أحد، ويستشير علياً وأسامة في فراق عائشة في حادثة الإفك وهكذا.
ولقد اعتبر أهل بدر بعد ذلك رجالاً للحل والعقد ولم يقطع أمر في زمن الخلفاء إلا بمشورتهم وكان هذا انتخاباً طبيعياً لهم، فالرجال الذين لم يجبنوا في لقاء كبدر لا بد وأنه يكونوا أهل ثقة المسلمين جميعاً ومحل احترامهم وتقديرهم بعد أن كانوا محلاً لرضى الله حيث قال صلى الله عليه وسلم: [وما يدر بك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم].
ثم كان قراء القرآن وحفاظه والعالمون به بعد ذلك هم أهل الشورى، فالبخاري يقول في صحيحه: "وكان القراء أهل مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباباً"، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين] فهؤلاء العلماء بكتاب الله دفعهم إلى منزلة الشورى علمهم وسبقهم.
وحقيقة أنه لم يحصل في العصور المتتالية للإسلام انتخاب لمجلس شورى، وذلك أن المستشارين بالفعل لو كان انتخاب ما نجح غيرهم فعلمهم وسابقتهم في الإسلام، وجهادهم في سبيله أهلهم بطبيعة الأمور لتلك المنزلة وهذه المكانة.
ولا ينافي هذا إشراك الأمة في اختيارهم فالحاكم الآن لا يستطيع بمفرده الوصول إلى خيار الناس وفضلائهم وأهل الخبرة فيهم.
ولا ينافي الإسلام أيضاً أن يكون للحاكم حق في اختيار عدد محدود من الأفراد ليكون من رجال الشورى وأهل الحل والعقد فيهم. وسلب هذا الحق منه إذا وجد أن المصلحة في ذلك ليست أيضاً باطلة شرعاً. بل كل ذلك من المصالح المرسلة التي لم يأت الشرع بإلغائها ولا الالتزام بها.
فتفويض الأمة الكامل لانتخاب مجلس للشورى جائز شرعاً وجعل عدد محدود باختيار الإمام جائز شرعاً. ويقدر هذه المصالح رأي الأمة ً. وللظروف والملابسات دخل عظيم في اختيار الأسلوب المناسب لتطبيق هذه الأحكام.
المبحث الخامس
الرأي الأخير في الشورى
السؤال الأخير في موضوع الشورى، هو: كيف الوصول إلى الرأي الأخير في الشورى. هل الإمام مخير في أن يقبل مذعناً لرأي أغلبيتهم أم له أن يرفض ذلك ويعدل إلى رأي القلة؟ وما يجب أن يلتزم بإجماعهم أم له أن يرفض رأياً أجمعوا عليه ويمضي ويحمل الأمة على رأيه هو وإن خالف هذا الإجماع.
في هذه المسألة نجد للباحثين المعاصرين والمحدثين من المسلمين آراء.
رأي يقول بأن الإمام مخير في قبول رأي الأكثرية من أهل الشورى أو رفض ذلك، والحكم الأخير له مطلقاً سواء وافق آراء الناس أم خالفها ويجب على الأمة -مع ذلك- السمع والطاعة له ما دام أن هذا اجتهاده ورأيه، بل لا يجوز له -في نظر هؤلاء- أن يذعن لآرائهم، وأن يرضخ لجمهورهم..
ويرون أن الشورى بالنسبة للإمام ما هي إلا للاستنارة، والتوضيح فقط. فهي كما يقال إعلام للأمير لا إلزام.
ورأي آخر يقول بل الإمام في الإسلام ملزم برأي الأغلبية، ويجب عليه تنفيذ ما اتفقوا وأجمعوا عليه، ولا يجوز له أن يخالف جمهورهم ولذلك يقولون الشورى ملزمة للأمير لا معلمة له فقط.
ورأي ثالث يقول بل الأمر في ذلك حسب رأي الأمة إن رأت أن تجعل الأمر للأمير مطلقاً فعلت وإن رأت أن تقيده بآراء أكثرية المستشارين فعلت لأن الإمام نائب عن الأمة والأمر دائر على المصلحة فإن وجدت الأمة أن مصلحتها في تفويض الحاكم لكفاءته وظروف الناس كان لها ذلك، وإن رأت أنه يجب تقيد صلاحياته بإجماع أهل الشورى أو برأي أكثريتهم فلها ذلك أيضاً.
ونحن نناقش بحول الله هذه الآراء جميعاً فنعرض حجة كل فريق منهم وأدلتهم ونناقش هذه الأدلة ونرجح بالدليل الرأي الصواب بحول الله وقوته.
أولاً: أدلة القائلين بأن الشورى معلمة فقط:
استدل هؤلاء بالأدلة الآتية:
أ- قول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} فأضاف الشورى للمسلمين، وجعل العزم -وقد فسروه بالرأي الأخير- للرسول وحده. قالوا فهذا دليل على أن الاختيار إنما هو للأمير فقط.
ب- وأما الدليل الثاني فهو قولهم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استشار الناس في المرتدين وخالفته الأغلبية وقالت: كيف نقاتل أقواماً شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال.. والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه. . وزعموا - فأذعن المسلمون لرأيه ونزلوا عند حكمه وحاربوا المرتدين وتركوا أقوالهم.
ج- وأما دليلهم الثالث فهو زعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع أشياء كثيرة برأيه ولم يقبل فيها آراء أصحابه: كصلح الحديبية وقتال بني قريظة.
د- والدليل الرابع قولهم أن الحكم بالأغلبية نظام غربي ديمقراطي وليس نظاماً إسلامياً، فالقائلون بوجوب الأخذ برأي الأغلبية متأثرون -في زعمهم- بالنزعة الغربية التي تسود الآن المجتمعات الإسلامية.
هـ- وأما دليلهم الخامس فهو قولهم لو كان الحكم برأي الأغلبية شيئاً مقرراً في الشريعة الإسلامية لكان أحد بحوث الفقهاء ولحدد نصاب الشورى في الفقه ووضعت قوانينه ونظمه كما هي بقية بحوث الفقه.
و- إن الكثرة قد جاء ذمها في القرآن في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وما أكثر الناس لو حرصت بمؤمنين} وفي قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} هذه الأدلة هي التي تذرع بها القائلون بأن الإمام في الإسلام غير ملزم شرعاً -بل ولا يجوز أن يلزم- برأي الأغلبية.
ولنناقش معاً هذه الأدلة لنرى هل هي أدلة صحيحة تقوم بها الحجة أم لا..
أ- الاستدلال بالآية على المراد غير صحيح لأن الآية تلزم بوجوب الشورى ولا تنص على كيفية الوصول للرأي الأخير فالله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وشاورهم في الأمر} وهذا أمر من الله ظاهره الوجوب وإذا كان واجباً في حق الرسول فغيره أولى بهذا، ثم يقول له: {فإذا عزمت فتوكل على الله} ولم يبن الله مستند هذا العزم والرأي الأخير الذي يكون عليه العزم هل هو رأي من استشارهم أم رأيه هو بل قال له: {فإذا عزمت} أي على رأي ما ولم ينص ما هذا الرأي هل هو رأي الرسول نفسه بعد الشورى أو رأي من استشارهم. ومن قال هنا أن العزم يكون على رأي الرسول الذي اختاره، ولو كان هو الرأي المخالف لرأي من استشارهم فقد تحكم على القرآن وقال فيه بغير علم وحمل الآية ما لم تحمل.
وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم الآية عملياً عندما استشار أصحابه في أحد فأشار جمهورهم بوجوب الخروج للقاء العدو خارج المدينة مخالفين بذلك رأي الرسول صلى الله عليه وسلم ولما أخذ برأيهم خشوا أن يكونوا قد ألزموا الرسول بشيء يكرهه فأرادوا بعد أن لبس الرسول صلى الله عليه وسلم لأمة الحرب ودرعه أن يتنازلوا عن آرائهم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: [لا يحل لنبي أن يخلع لأمة الحرب بعد إذ لبسها حتى يفصل الله بينه وبين عدوه] وهذا معنى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} أي إذا استقر الرأي على أمر فلا يجوز العدول عنه.
وبهذا يتبين أن هذا الدليل لا حجة فيه للقائلين بأن نص في أن الإمام مخير في الأخذ برأي الشورى أو رأي نفسه.
ب- وأما الدليل الثاني وهو الزعم بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ألزم المسلمين برأيه في حرب المرتدين فهو باطل كل البطلان لأن أبا بكر الصديق لم يلزم المسلمين بشيء على غير إرادتهم ولكنه رأي قتال مانعي الزكاة وإن صلوا وخالفه في هذا جمهور المسلمين كما سلف فناقشهم وأقنعهم أن الزكاة أخت الصلاة ومن منع الزكاة كمن منع الصلاة ولذلك يقول عمر رضي الله عنه وقد كان زعيم هذه المعارضة "فوالله ما رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى علمت أنه الحق" فعمر اقتنع برأي أبي بكر قبل أن يعزم المسلمون على قتال المرتدين ثم جاء الحديث الصحيح الذي قال عبدالله بن عمر موافقاً لرأي أبي بكر وهو قوله صلى الله عليه وسلم : [أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله] (البخاري ومسلم) فالمسلم لا يأمن سيوف المسلمين بنص الحديث حتى يؤدي الصلاة والزكاة بعد أن يكون شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ولما وضحت هذه الحجج للمسلمين أخذوا برأي أبي بكر الصديق عن اقتناع وإيمان ولم يكن إذعاناً لرأيه وهم مقتنعون بوجوب الطاعة للإمام فقط وإن خالفهم رأيهم.
ولو كان هذا واقعاً - لكان الصحابة آثمين أعني لو أن الصحابة رضوان الله عليهم أطاعوا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهم يرون أن المرتدين لا يجوز قتالهم لأنهم مسلمون لكانوا آثمين أشد الإثم بل وعاصين لله لأنهم أطاعوا أميرهم في معصية عظيمة وهي قتل أناس مسلمين لا يجوز قتالهم. فهل يريد أصحاب هذا الرأي أن يصفوا الصحابة بذلك؟
بالطبع لا.. ولكن أوقعهم في هذا الخطأ الشنيع عدم سير الأمور سيراً حقيقياً وتعجلهم في إصدار الحكم والأخذ بظواهر ظنوها أدلة وما هي بأدلة.
ج- وأما الدليل الثالث وهو الزعم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل أشياء كثيرة بغير شورى كصلح الحديبية الذي كان على خلاف رأي الصحابة وقتال بني قريظة - فهو جهل فاضح أيضاً ، أن صلح الحديبية كان بأمر من الله تعالى بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر [إنه ربي ولن يضيعني]، وأما غزوة قريظة فقد جاء في صحيح البخاري أن جبريل جاء قبل الظهر ليقول للرسول صلى الله عليه وسلم [إن ربك يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة].
ونحن نقطع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قطع في أمر ما من أمور المسلمين العامة إلا بوحي أو شورى بل قال أبو هريرة رضي الله عنه "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه".
ولم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ برأي الأقلية في أي من الأمور التي شاور فيها أصحابه أبداً وسيأتي تفصيل ذلك لهذا الأمر عند بيان قول القائلين بوجوب الأخذ برأي الأكثرية.
د- وأما القول بأن الأخذ برأي الأكثرية نظام غربي وديمقراطي وليس من الإسلام هو خطأ من وجوه كثيرة.
أولاً: أنه ليس كل شيء في النظم الغربية باطلاً ومخالفاً للإسلام بل بعض هذه النظم والقوانين لا تخالف الإسلام فكون الحاكم يجب أن يرضى عنه جمهور الأمة، لا ينافي الإسلام وهو أحد القوانين في النظم الديمقراطية وكذلك عزل الحاكم إذا أساء، ولا نستطيع أن نلغي مثل هذه القوانين من نظام الإسلام لأنها أصبحت جزءاً من النظام الديمقراطي.
ثانياً: حصر عمر رضي الله عنه الحكم في ستة عندما فوضته الأمة في اختيار نائب له فأبى أولاً ثم رضخ بعد إلحاح لهذا ثم أخبر أنه إذا اجتمع أربعة على واحد وخالف اثنان فلا يعتد برأيهما فينصب خليفة للناس وإذا انقسم الستة إلى ثلاثة وثلاثة فعبدالله بن عمر مرجح لأحد الرأيين ولو كان الأخذ بقول الأغلبية منافياً للإسلام لما وافق الصحابة عمراً على رأيه هذا ولقالوا له: لقد ابتدعت بدعة عظيمة في الإسلام فكيف يكون الاختيار بترجيح واحد أو بموافقة الأغلبية بل الأمر لك وحدك.
وإقرار الصحابة له وعدم وجوب مخالف في ذلك إلى يومنا هذا دل على أنه إجماع على أن نظام العدد والتصويت معمول به في شريعة الإسلام وفي سنة الراشدين. وليس نظاماً غربياً كما يدعي المدعون، فليس رأي الأكثرية عورة يجب نزعها من الإسلام نزعاً ونسبتها للغرب.
هـ- وأما الحجة الخامسة وهي أن نظام العدد والتصويت لو كان من شرائع الإسلام لذكرته كتب الفقه، وحددت نصابه ونظامه فهو أيضاً قول مقذوف على عواهنه. فكتب السير ذكرت حادثة عمر هذه وجعلت بيعة الإمام بموافقة أهل الشورى وجمهور المسلمين بل قال أبو بكر الصديق للأنصار يوم السقيفة "إن العرب لا تجتمع إلا على هذا الحي من قريش" أي أن جمهور العرب يجمعون ويجتمعون على قريش ولا يمكن أن يرضى جمهورهم عن أنصاري.
وسيأتي في بيان مسوغات الأخذ برأي الأغلبية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما كان ليخالف جمهور مستشاريه قط بل أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول لأبي بكر وعمر [ولو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما].
وإذا كانت كتب الفقه التي اهتمت بالفروع قد كتبت في عهود تعطل فيها العمل بالشورى في ظل أحكام أخذت الوراثة في الحكم، والاستئثار بالأمر دون المسلمين، فهل يكون هذا الواقع حجة في دين الله؟ إلا أنها حجة واهية.
و- وأما الحجة السادسة لأصحاب القول الأول وهي أن الكثرة قد جاءت مذمومة في القرآن في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} الآية في قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} قالوا وزعموا: ويؤخذ منها أن الكثرة على ضلال، وما دام الأمر كذلك فلا يؤخذ برأيهم ولا يحكم بحكمهم.
ولم أر قولاً في الباطل كهذا القول. إذ هو إنزال للآيات في غير منازلها وتطبيق لها في غير واقعها. فالكثرة المذمومة هنا هي كثرة الكفر والضلال لا مجموع الأمة وجمهور خيارها.
فالأمة بمجموعها معصومة عن الخطأ كما هو مقرر في أصول الفقه، وجمهور الأمة أقرب إلى الصواب من القلة في الأمور التي لا نص فيها فانظر كيف يستدل بالآيات في غير مواضعها، وتنزل على غير أحكامها ومنازلها.
وبهذا النقاش الموضوعي تتداعى تلك الحجج الوهمية التي تذرع بها من قال بأن الإمام في الإسلام غير ملزم برأي الأغلبية ومن قال أن اتباع رأي الأغلبية مناف للشريعة الإسلامية.
أصحاب الرأي الثاني وهم القائلون بأن الشريعة الإسلامية توجب على الإمام الشورى:-
وتوجب عليه أيضاً الرضوخ لرأي جمهورهم والحكم مطلقاً بالرأي الذي يجمعون عليه وتتلخص حجتهم في الأدلة الآتية:
أ- حدوث وقائع كثيرة تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن رأيه لرأي جمهور أصحابه، بل عدم ورود حادثة واحدة تدل على أن الرسول تمسك برأيه في أمر شورى أعني أمراً ليس موحى به. وكذلك كانت سنة خلفائه الراشدين إنهم ما تمسكوا بآرائهم في وجه الشورى قط بل قضوا دائماً بالنص أو بما اتفق عليه جمهور الأمة.
ب- قالوا، لا فائدة من الشورى لو أن الأمير له الخيار بعد الشورى أن يختار ما يشاء ولو خالف إجماع أهل الشورى.
ج- قالوا: إنه لو كان هذا مقرراً في الشريعة وهو أن الأمير غير ملزم إلا برأيه لكان هذا مدعاة إلى التسلط والقهر، وإلغاء لرأي الأمة، وإتلافاً لإجماعها وهي معصومة من الخطأ كما تقرر في الأصول، والأمير غير معصوم من الخطأ. فكيف يحكم غير المعصوم على المعصوم.
د- قالوا: لو فرضنا جدلاً أنه ليس في الشريعة الإسلامية ما يقرر بأن الأخذ بحكم الأكثرية واجب وقد اتفقنا على أنه ليس في الشريعة أيضاً ما يحرم ذلك. فإن الأولى والأحرى أن نشرع ذلك الآن لأن المصلحة المرسلة تقتضي ذلك.
هـ- قالوا أيضاً يكفي الأمة ما لاقت من عصور الاستبداد وإبرام الأمور في غيبتها، وإهدار آراء علمائها وذوي الرأي فيها.
هذه هي أصول الأدلة التي استدل بها من يقول بأن الإمام في الإسلام ملزم برأي أغلبية مستشاريه. ولمناقشة هذه الأدلة أيضاً نقاشاً موضوعياً.
أ- أما أن الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور الشورى وهي غير الأمور التي جاء بها الوحي قد نزل عند رأي أصحابه ولم يخالف رأي جمهورهم قط. فنعم. فقد فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أصحابه الذي استشارهم في بدر فقد وافق أبو بكر على لقاء نفير قريش وكذلك عمر، وقد ألهبت خطبة المقداد المشاعر، وقد سره جداً أن يكون رأي الأنصار كذلك وذلك في خطبة سعد بن معاذ الخالدة التي قال فيها "والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد" ونحن نقطع الآن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أشير عليه بالرجوع لرجع إلا أن يكون في الأمر وحي من الله، ولو كان في بدر وحي لما استشار الرسول أصحابه ولقال لهم: إن الله يأمركم بلقاء قريش الآن.
وكذلك في أحد رأينا أنه رضخ لرأي جمهور صحابته الذين تشوقوا للقاء العدو وإن كان هذا على خلاف رأيه، وهو يعلم مقدار الآلام التي ستتحملها الأمة فقد رأى في رؤياه أن بقراً تذبح وأن ثلماً في ذباب سيفه وقد أوله صلى الله عليه وسلم بقتل عدد من أصحابه وقتل رجل من أهل بيته. ومع ذلك أذعن رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج.
وفي الخندق رجع عن رأيه لرأي السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وذلك بعد أن كتب كتاباً مع رؤساء غطفان، وأقرهم على قطف ثمار المدينة ولكن أحد السعدين أخذ الكتاب ومزقه بل وبصق عليه وقال (والله لا نعطيهم إلا السيف) وهنا نجد أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذعن لرأي مستشاريه وهم أصحاب الشأن في ثمار المدينة لأنهم رؤساء الأوس والخزرج.
وفي حصار الطائف أبدى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبته في الرجوع عن حصار الطائف بعد مكث استمر كما قالت بعض الروايات أربعين ليلة وحصل للمسلمين في هذا الحصار بلاء شديد فقد قتل منهم رجال بالنبل، ولما استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلمي فقال ما ترى؟ فقال له معاوية ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك.. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً أن يؤذن بالرحيل فضج الناس وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعدوا على القتال ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه، ولكن بعد أن أصيبوا بجراحات أخرى من القتال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون غداً إن شاء الله تعالى فسروا بذلك وأذعنوا وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ، وفي هذا دليل ظاهر على نزوله صلى الله عليه وسلم عند رأي أصحابه وعدم إجبارهم عليه لأنه رأي وليس بوحي.
ومن تلك الوقائع كلها يظهر جلياً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يعدل عن رأي جمهور أصحابه قط بل قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: [لو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما].
وكذلك كانت سيرة الراشدين رضي الله تعالى عنهم فإنهم ما حملوا الأمة على رأي كرهته قط، ولا خالفوا جمهورهم أبداً. بل أن عمر كان يجمع المهاجرون للشورى فإن أجمعوا على رأي قضى به، وذلك كانت سيرتهم محمودة في أصحابهم، وإن كان أخذ على عثمان شيء فإنما هو لعدم الرجوع الدائم للأمة في بعض الشؤون وبذلك انتقضت عليه كثير من الأمور وظهر الإنكار عليه من كثير من الصحابة كعلي وعائشة رضي الله عنهما.
ب- وأما الأمر الثاني وهو أنه لا فائدة من الشورى لو أن الأمير له الرأي النهائي وإن خالف أكثرية الناس، فليس هذا الكلام صحيحاً بإطلاق، ولكنه صحيح من وجه. ففائدة الشورى عندئذ هي تنوير الإمام ليس إلا، وهي بلا شك فائدة جزئية وهي تفيد مع أفذاذ من الناس يملكون البصيرة والخبرة والتقوى وقلما اجتمعت هذه الخصال في رجل، اللهم إلا رجلاً كأبي بكر وعمر وهيهات أن يوجد في الأمة مثال يقرب من ذلك فضلاً أن يكون مثله، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: [وزنت بالأمة فرجحت، ووزن أبو بكر بالأمة لست فيها فرجح، ووزن عمر بالأمة لست فيها أبو بكر فرجح] (البخاري) فهم رجلان كل منهما كان بباقي الأمة.
ج- وأما الأمر الثالث فهو أن تمكين الإمام من الأخذ برأيه مطلقاً وافق الشورى أو خالف فإنه ذريعة للاستبداد، والنفوس يستحيل أن تبرأ من الهوى مطلقاً ومن المنافع الشخصية أبداً، وإذا كان قد سلف في الأمة خلفاء لم تكن لهم منفعة شخصية فإنى لنا أن نجد هذا دائماً. وهذا وجه حسن.
وقالوا أيضاً إجماع الأمة معصوم من الخطأ ورأي الإمام ليس معصوماً فلو كان للإمام أن يخالف مجموع الأمة لجعلنا غير المعصوم حكماً على المعصوم ثم لا شك أنه إذا تعادلت الآراء فرأي الإمام رأي، والصواب أحرى أن يوجد عند الجماعة منه عند الفرد، وكذلك نسبة الصواب مع المجموعة الكبيرة أكبر من نسبته مع المجموعة الصغيرة.
د- وأما الدليل الرابع وهو أن القول بالأخذ برأي الأغلبية ولزومه للإمام لو لم يكن مقرراً في الشريعة لوجب الأخذ به عملاً بالمصلحة المرسلة فهذا أيضاً دليل جيد إذ قد جاءت الشريعة بمصالح العباد فالمصلحة التي اعتبرتها الشريعة هي مصلحة إلى يوم القيامة، والمصلحة التي أهدرتها هي مفسدة إلى يوم القيامة، وأما المصلحة التي لم يأتي نص بإهدارها ولا باعتبارها فإذا رأيناها مصلحة وجب الأخذ بها أخذاً بالمنافع والمصالح.
والزام الحاكم برأي الأغلبية فيه منافع عظيمة للأمة إذ أنه يحول بين الحاكم وبين الاستبداد، ويجعل للرأي مكانة ومنزلة، ولجمهور الشورى مكانهم ومنزلتهم، ويعصم كثيراً من الآراء الفردية المرتجلة التي قد تدمر الأمة بأسرها. ولعل هذا الدليل هو أقوى الأدلة على وجوب القول بهذا الأمر فقد لاقى المسلمون من الاستبداد بالرأي الفردي ويلات كثيرة ولن تشرق شمسهم إلا في ظل حكم شورى يضع للرأي الجماعي منزلته ومكانته.
هـ- هذه هي مجموع الحجج التي استند إليها القائلون بوجوب أخذ الحاكم برأي الأغلبية وهي كما ترى أمور واضحة صريحة شمسها ساطعة لا يحجبها سحاب أو ضباب.
وأما القول الثالث وهو أن الأمر في هذه المسألة يرجع إلى رأي الأمة:-
(( فإن رأت الأمة أن تفوض الإمام في اختيار الرأي المناسب من آراء الشورى فعلت وإن شاءت أن تلزمه برأي جمهورها فعلت)) إذ ليس فى الشريعة ما يوجب هذا اْو ذاك ، وما ينفي هذا أو ذاك. فهو رأي أيضاً ساقط للأدلة التي - سقناها أنفا - ً مبينين أن الآخذ برأي الأغلبية هو السنة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والراشدون من خلفائه وهو الذي تقتضيه المصلحة المرسلة، والظروف المعيشية التي تحيياها الأمة إذ يستحيل على الأمة أن ترد جميع أمورها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية وغيرها لرأي فرد واحد من الناس مهما كان هذا الأحد في الوقت الحاضر، ولا بد من إشراك الأمة إشراكاً حقيقياً ليس بالرأي فقط بل بالاجتهاد الملزم للإمام ما دام أنه رأي الجمهور والأغلبية.
ويمكن أن يقال بأن الرأي الثالث يعمل به أحياناً في ظروف خاصة حيث تعطي الأمة الإمام الحاكم صلاحيات معينة في اتخاذ قرارات مناسبة في ظرف من الظروف الطارئة كظروف الحروب والقلاقل الاجتماعية وأما في غير ذلك فقد عرفت بالأدلة القاطعة أنه يجب على الإمام الالتزام برأي أغلبية مستشاريه.
وأظن الآن أنه في البيان السابق قد وضح الحكم، واتضحت السبل وعلم يقيناً بالأدلة الصريحة من مقتضيات الحكم الشورى في الإسلام الأخذ برأي الأغلبية المستشارة. والمستشار مؤتمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن تستأمنهم الأمة وتوليهم مهمة النظر في أمورها وتصريف سياستها يجب على الحاكم المسلم أن ينفذ ما أجمعوا عليه ويجب أيضاً أن يكون رأي أغلبيتهم هو الرأي الراجح الذي يجب الأخذ به، وليس هذا النظام نظاماً من صنع الغرب، ومن اختراع الديمقراطية كما ادعى المدعون، ولكنه نظام إسلامي خالص، انتقل من حضارتنا إلى حضارة الغرب كما انتقلت حسنات كثيرة، واليوم ينكره فريق منا أشد الإنكار لأنهم عاشوا في ظروف التسلط والقهر، وألفوا نظماً فاسدة انتسبت للإسلام زوراً، ونسبت تسلطها هذا للإسلام والإسلام الحق بريء من ذلك.
· الشروط المتطلبة في أهل الشورى :
مما لاشك فيه أن أي مؤسسة من مؤسسات الدولة تستلزم نظمها أن تتوافر في أعضائها شروطاً معينة سواء من ناحية الكيف بضرورة اكتسابهم لأوصاف معينة أو من ناحية الكم بتحديدهم بعدد معين أو نسب محددة .
وفقهاء الشريعة الإسلامية لم يهملوا جانب الكيف بل لا نكون مبالغين إذا قلنا انهم أول من طالب بوجوب توافر شروط معينة في الحاكم الأعلى للدولة أو الوزراء أهل الشورى وأصحاب القضاة والولاة إلى غير ذلك . وهم في ذلك قد أفاضوا القول أحاطوا بكل الصفات الموضوعية التي لا يتأتى معها قصور أو نقص ، ولكنهم في جانب الكم جاءت أقوالهم مبهمة في سياق الكلام عن انعقاد الإمامة والعدد الذي تنعقد به مما لا يمكن معه الاستنتاج السليم في التحديد المطلوب لأهل الشورى .
· شروط أهل الشورى من حيث الكيف :
قد يكون الماوردى هو أول من أوجب توافر شروط معينة في أهل الشورى في سياق حديثه عن اختيار الخليفة أو الإمام ، وهذه الشروط التي استلزامها تعتبر إجمالا جامعاً لتفصيل أورده من جاء بعده وذلك حيث يقول : (( أما أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة ، العدالة الجامعة لشروطهم ، العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها ، الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح .
والإمام محمد عبده حين أوجب طاعتهم اشترط أن يكونوا منا أي من المسلمين ، وألا يخالفوا نصوص القران والسنة ، وان يكونوا مختارين في آرائهم .
ويقول الشيخ محمود شلتوت : (( أن يكونوا من أهل العلم والبصر بأمور الدين والدنيا ومن ذوي الرأي والخبرة في نواحي الحياة المختلفة )).
وبعض المعاصرين لخصوا الشروط في شرطين فقط . (( العلم والقبول عند الناس )) (( الأخلاق الدينية والثقافة العامة )) وهذا التلخيص معيب خاصة فيما يتعلق بالثقافة العامة إذ يجب أن تكون التعبيرات محددة وموضحه المقصود منها . ولقد عاب البعض على السلف إتيانهم بألفاظ مبهمة عند تحديدهم لفئات أو أوصاف أهل الشورى مثل (( الرؤساء )) ، و (( وجوه الناس )) .
وفي تحديد شروط المستشارين و مواصفاتهم قال الإمام جعفر بن محمد الصادق: (شاور في أمورك ما يقتضي الدين من فيه خمس خصال: عقل، و علم، وتجربة، و نصح وتقـوى، فان تجد فاستعمل الخمسة و أعزم و توكل على الله فانّ ذلك يؤدي بك إلى الصواب) .
ونحن نرى :- هذه أهم الشروط و المواصفات ويمكن تقسيمها إلى محاور من خلال أحاديث الرسول (ص) و آراء غيره .
1 - الـتـقـوى :
قال الرسول(ص) : استشيروا في أمركم الذين يخشون ربّهم) .
فالذي يخشى الله و يكون ملازماً للتقوى فانه يبدي رأيه الواضح الصريح و يقدم المصلحة الإسلامية على مصلحته الشخصيّة .
2 - أن يكون عاقلاً ناصحاً :
قال الرسول(ص): (مشاورة العاقل الناصح رشد و يمن و توفيق من الله فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف فانّ في ذلك العطب) .
فالمستشار إذا كان ناصحاً وفي أعلى درجات الوعي فانه لا يشير إلاّ بالرأي الأصلح و الأصوب .
و قال (ص) : (الحزم مشاورة ذويّ الرأي و إتباعهم) .
3 - العلم و العدالة والكفاءة :
في مجال اختيار الحاكم الإسلامي يقوم المجلس المخصص لذلك بالتشاور بين أعضائه للوصول إلى تشخيص الحاكم و اختياره، و يجب أن تتوافر فيهم الشروط الثلاثة وهي العدالة والعلم و الكفاءة ، (أما أهل الاختيار فيعتبر فيهم ثلاث شروط: أحدهما العدالة والثاني العلم، الذي يتوصل به الى معرفة من يستحق الإمامة، و الثالث: أن يكون من أهل الرأي و التدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح) .
4 - موضع ثقة الأمة :
يرى الماوردي وجوب حصول المستشارين على ثقة الأمة فيقول: (... أن يشاور في أمر المسلمين من يكون حائزاً لثقة عامتهم، و يكون الناس على اطمئنان من إخلاصه).
5 - الأمانة :
يجب أن يتصف المستشارون بالأمانة و النزاهة حتى تكون القرارات و الآراء السابقة لها موضع اطمئنان، قال ابن قدامة: (و يشاور أهل العلم و الأمانة) .
· شروط أهل الشورى من حيث الكم :
تكلم علماء السلف عن أهل الشورى عند بحثهم للعدد المطلوب لصحة عقد الإمامة من أهل الحل والعقد ، أو أهل الاختيار ويبدوا أن الماوردى قد أجمل الأقوال السابقة عليه والمعاصرة له بقوله: (( اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد من كل بلد ليكون الرضا به عاما ً والتسليم لإمامته إجماعاً )) ثم يعقب على ذلك بقوله : وهذا رأى مدفوع ببيعة أبى بكر الصديق رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر قدوم غائب عنها . وقالت طائفة اقل تنعقد به الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالا بأمرين ، أحدهما : أن بيعة أبى بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها وهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، وأسيد بن حضير ، وبشير بن سعد ، وسالم مولى ابن حذيفة . والثاني : أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقدها أحدهم برضا خمسة . وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة . وقد قال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين . وقالت طائفة تنعقد بواحد لأن العباس قال لعلي رضوان الله عليهما . امدد يدك أبايعك فبقول الناس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان .
وقد ذهب أبو بكر الأصم إلى أن الإمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم . وهذا أيضا ما نقل عن هشام بن عمر القوطي الذي قال أن الإمامة لا تنعقد في أوقات الفتنة والخلاف .
وعند الشافعية أن اقل عدد يمكن أن تعقد به الإمامة أربعون قياساً على ما تصح به صلاة الجمعة.
ونستطيع أن نحصر آراء العلماء في الاتجاهات التالية :
اتجاه يرى أن اختيار الإمام لابد أن يكون بإجماع الأمة عن بكرة أبيها وهو بهذا يشبه الديمقراطية المباشرة .
واتجاه يرى أن الإمامة لا تنعقد إلا باتفاق أهل الحل والعقد من كل بلد وهذا يشبه الديمقراطية النيابية .
والاتجاه الثالث هو الذي يحاول تحديد أهل الاختيار بعدد محدد قياساً على بعض العقود والأحكام .
وقد انفرد الإمام مالك باعتبار أهل الحل والعقد هم أهل الحرمين مكة والمدينة . وحددهم القلانسي بعلماء الأمة الذين يحضرون موضع الإمام .
وكل هذه الاتجاهات تنصب أساساً على أهل الحل والعقد باعتبارهم هيئة اختيار الإمام أو الخليفة .وتنوع هذه الاتجاهات إنما يدل دلالة قاطعة على ثراء الفقه الإسلامي وشموله واتساعه بحيث تستطيع كل بيئة ويستطيع كل عصر أن يأخذا منه ما يناسب كل منهما خاصة فيما يتعلق بتنصيب الحاكم الأعلى للدولة .
قد تبيّن من خلال ما تقدم أهمية اشتراك الأمة في الشورى لكي تتعمق العلاقة بين الحاكم و رعيته و يتوصلوا إلى الرأي الأصوب و الموقف الاصوب المنسجم مع المصلحة الإسلامية الكبرى، فالاحرى بالمجتمعين في مؤتمرات الوحدة و التقريب أن يتشاوروا في كل أمر يتعلق بالوحدة و التقريب و يضعوا برامج و مناهج عمل مشتركة و يشكّلوا لجان متخصصة تعمل على مدار السنة، و تتابع فيها حركة الوحدة والتقريب، و تتجاوز المعوقات والثغرات و وضع خطط جديدة تساعد على الوصول الى الأهداف الكبرى بتضافر الجهود والإمكانيات، ثم يكون المؤتمر الجديد مناسبة جديدة لتقييم مسيرة الوحدة و التقريب ، ولا يقتصر على إلقاء الخطب و قراءة البيان الختامي، فيجب أن تكون النشاطات والأعمال بمستوى الطموح، وبمستوى التحديات التي تتعرض لها امتنا الإسلامية و خصوصاً ما تقوم به الدول الاستكبارية من مؤامرات لإبقاء حالة الفرقة و التمزّق وما يقوم به أذنابهم من إثارة الفرقة تحت لافتات إسلامية أو مذهبية، فلنتشاور معاً و لتوسع عدد المتشاورين لكي نصل إلى وحدة الأمة الإسلامية بأسرع وقت و بأقل التكاليف.
الفصل الرابع
الشورى الإسلامية المعاصرة
س- هل يمكن تطبيق الشورى الاسلامية في عصرنا الراهن :
المحصلة النهائية لما سبق أن تقوية المجتمع المدني وقيامه على أسس الشورى هي السبيل الأمثل لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية ، ليس بالشعار الاستبدادي المأثور القائل بأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ولكن باستنهاض كل أفراد الأمة وإخراجهم من السلبية وتحويلهم إلى مسئولين ، كل في موقعه ، وحينئذ فلن تستطيع قوة داخلية أو خارجية أن تهدد ذلك المجتمع.
وذلك يقودنا إلى القضية التالية .. هل المقصود الديمقراطية الغربية القائمة على التمثيل النيابي وحكم النخبة وأهل الحل والعقد بتعبير التراث .. أم بالشورى الإسلامية الأصلية التي لا تعرف التمثيل النيابي وحكم الملأ وأهل الحل والحقد ؟ لقد تأكد لما سبق أن الشورى الإسلامية فريضة كالصلاة ملزمة لكل فرد ولا تقبل الأعذار في المرض أو السفر أو الحرب أو في السلام ، ولا يقبل فيها الاستتابة أو أن يحضر احد بدلا عن أحد .
وتأكد مما سبق أن المسلمين بهذا النظام الشورى الكامل حقق المسلمون معجزة عسكرية وحضارية .. ولكن يبقى السؤال الهام .. هل يمكن تطبيق الشورى في عصرنا الراهن ؟؟
أن كثرة السكان وانصراف أغلبهم إلى أمور معاشهم مما يعطي الحجة لأنصار النظم الاستبدادية الصريحة والمقنعة أو تلك التي تغطي عورة الاستبداد الطبقي بالتمثيل النيابي وأهل الحل والعقد .
والشورى الإسلامية مجرد ملمح من ملامح المجتمع الإسلامي يعمل باتساق مع العدالة الاجتماعية والرقى الحضاري واعتبار كل فرد فيه مسئولا ومشاركا في بناء المجتمع ، ومن الطبيعي أن الفرد إذا ضمن لنفسه حقوقه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها فلن يتخلف عن المشاركة في كل نواحي النشاط السياسي وغيره ، ولن تكون هناك أكثرية صامتة أو سلبية بمثل ما نعانى منه الآن . ويتعلل أنصار النظم الاستبدادية الصريحة والملتوية بأن هناك مناطق في السياسة والإدارة والأمور الحربية لا يعرفها إلا المتخصصون ، ولابد من وجود هيئات وكوادر لمباشرتها بعيدا عن الشورى التي تستلزم المشاركة الشعبية وإبداء الرأي من كل فرد .
وقد سبق أن أوضحنا أن الشورى الإسلامية تسمح بانفراد الخبراء المتخصصين في شئون الحرب وغيرها وان يكونوا مرجعية يؤخذ برأيهم وهم هنا " أولو الأمر" أي أصحاب الشأن أو الموضوع المطروح للبحث أو أصحاب التخصص فيه ، وطاعتهم في إطار المقاصد التشريعية الكلية للقرآن ، وهى العدل والتيسير والإحسان والمعروف وألا تتعارض طاعتهم مع طاعة الله حيث انه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .. وذلك هو المقصود بقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " النساء 59 .
وفيما عدا مناطق التخصص فان الشورى الإسلامية تجعل المجتمع كله بأفراده جميعا هم أهل الحل والعقد ، وتقدم لهم الاقتراحات أو يقدمون الاقتراحات للبت فيها والاقتراع عليها ، ويعززها رأى الخبراء أولى الأمر إذا كان هناك ما يستدعى ذلك .
وقد يتعللون بأن إجراء الشورى بين كل أفراد المجتمع عملية مستحيلة اليوم إذ كيف يمكن توفير المكان المناسب لتجميع الملايين ، وإذا كان ذلك ممكنا في المدينة في عصر النبي فهو مستحيل في عصرنا . ونعيد التأكيد هنا على أن الشورى مجرد ملمح من ملامح المجتمع المدني الإسلامي يعمل باتساق مع الملامح الأخرى الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والحضارية . وفيما يخص ذلك الموضوع فان من المستحيل فعلا أن تقوم الشورى الجماعية في دولة مركزية تحتكر عاصمتها كل مقاليد الاْمور وتدير الأقاليم بنظام الحكم المحلى والإدارة الفوقية الفردية ، فالرئيس تتركز في يده كل الخطوط وعن طريقه يتم تعيين المحافظين ورجال الإدارة في الأقاليم وكل الوزارات تزدحم في العاصمة ومنها تباشر الإشراف الكامل – ظاهريا ورسميا- على شئون الأقاليم .
لا يمكن تصور أن تقام آلية الشورى الإسلامية في ذلك النظام المركزي المستبد ، وإنما الذي يتناسب الشورى هو النظام المتكامل للإدارة المحلية الذي يصل إلى كل قرية وضاحية وحى ، فكل مجتمع صغير يدير شئونه بنفسه ، ويتكون من كل أفراده البالغين من الذكور والإناث مجلس الشورى ، وهم الذين يعينون الوظائف الإدارية من الخفراء والأمن وباقي الوظائف ، وهم الذين يحاسبونهم ويعزلونهم ، أما الشئون العامة للدولة من العلاقات الخارجية والأمن والحرب فهو مقسوم بين أهل التخصص " أهل الذكر أولو الأمر " وبين المشاركة الشعبية بالرأي أو ترسل قرية أو كل مجتمع بالرأي الذي ترتضيه في الأمور المطروحة للمشورة الجماعية فيما يخص الوطن كله .
ولا ريب أن التقدم التكنولوجي في وسائل الاتصال والإعلام المرئي والمسموع والمقروء قد ألغى المسافات بين الدول وليس فقط بين بلاد الوطن الواحد ، وعليه فان عصرنا الراهن هو انسب العصور للمشاركة الشعبية الكاملة ، حيث أصبح من الصعب إخفاء الحقائق عن الشعب وحيث أصبح من السهولة بمكان معرفة اتجاهات الرأي العام في أسرع وقت ، وإذا تدخلت وسائل الاتصال الحديثة في إجراءات الشورى الكاملة لكل أبناء الوطن فسيكون ذلك سهلا وميسورا ومتاحا في نفس الوقت لكل بلد . إذن فالشورى الإسلامية التي لا تقبل التمثيل النيابي هي التي توافق عصرنا الراهن المفتوح .
وقد يقال إننا نتحدث عن الشورى الإسلامية ، وليس هناك مجتمع كله من المسلمين ، فماذا عن الأخوة الأقباط اْوالنصارى وغير المسلمين من أبناء الوطن ؟ أليس ذلك تجاهلا لهم وتغريبا لهم عن وطنهم ؟
ونقول أن الأمر يحتاج إلى تأصيل للمفاهيم الحقيقية للأيمان والإسلام واستقائها من القرآن ، وإذا صححنا مفاهيمنا الإسلامية بالقرآن نجونا من التطرف والإرهاب والتخلف والاستبداد . أن الأصل في كلمة الإيمان هو الأمن والى هذا يشير قوله تعالى " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون " الأنعام 81 . فالذين امنوا بالله " وآمنوا "للناس أي أمنهم الناس " فلم يختلط إيمانهم بظلم لله وللناس أولئك لهم " الأمن" عند الله ، اْى الجزاء من جنس العمل ، أو أن الإيمان من الأمن والأمن من الإيمان .
لذلك فالإيمان له استعمالا ن في اللغة العربية والقرآن الكريم ، فكلمة "آمن بـ" أي اعتقد وكلمة "آمن لـ" بمعنى وثق واطمأن وشعر بالأمن ، أن الأغلب على كلمة الايمان ومشتقاتها أن تأتى بمعنى الاعتقاد ومنها " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله " البقرة 285. لأن تصحيح الاعتقاد هو الهدف الأول للقرآن الكريم .
ومع ذلك فان الاستعمال الثاني لكلمة الإيمان بمعنى الأمن والأمان جاء كثيرا في القرآن ، حيث يختفي المعنى بالتعامل بين البشر ، ونأتي ببعض الأمثلة السريعة . في قصة نوح قال له الملأ المتكبرون" أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون" الشعراء 111. أي كيف نؤمن لله ونثق فيك ونطمئن لك وقد اتبعك الفقراء ؟ .
وفى قصة يوسف قال أخوته لأبيهم " وما أنت بمؤمن لنا " يوسف 17 . اى أنت لا تثق فينا ولا تطمئن إلينا . وقال اليهود " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " آل عمران 73 . أي لا تطمئنوا إلا لمن كان على دينكم ، وقال تعالى للمؤمنين عن اليهود " أفتطمعون أن يؤمنوا لكم " البقرة 75 . أي كيف تطمعون أن يثقوا فيكم ويطمئنوا لكم ؟ ونكتفي بهذه الأمثلة .
أن الدين له جانبان ، جانب خاص بالعلاقة بالله تعالى وهو الإيمان به وعبادته ، وجانب خاص بالتعامل مع البشر ، وهو عدم الظلم للناس ، أو شيوع الأمن والأمان وأن يأمنك الناس ويثقوا فيك ويطمئنوا لك . والذين آمنوا بالقرآن في عصر محمد عليه السلام جمعوا بين الأيمان العقائدي والإيمان السلوكي ، وإذا كان الأيمان العقائدي قلبيا لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى فقد كان إيمانهم السلوكي بمعنى الأمن ظاهرا في تصرفاتهم حيث تحملوا الاضطهاد وكفوا أيديهم ، والمهم أن الإيمان يعنى الأمن في التعامل مع البشر والاعتقاد والتصديق في التعامل مع الله ، ونزلت آية تحوى المعنيين معا وتصف النبي بأنه " يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " التوبة 61 . أي يؤمن بالله تعالى ويصدق به ويثق في المؤمنين ويأمن لجانبهم . وعلامة الإيمان الظاهري أن يكون الإنسان مأمون الجانب لا يعتدي على أحد ، أما يخص إيمانه الباطن أو عقيدته فذلك مرجعه إلى الله تعالى علام الغيوب ، وسيحكم فيه يوم القيامة أو يوم الدين ، حيث تأجلت الأحكام على عقائد البشر إلى ذلك اليوم " قل الله فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " الزمر46. وأذن فكل البشر مؤمنون طالما يعيشون مع بعض في أمن وسلام والذي يخرج عن ذلك ويقتل مؤمنا مسالما فجزاؤه غضب الله عليه ولعنه وعذاب خالد في جهنم " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه وأعد له عذابا عظيما " وهذه الآية حكم عام ينطبق على كل من يقتل إنسانا مسالما مأمون الجانب سواء كان القتيل منتسبا للإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو اللادينية .. لذلك تقول الآية التالية تحدد مفهوم ذلك المؤمن الذي ينبغي الحرص على حقه في الحياة "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا " النساء 94،93. أي إذا كانوا في حرب فلابد أن يتبينوا حتى لا يقتلوا بريئا مؤمنا ، وعلامة الايمان أن يلقى السلام اى يكف يده عن الحرب ، وحينئذ يحق دمه ويصير مؤمنا في الظاهر بمجرد إلقاء السلام ، أما عقيدته فمرجعها إلى الله تعالى يوم القيامة .
والإسلام في التعامل مع الله تعالى هو الانقياد المطلق والاستسلام القلبي والفعلي له تعالى وحده " قل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" الأنعام 162،163 . أما الإسلام الظاهري فهو السلام والمسالمة أو السلم ، يقول تعالى "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة " البقرة 208 ، ولذلك فأن الحرب في الإسلام للدفاع ورد الاعتداء فقط ، وسبق أن اشرنا إلى أن الذي يلقى بالسلام يكون مؤمنا ينبغي حقن دمه " ولا تقولن لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا "
والحديث يطول ، ولكن نكتفي منه بتقرير حقائق القرآن في أن الإسلام والإيمان في العلاقة بالله هما التصديق والإيمان والاستسلام له وحده ، وفي التعامل مع البشر هما الأمن والأمن والسلم والسلام .. والحكم على البشر فيما يخص علاقتهم بالله وعقيدتهم فيه مرجعه الله تعالى يوم القيامة . أما فيما يخص التعامل بيننا فكلنا مسلمون مسالمون مؤمنون مأمونون اى امنون أو هكذا ما ينبغي أن يكون ،وان الذي يعتدي على الناس أنما يخرج عن بعض الإسلام والإيمان مهما رفع من شعارات . وتطبيق حقائق القرآن على اى مجتمع فكل الناس فيه آمنون مؤمنون مسلمون مسالمون بغض النظر عن عقائدهم طالما يتمسكون بالأمن والسلام ، ولا يلجأون للحرب إلا للدفاع عن أنفسهم ضد المعتدين من المجرمين في الدفاع أو الغزاة من الخارج .
وبتطبيق هذه الحقائق القرآنية على المجتمع المصري بالذات فان أرض مصر دار امن وسلام وأيمان وإسلام ، وأهلها اشهر الناس بإيثار السلام والسلامة ، فهم مسلمون مؤمنون بغض النظر عن عقائدهم وتصنيفاتهم الدينية .. أن مصر هي المكان الوحيد في الأرض – بعد المسجد الحرام الذي وصفه رب العزة بالأمن ، وقد جاء ذلك في قصة يوسف حين استقبل إياه يعقوب وأخوته وقال لهم "ادخلوا مصران شاء الله آمنين" الحجر 46.
والذي يخرج عن هذه الحقائق القرآنية فيقتل الآمنين المسالمين اى المؤمنين المسلمين من المصريين المسلمين والأقباط إنما هو خارج عن دين الله تعالى ومستحق للعذاب واللعنة طبقا لمنطوق الآية(93) في سورة النساء ، سواء كان المقتول يحمل اسما إسلاميا أو اسما قبطيا .
وطبقا لحقائق القرآن السابقة فأهل مصر مسلمون مؤمنون ينطبق عليهم تشريع المشورة الإسلامية وليست غريبة عليهم وهم أحق بها ، وكل المصريين تحت جناحها سواء ، وليس هناك أغلبية وأقلية وإنما هم جميعا امة واحدة تعيش في أمن وسلام في أقدم وطن واحد ، وينبغي أن يتكاتفوا جميعا ضد من يعتدي على أمنهم وسلامهم تحت اى ادعاء . وإذا كان بعضهم يرى أن كلمة "قبطي" تعنى"مصري" سواء كان مسلما أو مسيحيا فإننا نرى من واقع الحقائق القرآنية أن كل مصري هو مؤمن مسلم طالما لا يرفع السلاح في وجه أخيه وطالما سلم الناس من أذاه ، ويكفي أن القرآن أكد في عشرات الآيات أن اختلاف العقائد والمذاهب حتى في إطار الدين الواحد مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامة ولا شأن لنا نحن بذلك " البقرة 113-يونس124-آل عمران 55- المائدة 48- الزمر 3 وتلك مجرد أمثلة . بل أن حقائق القرآن تؤكد ان اختلاف العقائد يدعو إلى حسن الصفح والغفران وليس للبغضاء والحقد ."الحجر 85- الزخرف 88،89" .
((وقد تولى كثير من المسيحيين المناصب الكبرى في العصر العباسي فتولى أبو إسحاق الصابي منصب الكاتب ( الوزير ) وكان من أسمى المناصب ، كما كان نصر بن هارون وزير عضد الدولة مسيحياً ، وتولى الأقباط المصريون في ظل الحكومة الإسلامية المناصب الكبيرة ومعظم الوظائف الإدارية ، ففي عصر عبدا لعزيز بن مروان كان هناك كاتبان أحدهما لإدارة مصر العليا أي الوجه القبلي ، والآخر لإدارة مصر السفلى أي الوجه البحري ، كما تولى الأقباط مناصب ولاة الأقاليم فقد ذكر أن مسيحياً تولى حكم الإسكندرية في عهد الخليفة يزيد .
وبذلك نستطيع القول بان التسامح الإسلامي وسوابقه العملية التي ساعدت على انتشار ومكنت لحكمه في فتوحاته الواسعة يجيز أن يكون من بين أهل الشورى من هم على غير ديننا من إخواننا من أهل الكتاب ماداموا مستوفين للشروط الأخرى وذلك لأسباب أهمها :
1. أنهم يمثلون نسبة من المواطنين لهم مالنا وعليهم ما علينا .
2. أنهم أهل خبرة وتخصص في كثير من نشاطات الحياة المختلفة كغيرهم من إخوانهم المسلمين .
3. أن نسبتهم غالباً ما تكون ضئيلة فلا يخشى منها في اتخاذ قرار .
4. أن ذلك يقطع اْلسنة من يريدون تجريح الإسلام والنيل منه ، ويوصد الباب أما من يتلمسون أسانيدهم بعيدا عن روحه وأصوله .
وفى النهاية فان أسس المجتمع المدني في القرآن لا تنحصر في الشورى الكاملة التي يمارسها كل أفراد المجتمع دينية وإنما تشمل إلى جانب ذلك سماحة دينية وعدالة اجتماعية اقتصادية ورعاية لكل بيوت العبادة ، وحرصا على الدفاع عن كل تلك القيم الحضارية ضد أي معتد من الداخل أو الخارج ، وتكاتفا بين أبناء المجتمع يصل بنا إلى الصدارة على مستوى العالم والى درجة انعدام السلبية في الداخل . ومن الطبيعي أن المجتمع المدني القرآني يرفض الحكم الطبقي المستتر خلف شعارات التمثيل النيابي أو الديمقراطية المنقوصة التي تعبر عن لصحاب الثروات الذين يفكرون بالنيابة عن المجتمع في الظاهر ويفكرون في مصالحهم الخاصة في الحقيقة .
حين قام المجتمع المدني في المدينة كانت العصور الوسطي تعتنق الاستبداد الديني السياسي ، وكانت دولة النبي بهذه المفاهيم الشورية خارجة عن إيقاع العصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، لذا كان سهلا بعد أن وصل المسلمون إلى الشام والعراق ومصر وفارس وورثوا كنوزهم أن يتأثروا بنبض العصر فضاعت الشورى واندثر المجتمع المدني وحل محل الخلافة الراشدة الملك الوراثى العضوض القائم على القهر والقوة واحتكار الثروة ، وكان الخليفة الأموي يحكم بمعرفة أهل الحل والعقد من شيوخ القبائل ، ثم جاء الخليفة العباسي يحكم بمعونة ملأ جديد من كبار القادة وشيوخ بنى هاشم العباسيين وكان الملأ- أو أهل الحل والعقد – يفكرون فيما يرضى الخليفة بنفس ما كان يفعل ملأ فرعون موسى ، ثم جاءت الخلافة الفاطمية بمفهوم النص الألهى على اختيار الخليفة فأصبح الخليفة الفاطمي معصوما من الخطأ لا يحتاج إلى ملأ يفكر له ، بل هو – طبقا للعقيدة الشيعية – يعلم التفسير الالهى والعلم اللدنى والغيب الالهى ، وقراراته معصومة عن الخطأ .. وتاريخ الخلافة – غير الراشدة- عند المسلمين لا يختلف عن تاريخ الاستبداد في القرون الوسطي ، فكل الحكام كانوا يحكمون بالحق الالهى المقدس سواء كان ذلك الحاكم خليفة عباسيا أو فاطميا أو إمبراطورا للدولة الرومانية المقدسة أو ملكا إنجليزيا أو فرنسيا . ثم أفسحت الطبقة البرجوازية " المتوسطة" لنفسها مكانا تحت شمس أوروبا على حساب الأكليروس الأوربي " الملك والكهنة والأمراء والنبلاء"..
وقادت الصراع للحصول على الدستور الذي تقضب به على استبداد النظام القديم ، وخدعت البرجوازية جماهير الفلاحين والعمال بمقولة الانتخاب والتمثيل النيابي لتكرر بها نفس مقولة أهل الحل والعقد ، ولتكون هي نفسها في موقع الصدارة بعد إزاحة النظم القديمة ، وساعدها في ذلك دخول العالم في عصر المكتشفات الجغرافية والاستعمار والبحار والصناعات والتجارة العالمية والتقدم العلمي ، وفي ذلك العصر تحولت البرجوازية إلى رأسمالية دولية وشركات عالمية أصبحت الآن" شركات متعددة الجنسية تحكم العالم في النظام العالمي الجديد ، بعد اضمحلال الاتحاد السوفيتي والعالم الشيوعي .
وفي هذا النظام العالمي الجديد أصبحت الرأسمالية تتحكم في الثروات القومية وفي أدوات الاتصال أي أصبحت تسيطر على المعدة والمخ والسمع والبصر ، وأصبح نظام الرأسمالية الديمقراطي النيابي هو المثل الأعلى والحلم الذي يتطلع إليه مثقفو العالم الثالث الذين يعانون من استبداد الحكم العسكري أو الحزبي أو الديني . بينما تختلف النظرة الواقعية عن تلك الصورة الوردية التي ترسمها الدعاية الغربية الرأسمالية لنظامها الديمقراطي ، فهي تلهى الجماهير بتمثيلية الانتخاب التي تأتى برئيس يعبر عن النخبة الحاكمة التي تتحكم في الثروة ، ولا يستطيع الرئيس المنتخب ديمقراطيا أن يخرج عن النص وألا تمت تصفيته كما حدث لرؤساء امريكيين مثل ليكولن وجون كيندي .
أن الذي يملك الثروة هو الذي يحكم ، والفقير الذي ليس في بيته دقيق وخبز ليس لديه متسع للتفكير في الشورى أو حال الأمة والمجتمع ، والقرآن الكريم كما فرض الشورى على كل مؤمن فأنه حارب قيام طبقة مترفة تتداول الثروة وتتحكم فيها ، فاحتوي القرآن على مبادئ اقتصادية تتيح توزيعا عادلا للثورة وتمنع تركزها في يد فئة قليلة وكان من مقاصد القرآن التشريعية للثروة والمال ، اى حتى لا يحتكر الأغنياء الثروة فيتكون منهم ملأ فرعون يزعم انه يملك الأرض ومن عليها . أن الاستبداد السياسي لا يمكن أن يوجد مع عدالة اجتماعية ، إنما يمكن أن يوجد شكل من أشكال الخداع تقوم فيه الطبقات المترفة الحاكمة بغسيل مخ الفقراء الأكثرية بأن تلهيهم بمواكب الانتخاب والتمثيل النيابي باعتباره الطريق الأوحد للوصول للحكم أو تغيير الواقع الكئيب ، وتضيع أجيال " في انتظار جودو" أو المهدي المنتظر، دون جدوى ، والنتيجة أن ينجح عملاء مترفين وبأموال الطبقات الثرية التي تتحكم في الأعلام والموارد وتقوم بتكلفة الحملات الانتخابية وتبيع صورة وهمية للمرشح وتنفق على غسيل مخ للجماهير حتى يصل احد المرشحين من المرشحين الذين تقدمهم الطبقات المترفة ، ويظل الحكم تديره تلك الطبقات الثرية من خلال الانتخاب والتمثيل النيابي ويمنعون كل "دخيل" من الاقتراب من دائرة الصفوة ، وحتى لو وصل من بين الكادحين شاب متحمس إلى بعض تلك المجالس النيابية فسيضيع صوته بين ضجيج الأغلبية المتحكمة والمتآمرة ، وإذا علا صوته وأصبح مؤثرا استطاعوا شراءه وإبعاده عن قواعد الشعبية أو استطاعوا تصفيتة ماديا أو معنويا ، ويبقى الحال على ما هو عليه ، ظلم اجتماعي تستر عورته نظم سياسية خادعة ترفع لواء التمثيل النيابي ، والنتيجة إجهاض لكل أمل المطحونين في مكان تحت الشمس .. ويستمر النظام الديمقراطي الحر عنوانا براقا للحالمين من مثقفي العالم الثالث . وأحوال العالم الثالث أسوأ ، فالنخبة العسكرية أو الحزبية تحكم وتعمل ضدها نخبة دينية ، وكل ثورة تأتى للحكم لا تلبث أن تحوز على الثروة ويظل الفقراء كما هم في حرمانهم وسلبيتهم ، والثوار من كل اتجاه ديني أو حزبي أو عسكري يتاجرون بمتاعبهم ويرفعون شعارات براقة للاستهلاك المحلى وعيونهم في الواقع على الثروة والسلطة .
الخــاتــمــة
تناولت في بحثي هذا عن الشورى وتوصلت إلى عدة نتائج وأراء من خلال تناولى لهذا الموضوع :-
1. في المشاورة فوائد عديدة منها : تأليف قلوبهم وإشاعة المودة بينهم نتيجة للمشاورة ، و تعويد المسلمين على هذا النهج في معالجة الأمور لآن الرسول عليه السلام الأسوة الحسنة لهم , فإذا كان يلجأ إلى المشاورة فهم أولى أن يأخذوا بها .
2. ذكرت في القران سوره اسمها الشورى وفي هذه السورة يبين الله تعالى أن الشورى هي إحدى الدعائم الهامة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي وما حملت السورة هذا الاسم إلا لبيان العناية بالشورى والتنبيه إلى عظيم أهميتها .
3. يرى فقهاء الإسلام المعاصرين أن أهل الشورى هم الهيئة التي تنوب عن الأمة في مباشرة سلطات السيادة من اختيار وتشريع ورقابة ويعرفونهم بتعريفات تتفق في المدلول وتختلف في التفصيل .
4. يرى الشيخ محمود شلتوت أن من صفات أهل الشورى : (( أن يكونوا من أهل العلم والبصر بأمور الدين والدنيا ومن ذوي الرأي والخبرة في نواحي
الحياة المختلفة )).
5. يجيز أن يكون من بين أهل الشورى من هم على غير ديننا من إخواننا من أهل الكتاب ماداموا مستوفين للشروط الأخرى وذلك لأسباب أهمها :
أ- انهم أهل خبرة وتخصص في كثير من نشاطات الحياة المختلفة كغيرهم من إخوانهم المسلمين .
ب- انهم يمثلون نسبة من المواطنين لهم مالنا وعليهم ما علينا .
المراجع
1- تاريخ الخلفاء للسيوطي .
2- الشورى التشريعية ... والسلطة – د. بشار عواد معروف
3- الشريعة والديموقراطية - رؤية إسلامية وسطية - زهير سالم
4- الشورى الاسلامية ( اصولها – تطبيقاته -(دراسة قرآنية- د. احمد صبحي منصور
5- نظام الشورى في الإسلام ونظم الديمقراطية المعاصرة - د. زكريا عبد المنعم إبراهيم الخطيب
6 - مبدأ الشورى في الإسلام - د . يعقوب محمد المليجي
7 - الشورى والديمقراطية - علي محمد لاغا
8 - ( الجامع لأحكام القرآن ) – القرطبي
9- (الاسلام في الفكر العربي ) - لواء احمد عبدالوهاب