التحكيم هو أحد وسائل الفصل في المنازعات القائمة بين الأطراف المعنية بواسطة شخص من الغير بعيداً عن قضاء الدولة. وتعود نشأة التحكيم الى بداية البشرية، وهو قديم قدمها، فقد عرفته البشرية قبل أن تعرف القضاء العام، واعترفت به كافة الأنظمة الأساسية التي كانت سائدة آنذاك، كالحضارات اليونانية والرومانية والإسلامية وغيرها. وهو الآن محل اعتراف أيضاً من كافة الأنظمة التشريعية الوطنية والدولية. ويعتبر التحكيم في هذا العصر مساراً للفصل في المنازعات الى جانب مسار القضاء الرسمي. ويعيش الآن أزهى عصور ازدهاره، خصوصاً على صعيد التجارة الدولية. وقد كان القانون اللبناني منفتحاً على التحكيم الداخلي والدولي، فأدخله في صلب قانون أصول المحاكمات المدنية القديم منذ العام 1933، ثم في القانون الجديد الصادر عام 1983، مستوحياً الكثير من القانون الفرنسي للعام 1975 مع تعديلاته.
مبررات التحكيم
تعود مبررات اللجوء للتحكيم الى اعتبارات عدة مختلفة تدفع الأطراف المعنية الى تفضيله عن قضاء الدولة نظراً لما يتسم به التحكيم من مزايا أهمها:
رغبة الخصوم في الحصول على حكم سريع يفصل في النزاع القائم، فهو يتميز بالقدرة على الفصل في المنازعات المعروضة عليه في وقت أقل، وذلك تلافياً لبطء الإجراءات في الأنظمة القضائية الرسمية.
تميّز التحكيم بالطابع السري في فصل المنازعات، خلافاً لقضاء الدولة الذي تعد العلانية أحد خصائصه المميزة. فالتحكيم يحقق للخصوم رغبة الحفاظ على سرية المنازعة ووقائعها صوناً لأسرارهم الخاصة والمهنية.
حرية الأطراف في ظل قضاء التحكيم وممارستهم حق الدفاع بشكل كامل، هذا بالإضافة الى الرغبة في الوصول الى حل عادل للنزاع يضمن استمرار العلاقة بين الأطراف رغم نشوب الخلاف.
تميز التحكيم بأنه قضاء متخصص، لأن المحكّم أو هيئة التحكيم يكونون عادة من أصحاب الاختصاص في النزاع المطروح، أو على إطلاع كاف به، كالمسائل المتعلقة بالبضائع والسلع والأجهزة المتطوّرة وغيرها.
تحرر التحكيم من القيود والقواعد القانونية المعقدة مع الحفاظ على احترام المبادئ الأساسية للتقاضي؛ كاحترام حقوق الدفاع والمساواة بين الخصوم واحترام مبدأ الوجاهية المتمثل بحق الخصوم في الإطلاع على كل ما هو مبرز في ملف النزاع وحق مناقشته والتعليق عليه. هذا مع إعطاء المحكم حرية التحرر من الإجراءات المعقدة، مما يجعل التحكيم قضاءً مرناً.
طبيعة التحكيم
لا ينشأ التحكيم إلا نتيجة اتفاق طرفي النزاع على اللجوء إليه، لكن القرار الذي يصدره المحكّم بعد ذلك لا يختلف في جوهره عن الحكم الصادر عن قضاء الدولة. وقد اختلف فقهاء القانون حول الطبيعة القانونية للتحكيم ومدى اعتبارها طبيعة تعاقدية أم قضائية. والرأي الراجح يعتبر أن التحكيم ذو طبيعة قضائية، لأن المحكّم يستند الى اتفاق التحكيم المعقود بين الفرقاء. والمحكّم لا يمثل قضاء الدولة ولا تنطبق عليه جميع قواعده، إنما تنطبق عليه قواعد مستمدة من اتفاق التحكيم، مما يضفي عليه طبيعة ذاتية مستقلة.
أنواع التحكيم
ينقسم التحكيم الى أنواع عدة، أهمها:
1- التحكيم الدولي والتحكيم الداخلي: يعتبر التحكيم دولياً عندما يتعلق بمصالح التجارة الدولية المرتبطة بعملية حركة انتقال البضائع والخدمات عبر حدود أكثر من دولة، أي عندما يرتبط النزاع بأكثر من دولة واحدة. أما التحكيم الداخلي فهو الذي يرتبط بعلاقة وطنية داخلية بعيدة عن مصالح التجارة الدولية.
2- التحكيم العادي والتحكيم المطلق: يعتبر التحيكم عادياً عندما يكون المحكم ملزماً بالفصل في النزاع وفقاً لقواعد القانون. أما عندما يُعفى المحكم من تطبيق هذه القواعد ويحكم بمقتضى الإنصاف، فإن التحكيم يكون مطلقاً. وعند قيام الشك في وصف التحكيم فهو يعتبر تحكيماً عادياً. ولا يعني ذلك أن المحكّم في التحكيم المطلق محروم من تطبيق قواعد القانون، إذ يمكنه تطبيقها إذا وجد فيها معياراً كافياً للعدالة والإنصاف. لكنه ملزم في جميع الحالات بتطبيق قواعد القانون المتعلقة بالنظام العام.
3- التحكيم الحر والتحكيم المؤسسي: يعتبر التحكيم حراً عندما يقيمه الخصوم بمناسبة نزاع معين للفصل في هذا النزاع، فيختارون بأنفسهم المحكّم أو المحكمين ويحددون الإجراءات والقواعد التي تطبق عليه. أما التحكيم المؤسسي أو النظامي فهو الذي يُعهد به الخصوم الى مؤسسة أو منظمة تحكيم دائمة لتتولى الإضطلاع بأعبائه وفقاً للائحة معدة مسبقاً بحكم عملها. ومن أهم المؤسسات التحكيمية: المحكمة الدولية للتحكيم بغرفة التجارة الدولية في باريس، ومحكمة التحكيم الدولي في لندن، والمركز الدولي لفض المنازعات الناشئة عن الاستثمار في واشنطن.
4- التحكيم الاختياري والتحكيم الإجباري: يكون التحكيم اختيارياً عندما يلجأ اليه الخصوم بإرادتهم. ويكون إجبارياً إذا فُرض على الأطراف اللجوء إليه لحل المنازعات المتعلقة بروابط قانونية معينة، كما هي الحال في حل بعض المنازعات التي تنشأ بين الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي والمضمون، فهي من اختصاص هيئة مؤلفة من الطبيب المعالج وطبيب الصندوق وفـقاً لقـانون الضمان الإجتماعي الصادر بتاريخ 26/9/1963.
اتفاق التحكيم وصوره المختلفة
اتفاق التحكيم هو الذي يتفق بمقتضاه الفرقاء على حل النزاع الناشئ أو المحتمل نشوئه بواسطة التحكيم، ويمنح المحكّم سلطة الفصل فيه بقرار ملزم، ويجعل محاكم الدولة غير مختصة للنظر فيه. ويخضع اتفاق التحكيم للقواعد العامة التي تحكم العقود بالإضافة الى ما تفرضه طبيعته من قواعد خاصة نص عليها قانون أصول المحاكمات المدنية من المادة 762 حتى المادة 821 ويستقل اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي؛ فالأول يحدد الأصول والقواعد الواجب اتباعها لفصل المنازعات الناشئة أو التي قد تنشأ عن العقد الأصلي، أما هذا الأخير فيحدد حقوق وموجبات الأطراف المعنية.
ويأخذ اتفاق التحكيم إحدى الصورتين: عقد التحكيم أو بند التحكيم. فالعقد التحكيمي هو العقد الذي يتفق بموجبه الفرقاء على حل نزاع ناشئ بينهم عن طريق التحكيم. ويخضع هذا العقد للقواعد العامة التي تحكم العقود إضافة الى القواعد الخاصة التي نص عليها المشترع اللبناني، ومنها وجوب إثبات عقد التحكيم بالكتابة، سواء في سند عادي أو رسمي أو مستند آخر له قيمة السند. ويجب تحديد موضوع النزاع في عقد التحكيم تحت طائلة بطلانه، على أن يكون هذا التحديد بشكل واضح، ولا يلزم أن يكون تفصيلياً. ويجب تعيين المحكم أو المحكمين بأشخاصهم أو بصفاتهم أو بيان الطريقة التي يُعين بها هؤلاء. ويعتبر عقد التحكيم ساقطاً إذا رفض المحكم المعين المهمة الموكولة إليه. أما البند التحكيمي فهو البند الذي يجوز للمتعاقدين أن يدرجوه في العقد التجاري أو المدني المتفق عليه، وينص على أن تُحل بطريقة التحكيم جميع المنازعات القابلة للصلح والتي تنشأ عن تنفيذ العقد أو تفسيره. ولا يصح البند التحكيمي إلا إذا كان مكتوباً في العقد أو في وثيقة يحيل إليها هذا العقد. ويجب أن يشتمل تحت طائلة بطلانه على تعيين المحكّم أو المحكمين أو صفاتهم أو على بيان الطريقة التي يعين بها هؤلاء، ولا يُشترط أن يشتمل البند التحكيمي على تحديد دقيق لموضوع النزاع. كما أن البند التحكيمي مستقل عن العقد الأساسي؛ فالبند التحكيمي الباطل يعتبر كأنه لم يكن ولا يتأثر العقد الأساسي بهذا البطلان.
المنازعات التي يجوز أن تكون محلاً للتحكيم
أباح المشترع اللبناني الحق في اللجوءالى التحكيم بدلاً من قضاء الدولة، لكنه قيّد ذلك في إطار المنازعات المدنية والتجارية القابلة للصلح (وفقاً للمادتين 762 و765 أ.م.م.) . وإذا كان الصلح جائزاً في كل الأمور، إلا أنه لا يجوز في بعضها، مثل المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية والنظام العام والحقوق الشخصية التي لا تُعد مالاً بين الناس؛ مثل الحق المعنوي للمؤلف، والحقوق المتعلقة بالحريات الشخصية؛ كحق الترشح والإنتخاب، والأموال الموقوفة وحقوق النفقة والحقوق الإرثية. كما لا يجوز التحكيم في المنازعات الجزائية والمنازعات ذات الطابع الإداري المتعلقة بالدولة أو البلديات أو المؤسسات العامة، إلا إذا كان التحكيم دولياً (وفقاً للمادة 809 أ.م.م.) ، ولا يجوز التحكيم أيضاً في المنازعات المتعلقة بالإفلاس والعلاقات غير المشروعة أو المخالفة للنظام العام والآداب العامة. وقد برز خلاف قانوني شديد في لبنان يتعلق بقابلية عقود الدولة وأشخاص القانون العام للتحكيم، وذلك على أثر قضيتي الخليوي. وقد صدر على أثرهما قراران عن مجلس شورى الدولة اللبناني بتاريخ 17 و19 تموز سنة 2001، قرر بموجبهما منع التحكيم في العقود الإدارية كمبدأ راسخ في العلم والإجتهاد الفرنسيين لتعلقه بالانتظام العام، وان التحكيم الذي يحصل خلافاً له يعتبر باطلاً. وعلى أثر ذلك أُطلقت صرخات كبرى تحث المشترع اللبناني على الإسراع في إدخال التعديل اللازم على النصوص القانونية من أجل تكريس النزعة المنفتحة التي تعتبر أن التحكيم هو القضاء الطبيعي في العلاقات التجارية الدولية ومن أجل تشجيع سياسة جلب الاستثمارات المالية والأنشطة من الخارج. وبالفعل فقد استجاب المشترع اللبناني لتلك النداءات، فأقر القانون رقم 440/2002 وأجاز بموجبه للدولة ولأشخاص القانون العام، أياً كانت طبيعة العقد موضوع النزاع، اللجوء الى التحكيم، على أن تتم إجازته بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء لاقتراح الوزير المختص.
تعيين المحكّم
يُعيّن المحكم أو المحكمون بموجب اتفاق التحكيم، سواء أكان بنداً أم عقداً. ويكون تعيين المحكم أو المحكمين بأشخاصهم أو بصفاتهم أو يتم بيان الطريقة التي يُعيّن بها هؤلاء. وإذا حصلت عقبة بعد نشوء النزاع في تعيين المحكّم أو المحكمين بفعل أحد الخصوم أو لدى تطبيق طريقة تعيينهم، فيُطلب تعيينهم من رئيس الغرفة الإبتدائية. ويجب أن يراعى في المحكم أو في الهيئة التحكيمية الشروط التالية: 1- يجب أن يكون المحكم شخصاً طبيعياً، فلا يجوز أن يكون المحكم شخصاً معنوياً مهماً كان شكله، كمركز قائم للتحكيم أو غرفة تجارة أو صناعة أو نقابة أو غيرها؛ إذ أن المحكّم يصدر حكماً كأحكام القضاء، والمعروف أن سلطة القضاء لا يباشرها إلا الأشخاص الطبيعيون. وإذا عين عقد التحكيم شخصاً معنوياً فإن مهمته تقتصر على تنظيم التحكيم.
2- يجب أن يكون المحكم كامل الأهلية. فلا يجوز أن يكون قاصراً بل يجب أن يكون بالغاً الـ18 عاماً على الأقل، ولا يجوز أن يكون محجوراً عليه أو محروماً من حقوقه المدنية أو مفلساً، ما لم يرد إليه اعتباره.
3- يجب أن يكون المحكم محايداً. فلا يجوز أن يكون خصماً وحكماً في آن واحد. ولا يجوز أن يكون محكماً من كانت له مصلحة مباشرة في النزاع المطروح. ولا يُشترط أن يكون المحكّم رجلاً، بل من الجائز تحكيم المرأة. كما لا يُشترط أن يكون المحكّم لبنانياً، فيمكن أن يكون أجنبياً ولو كان التحكيم داخلياً. ويجوز أن يكون القاضي محكماً، لأن تولي السلطة القضائية لا يمنع من القيام بدور المحكّم، لكن التحكيم هنا يجب أن يكون مجانياً لأن قانون القضاء العدلي في لبنان يُحظر الجمع بين القضاء وأية مهنة أو عمل مأجور. 4- يجب أن يكون عدد المحكمين وتراً، كأن يكون فرداً واحداً مهما كانت قيمة النزاع. أما إذا تعدد المحكمون فيجب أن يكون عددهم وتراً وإلا كان التحكيم باطلاً.
5- يجب قبول المحكّم للمهمة الموكولة إليه، فإذا لم يقبل المحكم تلك المهمة يعتبر عقد التحكيم ساقطاً. ويمكن أن يكون القبول صريحاً؛ كتوقيع المحكّم على المحضر، وقد يكون القبول ضمنياً؛ كحضور المحكّم جلسات التحكيم وإصدار القرار التحكيمي والتوقيع عليه. ولا يجوز للمحكّم التنحي من دون وجود سبب جدي، وإلا جاز الحكم عليه بالتعويض للمتضرر.
6- لا يجوز عزل المحكّم إلا بتراضي جميع الخصوم. والعزل يمكن أن يكون صريحاً؛ كاتفاق الفرقاء صراحة على عزله، وقد يكون ضمنياً؛ كلجوء الخصوم الى قضاء الدولة.
7- إن وفاة المحكّم أو قيام مانع يحول دون مباشرته مهامه أو حرمانه استعمال حقوقه المدنية، تؤدي الى الحؤول دون إمكانية تشكيل هيئة التحكيم، أو متابعته.
8- يجوز ردّ المحكّم للأسباب ذاتها التي يردّ بها القاضي، وهي تتعلق بوجود مصلحة للمحكّم أو ذويه بموضوع الدعوى أو وجود صلة قرابة أو مودة أو عداوة بأحد الخصوم أو صلة بينه وبين المدافع عن أحد الخصوم. ويقدم طلب الرد الى الغرفة الابتدائية الكائن في منطقتها مركز التحكيم المتفق عليه، وإلا فإلى الغرفة الابتدائية في بيروت. وإذا تمّ رد المحكّم فيجب تعيين آخر جديد بالطريقة ذاتها التي كان معيناً بها الأول، ما لم يكن معيناً بإسمه في إتفاق التحكيم.
مهلة التحكيم
مهلة التحكيم هي المهلة التي يجب على المحكّم أو المحكّمين القيام بمهمتهم خلالها. ويحق للخصوم تحديد هذه المهلة في اتفاق التحكيم. أما إذا لم تحدد، فيجب على المحكمين القيام بمهمتهم في خلال ستة أشهر على الأكثر من تاريـخ قبول آخر محكّم لمهمتـه. ويجـوز تمديد مهلة التحكيم إما باتفاق الخصوم وإما بقرار من رئيس الغرفة الابتدائية الذي يصدر بناء على طلب أحد الخصوم أو الهيئة التحكيمية. وإذا انقضت مهلة التحكيم من دون صدور القرار التحكيمي، فإن الخصومة تنقضي ويسقط اتفاق التحكيم، ويعتبر القرار الذي يصدر بعد انقضاء تلك المهـلة قراراً باطلاً.
القواعد القانونية الواجب تطبيقها على التحكيم
تنقسم القواعد القانونية في هذا المجال الى نوعين: القواعد الإجرائية أو الأصول والقواعد الموضوعية، وهي تختلف أيضاً بين التحكيم العادي والمطلق والداخلي والدولي. فالأصول الإجرائية الواجب تطبيقها في التحكيم الداخلي العادي هي أصول المحاكمة العادية باستثناء ما لا يتفق مع الأصول الخاصة بالتحكيم أو لا يتفق مع جوهره، أو عندما يتفق الخصوم على إعفاء المحكّم من تطبيق أصول المحاكمة العادية. وفي جميع الأحوال يجب على المحكّم التقيد بالمبادئ الأساسية للمحاكمة كمبدأ المساواة بين المتنازعين ومبدأ احترام حقوق الدفاع ومبدأ حياد المحكّم. أما في التحكيم الداخلي المطلق فإن المحكّم معفى من تطبيق أصول المحاكمة العادية، ويستثنى من هذا الإعفاء قواعد القانون المتعلقة بالنظام العام والمبادئ الأساسية لأصول المحاكمة، لا سيما المتعلّقة بحق الدفاع وبتعليق الحكم والقواعد الخاصة بنظام التحكيم، والأصول الإجرائية التي يتفق عليها الفرقاء. وفي التحكيم الدولي، يطبّق المحكّم الأصول الإجرائية التي يحددها اتفاق التحكيم، وإذا لم يُحدد هذا الإتفاق أصولاً معينة أو كافية، يُطبق المحكّم الأصول التي يراها مناسبة من خلال قانون معين أو نظام محدد للتحكيم. أما لجهة القواعد الموضوعية، ففي التحكيم المطلق يُعفى المحكّم من التقيد بقواعد القانون ويحكّم بمقتضى الإنصاف. وله أن يعتبر بأن الإنصاف يقوم في تطبيق قواعد القانون عينها مع بقائه حراً باعتماد قواعد القانون توصلاً للحل الذي يتطلبه العدل والإنصاف، ولا مانع من أن يكون مخالفاً لقواعد القانون المعفى من تطبيقها. ويستثنى من ذلك الإعفاء القواعد المتعلقة بالنظام العام؛ كتلك المتعلقة بنظام الأسعار أو المنافسة أو الجمارك أو النقد والتسليف أو العمليات المالية المنظمة أو الإفلاس. وتجدر الإشارة الى أن النظام العام الداخلي الذي يخص دولة معينة يختلف عن النظام العام الدولي الذي يتعلق بالأصول والمبادئ العامة التي يفرضها التعايش بين المجتمعات. والقواعد الموضوعية الواجبة التطبيق في التحكيم العادي الداخلي هي قواعد القانون اللبناني الآمرة والمكملة، ما لم يتفق الأطراف على استبعاد القواعد المكملة أو تطبيق حكم قواعد قانون أجنبي أو أعراف معينة، شرط أن لا تخالف النظام العام والآداب العامة والأحكام القانونية التي لها صفة إلزامية. وفي التحكيم العادي الدولي يفصل المحكّم في النزاع وفقاً للقواعد القانونية التي اختارها الخصوم وإلا وفقاً للقواعد التي يراها مناسبة، وهو يعتد في جميع الأحوال بالأعراف التجارية.
القرار التحكيمي
هو القرار الذي يصدر عن المحكّم أو هيئة التحكيم ويفصل في النزاع المطروح، كلياً أو جزئياً، سواء تعلّق هذا القرار بموضوع النزاع ذاته أو بالاختصاص أو بمسألة تتصل بالإجراءات التي تؤدي الى إنهاء الخصومة. ويجب أن يشتمل القرار التحكيمي على: إسم المحكّم أو أسماء المحكّمين الذين أصدروه، ومكان وتاريخ إصداره، وأسماء الخصوم وألقابهم وصفاتهم وأسماء وكلائهم، وخلاصة ما أبداه الخصوم من وقائع وطلبات وأدلة مؤيدة لها، وأسباب القرار وفقرته الحكمية، وتوقيع المحكّم أو المحكمين الذين أصدروه. ويتمتع القرار التحكيمي منذ صدوره بحجية القضية المحكوم بها بالنسبة الى النزاع الذي فصل به. وهو لا يقبل الاعتراض، ولكن يجوز الطعن فيه بطريق اعتراض الغير، ويقبل الاستئناف ما لم يكن الخصوم قد عدلوا عن الاستئناف في اتفاقية التحكيم. أما القرار التحكيمي الصادر عن محكّم مطلق فلا يقبل الاستئناف ما لم يكن الخصوم قد احتفظوا صراحة بحق رفع هذا الطعن في اتفاقية التحكيم. ويبقى للخصوم الطعن في القرار التحكيمي بطريق الإبطال بالرغم من كل اتفاق مخالف وللأسباب المحددة في المادة 800 وهي تتعلق بمخالفة القرار التحكيمي للقواعد الجوهرية المحددة في القانون أو في اتفاق التحكيم. كما يقبل القرار التحكيمي الطعن بطريق إعادة المحاكمة أمام محكمة الإستئناف التي صدر في نطاقها. ويكون القرار الصادر عن محكمة الإستئناف قابلاً للطعن بطريق التمييز وبطريق اعتراض الغير. ولا يكون القرار التحكيمي قابلاً للتنفيذ إلا بأمر على عريضة يصدره رئيس الغرفة الابتدائية الكائن في منطقتها مركز التحكيم المتفق عليه، وإلا رئيس الغرفة الابتدائية في بيروت. وإذا لم يكن القرار التحكيمي معجل التنفيذ، فإن مهلة الطعن والطعن يوقفان تنفيذه.