مع تطوّر الحياة الإقتصادية وتشعّب العلاقات التجارية، بدت النقود، كوسيلة تبادل، عاجزة عن تلبية متطلبات الوسط التجاري بالسرعة المرجوة لقيام إقتصاد قومي ناجح ومزدهر.
من هنا، كان لا بد من إيجاد وسائل أخرى تسهّل التعامل التجاري، وفي الوقت عينه، تحافظ على عنصر الثقة بين الناس. من بين هذه الوسائل، برز الشك(Chèque).
إلا أنه سرعان ما تحوّل من أداة لتسهيل الأمور وتسريعها الى أداة تجريم وعقاب، فكان بذلك المصدر الأساسي لظهور جرم جديد في ساحة الجرائم الإقتصادية، ألا وهو جرم سحب الشك من دون مؤونة (أو بدون رصيد). واللافت أن جرائم سحب الشك بدون مؤونة تمثل أكبر نسبة من الجرائم الإقتصادية العالقة حالياً أمام المحاكم اللبنانية.
في ما يلي، عرض موجز لحالات هذه الجريمة وللعقوبات المفروضة عليها في قانون العقوبات اللبناني (المادة 666)، إضافة الى وضع المستفيد من الشك (المادة 667).
ما هو الشك؟
الشك هو أداة وفاء تقوم مقام النقود، كما أنه أداة لسحب الودائع المصرفية. إنه سند يتضمن أمراً من موقعه (يسمّى الساحب) موجّهاً الى صيرفي (يسمّى المسحوب عليه) بأن يدفع مبلغاً محدداً من النقود، بمجرّد الطلب، الى شخص ثالث (يسمى المستفيد).
ويجوز ألا يعيّن المستفيد من الشك، وإنما يكون المستفيد هو أي حامل له، ويسمى حينذاك بالشك لحامله.
ويشترط لصحة الشك أن يستوفي بعض الشروط الشكلية والموضوعية.
فمن حيث الشروط الشكلية، يفترض في الشك أن يكون:
1- مكتوباً.
2- كافياً بحد ذاته.
3- متضمناً البيانات الإلزامية الواردة في المادة 409 من قانون التجارة، وهي:
- كلمة «شك» في نصّ السند نفسه، باللغة المستعملة لكتابته.
- التوكيل المجرّد عن كل قيد أو شرط بدفع مبلغ معيّن.
- إسم المصرف المسحوب عليه.
- محل الدفع.
- تاريخ ومكان إنشاء الشك.
- إسم وتوقيع مُصدر الشك (الساحب).
أما من الناحية الموضوعية، فيشترط في مصدر الشك أن يكون لدى تحريره متمتعاً بالأهلية وإرادته غير مشوبة بأي عيب من عيوب الرضى.
ماذا لو خلا الشك من أحد أو بعض الشروط الأساسية المذكورة آنفاً؟
- إن الرأي الغالب في الفقه والإجتهاد قد تمشّى على إعتبار أن لا عبرة في توقيع العقاب بخلوّ الشك من
بعض مشتملاته، حتى الأساسية منها، إذا ثبت أن الطرفين تعاقدا على
أساس الشك، فسحبه المدين وقبله الدائن بهذه الصفة؛ بمعنى آخر يكفي أن يكون لسند السحب هذا ظاهر الشك ((Apparence du Chèque إذ ليس من المنطق أن يُعفى من العقاب من استغل علمه بقانون التجارة، فسحب بغير مؤونة شكاً تخلّفت فيه بيانات لا يلحظها شخص عادي.
ماذا لو كان موضوع الدين غير مشروع؟
إذا تعرّض موضوع الدين لأي سبب إبطال، كدين القمار أو الدين لغاية غير مشروعة، فيكون الدين باطلاً أساساً ويمكن الإدعاء ببطلان السند المنشئ له أمام المحاكم المدنية
المختصة، إلا أن ذلك لا يحول دون قيام جريمة سحب الشك بدون مؤونة.
صور الفعل الجرمي
حدد المشترع صوراً ثلاثاً للفعل الذي تقوم به الجريمة:
الصورة الأولى: «سحب شك من دون أن تقابله مؤونة سابقة ومعدة للدفع أو بمؤونة غير كافية»:
تبعاً للمفهوم القانوني، فإن سحب الشك هو تسليمه الى المستفيد، أي تخلّي الساحب - أو من يمثله - عن حيازته ودخوله في حيازة المستفيد، بمعنى آخر، إنه إرادة التخلي عن الحيازة لدى المسلّم وإرادة إكتساب الحيازة لدى المستلم، وقد انعقدتا.
ويترتب على ذلك أن ما يسبق التسليم من نشاط يقوم به الساحب، كتحرير الشك والتوقيع عليه، لا يوصف بأنه «سحب» للشك، وإنما هو عمل تحضيري، ومن ثم لا عقاب عليه بهذه الصفة.
لذلك، فإنه إذا حرر شخص شكاً بدون أن تكون له مؤونة لدى المسحوب عليه ووقّع عليه ثم احتفظ بحيازته، وبعد ذلك سرقه شخص، أو فُقد منه فالتقطه شخص طرحه في التداول، فلا عقاب على مَن حرّر الشك ووقّع عليه.
ما هي المؤونة، وما هي مصادرها؟
المؤونة هي مبلغ من النقود لدى المسحوب عليه، موضوع رهن تصرّف الساحب، بناءً على اتفاق بينهما، صريح أو ضمني. مصادرها عديدة، فقد تكون وديعة للساحب في ذمة المسحوب عليه، وقد تكون ديناً محققاً ومستحق الأداء وخالياً من النزاع نشأ في ذمة المسحوب عليه لمصلحة الساحب خوّله بمقتضاه أن يسحب شكات في حدود مبلغ هذا الإعتماد.
أما حالات قيام الجريمة لعدم وجود المؤونة فهي الآتية:
1- إذا كانت لا تقابل الشك مؤونة على الإطلاق.
2- إذا كانت تقابله مؤونة غير كافية. وهذه الحال تعني أن قيمة الشك تزيد على الرصيد الموجود، مهما كان الفرق، حتى ولو كان ضئيلاً، وإن قَبِلَ المستفيد بقبض هذا الرصيد.
وقد يتحقق هذا الأمر بإقدام الساحب على سحب أكثر من شك واحد، فتُدفع قيمة أحدها وتبقى الشكات الباقية بدون تسديد.
3- إذا كانت تقابله مؤونة كافية ولكنها غير معدة للدفع. ويعني ذلك أن المسحوب عليه (المصرف) مدين للساحب (موقع الشك)، ولكنه غير ملتزم بالوفاء بدينه على الفور، وقد يرجع ذلك الى كون الدين غير أكيد أو غير مستحق الأداء أو غير معين المقدار... أو غير ذلك.
4- إذا كانت المؤونة المقابلة له غير سابقة - أو على الأقل غير معاصرة - لسحبه. وهذه الحالة تفترض أن المؤونة لم تكن موجودة وقت سحب الشك، ولكنها توافرت وقت عرضه على المسحوب عليه. ولا يحول دون قيام الجريمة أن المسحوب عليه قد دفع مبلغ الشك من المؤونة التي توافرت لديه وأن المستفيد قد حصل بذلك على عامل حقه.
نشير هنا الى أنه إذا توافرت المؤونة واجتمعت لها الشروط التي يتطلبها القانون ولكن المسحوب عليه (المصرف) إمتنع عن أداء قيمة الشك، فإن الجريمة لا تقوم بذلك.
في الركن المعنوي للجريمة (في صورتها الأولى) إن جريمة سحب الشك بدون مؤونة هي من الجرائم القصدية التي يتخذ الركن المعنوي فيها صورة القصد. والقصد لا يتطلب نية الإضرار بالمستفيد، إنما يكفي لقيامه علم الساحب أو إستطاعته العلم بعدم وجود المؤونة. أما الوقت الذي ينبغي أن يتوافر فيه العلم، فهو وقت سحب الشك وليس وقت عرضه للإيفاء. فإذا كان ساحب الشك يعلم وقت سحبه أنه لا تقابله مؤونة، فإن القصد يعدّ متوفراً لديه، ولو كان يعتقد أنها ستتوافر في ما بعد، وإن يكن ذلك بعد وقت يسير.
الصورة الثانية: «استرجاع كل المؤونة أو بعضها بعد سحب الشك»:
تفترض هذه الصورة من الفعل الجرمي أن الشك كانت تقابله وقت سحبه مؤونة سابقة وكافية ومعدة للدفع، ولكن الساحب استرجعها كلّها أو بعضها قبل أن يحصل المستفيد على المبلغ. لكن إذا استرجع الساحب بعض المؤونة فحسب، وكان المتبقي منها يعادل مبلغ الشك أو يزيد عليه، فلا قيام للجريمة.
وفي ما يتعلق بالركن المعنوي للجريمة في صورتها هذه فيكفي لتوافر القصد في هذه الحالة أن يكون الساحب عالماً بأن الشك لم يُصرف بعد، وأن فعله يحول بين المستفيد وبين الحصول على مبلغ الشك.
الصورة الثالثة: «إصدار منع عن الدفع للمسحوب عليه»:
تفترض هذه الصورة أنه كان للشك وقت سحبه مؤونة كافية وسابقة ومعدة للدفع، ولكن الساحب أصدر أمره الى المصرف المسحوب عليه بتجميد مفعول الشك، أي بعدم دفع مبلغه الى المستفيد حينما يعرضه عليه للإيفاء.
وتكون الجريمة قائمة سواء كان المنع عن الدفع كلياً أو جزئياً أي مقتصراً على جزء من مبلغ الشك فحسب.
ثمة أسباب التبرير تزيل عن الفعل صفته الجرمية، فقد استبعد المشترع قيام الجريمة إذا كان المنع عن الدفع حاصلاً في إحدى الحالتين المنصوص عليهما في المادة 428 من قانون التجارة (الفقرة الأولى)، وهما فقدان الشك وإفلاس حامله.
والسؤال الذي يطرح هنا: هل يمكن إصدار أمر بمنع دفع قيمة شك في ما لو تم الحصول عليه بطريقة الإحتيال؟ هناك رأيان حول هذا الموضوع.
الرأي الأول يجيز إصدار هذا الأمر باعتبار أن القياس في أسباب التبرير هو أمر مسلّم به، خاصة وأن خروج الشك من حيازة حائزه الشرعي، بالإحتيال، لم يكن وليد إرادة صحيحة اتجهت اليه. بالمقابل، برز رأي معاكس يرفض إصدار المنع في غير الحالتين المذكورتين آنفاً (فقدان الشك وإفلاس حامله).
أما بخصوص الركن المعنوي للجريمة فهو يعتبر أنها لا تقوم، إلا إذا كان الساحب عالماً بأن الشك لم يُصرف بعد وأن فعله يحرم المستفيد من إستيفاء قيمة الشك، وعالماً أيضاً بأنه لا تتوافر إحدى الحالات التي خوّله القانون فيها الإعتراض على دفع قيمة الشك.
عقوبة الجريمة في صورها الثلاث
تلاحَق جنحة سحب الشك من دون مؤونة عفواً، ولا ضرورة لإنتظار شكوى أو إدّعاء شخصي من المتضرر. كما أنها تُثبت بكافة طرق الإثبات. وقد حدد المشترع لهذه الجريمة عقوبتين: الحبس من ثلاثة أشهر الى ثلاث سنوات، والغرامة من مليون ليرة الى أربعة ملايين ليرة.
في حالة التكرار، يجوز الأمر بنشر حكم الإدانة (م 69 ق. العقوبات)؛ ويجوز كذلك الحكم بالمنع من ممارسة حق أو أكثر من الحقوق المدنية تطبيقاً للمادة 66 (ق. العقوبات) وهي:
- الحق في تولّي الوظائف والخدمات العامة.
- الحق في تولي الوظائف والخدمات في إدارة شؤون الطائفة المدنية أو إدارة النقابة التي ينتمي إليها.
- الحق في أن يكون ناخباً أو منتخباً في جميع مجالس الدولة.
- الحق في أن يكون ناخباً أو منتخباً في جميع منظمات الطوائف والنقابات.
- الحق في حمل أوسمة لبنانية أو أجنبية.
أما من الناحية المدنية، فيحق للمجني عليه أن يطالب لدى القضاء الجزائي بأن يحكم على الساحب، في الوقت ذاته الذي يقضي فيه عليه بالعقوبة، بدفع قيمة الشك وبدل العطل والضرر.
جريمة المستفيد
لقد ذهب المشترع في حمايته للشك الى معاقبة المستفيد الذي يُقدم على استلام شك بدون مؤونة، وهو عالم وقت استلامه بذلك، فاعتبره في المادة 667 عقوبات متدخلاً في الجرم الى جانب الساحب.
لقيام هذه الجريمة، ينبغي:
1- أن يتوفّر الشك.
2- أن يقع فعل التدخّل.
3- أن يتحقق قصد التدخل (أي العلم بعدم توفّر المؤونة المقابلة للشك).
وفعل التدخل هو تسلّم الشك، أي إدخاله في الحيازة، وقوامه على هذا النحو عنصران، أوّلهما إرادة تلقي حيازة الشك وممارسة السلطات التي تنطوي عليها الحيازة، وثانيهما ادخال الشك في نطاق السيطرة المادية للمستفيد، مباشرة أو بالواسطة.
والعقوبة المقررة لمن يتسلم عن معرفة شكاً لا تقابله مؤونة هي العقوبة المقررة للمتدخل في هذه الجريمة، وهي نفس العقوبة المقررة لفاعل الجريمة إذا كانت الجريمة لم تكن لتحصل لولا مساعدة المتدخل (المستفيد من الشك). أما في الحالات الأخرى، فتخفض هذه العقوبة من السدس حتى الثلث.
إلا أن هذه العقوبات تضاعف إذا كان حامل الشك قد استحصل علىه لتغطية قرض بالربا، حتى ولو لم يكن متدخلاً؛ أي أنه بمجرّد إستلامه شكاً لتغطية قرض مراباة، ولو لم يكن يعلم أن الشك بدون مؤونة، يعاقب وتضاعف عقوبته.
نشير هنا الى أن المضاعفة تقتصر على العقوبتين الأصليتين، ولكنها تطبق على الحدين الأدنى والأقصى معاً، فيصير الحبس متراوحاً بين ستة أشهر وست سنوات، والغرامة متراوحة بين مليونين وثمانية ملايين ليرة.
د. فيلومين نصر.