الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،،،
فهذه القصة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي فَقَالَ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّي قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي قَالَ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ فَقَالَ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ] رواه مسلم.
[كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ] وهذه هي بداية القصة، دون ذكر للزمان والمكان ليمكن اعتناقها والاستفادة بها بغير الارتباط، أو التعلق بظروفها وملابساتها.
وفي قوله: [فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ] يريد فيما مضى، فيربط هذا الماضي بحاضر الدعوة في عهده فيقول: [قَبْلَكُمْ] حيث أن هذا الواقع القائم الآن هو الامتداد الصحيح لواقع الدعوة منذ بدايتها مع بداية الزمان. وهذا هو المعنى الأول المأخوذ من تلك البداية.
والمعنى الثاني: هو أن هذه البداية: [كَانَ مَلِكٌ] أبرزت ضرورة المواجهة بين الدعوة إلى الحق والحكم الباطل بصورة واضحة. وبذلك نفهم أن العداء بين الدعاة إلى الحق وبين حكام الباطل أمر بدهي مفروض من البداية وبمجرد التفكير في غاية الدعوة والنظر إلى واقع الناس.
وعلى هذا فإن أي دعوة إلى الحق تظهر في الواقع الباطل توجيهاً نظرياً، أو فكرياً مجرداً لا يتضمن تقدير مواجهة هذا الباطل في قوته وسلطانه؛ ستكون قتيلة بسنن الوجود، وتُلفظ من واقع الناس؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً في بداية الدعوة على إعلانها على الملأ والجهر بأنها دعوة إلى جميع الناس فكان يبعث إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وهو لا يزال في مرحلـة الاستضعاف تأكيداً لأبعاد الدعوة من البداية، ودون اعتبار للإمكانيات، أو مراعاة لميزان القوة بينه وبين هؤلاء الملوك.
ولقد كانت قريش من الذين لم يفهموا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم فظنت أنه لايريد إلا الحكم- فعرض عليه سادتها أن يكون سيداً عليهم، فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم تلك السيادة.
فالحكم ضرورة في تصور الدعوة، ولكنه لن يأتي منحة من المغتصبين له، ولن يتحقق بالمساومات الرخيصة، بل يجب أن يسترد بالجهاد والعمل؛ ليكون ولاية شرعية حقيقية.
ويجب ألا يمنع الاستضعاف ضرورة المواجهة بين الدعوة والحكم الظالم، وليس في تلك المواجهة -دون اعتبار للإمكانيات المادية- أي تهور، ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن سيد الشهداء من يقوم إلى حاكم ظالم يأمره وينهاه، وهو يعلم أنه سيقتله، فقال: [سَيِّد الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ ظَالِمٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ] رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في الأوسط . لأنه أكد مايؤكده الشهداء بقتالهم الكافرين أصحاب القوة والسلطان، ويزيد عليهم أن الشهداء كانوا يقاتلون باحتمال النصر أو الشهادة، وهو يواجه باحتمال واحد وهو الشهادة.
[وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ] تفيد أن الساحر للملك والسحر للحكم، وعندما يحكم السحر نفهم طبيعة الواقع الخاضع، فلابد أنه واقع فاسد، قائم بالظلم، ومحكوم بالهوى. ولابد أن المنهج وهم، وأن القيادة قهر، وأن الفكر خرافة، والواقع ضياع، وعندئذ يكون الإنسان إما متكبراً لا يعجبه إلا نفسه، أو مقهوراً لا يشعر بنفسه.
وهذه ضرورة الحكم الظالم؛ لأن الحكم الجاهلي يقوم على تفتيت كيان الفرد، وتشتيت كيان المجتمع؛ لأن الحكم الجاهلي لايريد إلا السيطرة دائماً، ولو إلى الدمار، وفي هذه الحالة يكون من مصلحة الحاكم أن يكون الإنسان الذي يواليه غبياً جاهلاً ضعيفاً.
وأي منهج ليس من عند الله يخضع لـه الناس يحقق نتائج السحر، وليس هناك فارق بينهما إلا في الشكل والاسم، وأي منهج يتخيل الإنسان أنه سليم بتأثير الإرهاب الذي يُفرض به المنهج من خلال الجهل والضعف؛ يحقق نتائج السحر.
[فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ] ومن هذا القول نجد نموذجاً لبطانة السوء التى يهمها أن تبقى الأوضاع التي يستفيدون منها، وينعمون فيها، ومثلهم الواضح سحرة فرعون الذين جاءوا إلى المدائن لمواجهة موسى، فكان أول ما قالوا:{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ[113]قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ[114]}[سورة الأعراف]. فلم يسألوا عمن سيواجهون، وما هي قضيته.. فهذا لا يهم ولكن الذي يهم هو الأجر .
[فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا] وقد جاء طلب الساحر - في رواية الترمذي – بعبارة: [انْظُرُوا لِي غُلَامًا فَهِمًا أَوْ قَالَ فَطِنًا لَقِنًا فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي] وهذا يكشف بُعداً خطيراً للخطة الجاهلية الرامية إلى إفساد الفطرة، وهي التركيز على النابهين المتفوقين أصحاب المواهب والقدرات الخاصة لضمان السيطرة الجاهلية على الواقع البشري.
[فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ]وتلمح من النص أن الغلام كان على إصرار في القعود إلى الراهب؛ لأنه كان يقعد إليه كلما أتى الساحر، رغم أن الساحر كان يضربه كلما تأخر عنه. وهذا الضرب يمثل بالنسبة للغلام بلاءاً وامتحاناً -إذا راعينا أنه غلام صغير- . ولكن الله يريد أن يتربى هذا الغلام - من البداية - تربية حقيقية كاملة، ويريد أن يكون ارتباطه بالدعوة متفقاً مع طبيعتها؛ لأن هذا الغلام سيكون منطلقاً أساسياً لتلك الدعوة، وسيكون دليل الناس إليها.
لذا كان لابد من أن يكون شخصية متكاملة بمعنى التكامل الشخصي للدعاة، والذي لا يتحقق ولا يتم إلا بالاستعداد للبلاء والصبر عليه عندما يقع.
فطبيعة التلقي لهذا الدين هي التي تحدد طبيعة اعتناقه والالتزام به والدعوة إليه، والذين يتلقون هذا الدين على أنه بلاء، هم الذين يبقون إلى النهاية، وأخذ هذا الدين بقوة هو ضمان الاستمرار عليه.
وبذلك أراد الله أن يتفق تكوين هذا الغلام مع طبيعة الدعوة، وأن لا تشذ شخصيته عن تكاليفها، فابتلاه الله في لحظات التكوين، ووقت النمو، وفترة التربية؛ فصدق وصبر.
ودائماً..مع شدة البلاء والأذى تظهر الآيات التى تعين على الصبر وتطمئن النفوس: [فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ].
وهنا نكتشف أن الغلام كان قلقاً لتلقيه من الراهب والساحر في وقت واحد، ولقد كان من الممكن أن يستمر الغلام دون قلق إذا كان يسمع للراهب والساحر بدون شعور أو تفكير؛ لأن السماع حينئذ سيكون مجرداً من التأثر، وسيصبح الدين والسحر عند الغلام مجرد فكر وكلام ولكن القلق نشأ بسبب تأثره العميق بكلام الراهب، وإدراكه السليم لمعنى الدين.
ومن هنا ندرك الصعوبة الكبيرة التي يعانيها المسلم الأصيل في مواجهة الواقع الفاسد وندرك أن الأصالة الإسلامية لابد أن تحرك المسلم لتحديد موقفه كما فعل الغلام.
ويدل طلب الغلام لليقين -من خلال الواقع - بفضل الراهب على الاتجاه الذي يريد الغلام أن يأخذه بدينه؛ لأنه كان يريد أن يتحرك به في حياة الناس، وسيواجههم بما يؤمن به مواجهة واقعية عملية، فلابد أن تبدأ هذه المواجهة بيقين من خلال هذا الواقع، فليست الدعوة في نظر الغلام مجرد فكرة واقتناع شخصي بها، ولكنها فوق ذلك واقع يتحقق بالقَدَر الذي يسير به الوجود.
[فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ] ولم يكن الموقف الذي وقفه الراهب موقفاً عادياً عندما قال للغلام ذلك، ولكنه موقف فاصل في حياة كل داعية، فقد تخفي الدعوة في الإنسان الذي يمارسها حباً خفياً للتميز باعتبار أن هذه الممارسة صورة من صور تميزه على الناس.
ولكن هذه العورة النفسية القبيحة تنكشف حتماً إذا واجه الإنسان موقفاً يشعر فيه أن هناك من هو أفضل منه في فهم الدعوة، وأقدر على تحقيق مصلحتها. ولكن الراهب لم يكن من هذا النوع بل كان تقياً نقياً: [ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] كلمات كلها إخلاص وتجرد. فهذا الراهب المعلم كان أصيلاً إذ أخبر الغلام أنه قد أصبح أفضل منه بلا حرج، ومن أين سيأتيه الحرج وقد خلصت نفسه لله تبارك وتعالى؟ فهو لم يكن يعلم ليقال عنه عالم، ولم يكن يدعو ليكون على رأس أتباع؛ ولهذا يفتح الطريق لمن يظن أنه يملك خدمة الدعوة أكثر منه؛ فيجعل من نفسه نقطة على محيط دائرة النمو العقيدي والحركي للغلام، فيقول له: [أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] .
وإذا تذكرنا أن الغلام كان صغيراً سناً، وأنه ما التقى بالراهب إلا منذ وقت قريب فإننا ندرك مدى الفهم الصحيح عند الراهب للدعوة؛ فالدعوة ليست بالعمر الذي يعيشه الإنسان، ولكن بالإيمان والكفاءة، والأثر. وبذلك يمثل الراهب في واقع الدعوة ضرورة القيادة الزاهدة، ويمثل الغلام ضرورة الاستجابة الفطرية.
فالقائد لايريد حظاً من الدنيا، والمستجيب كان غلاماً حديث عهد بالدنيا. فالقيادة الزاهدة والاستجابة الفطرية هي الارتباط الصحيح الذي يبارك الله فيه ليكون بداية البناء وأساسه، وهي المقياس الذي يقبل به أي ارتباط، أو يرفض منذ البداية حتى يتم البناء.
وبعد أن رأينا التجرد نرى التربية الصحيحة، إذ أن الراهب لما ذكر للغلام ميزته أتبعها بالمسئولية التى تقع عليه باعتبار تلك الميزة، وهذا في الواقع حماية للإنسان من الغرور؛ لأن الإحساس بتكاليفها يجعل الإنسان يعيش في شعور دائم بميزاته، فينحرف به ذلك الشعور إلى الغرور، ولهذا لما قال الراهب للغلام: [أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] قال لـه: [وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى].
[وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ]وهكذا حدد الغلام قضية دعوته وربط تلك القضية بواقع الناس وألف قلوبهم عليها. فأصبح للدعوة تياراً قوياً امتد إلى كل مجالات المجتمع.
وحتى هذه اللحظة لم يكن الملك قد علم بخبر الغلام، ولكن الله قدر أن لا يعلم الملك بخبر الغلام إلا من خلال هذا الجليس وبعد أن أصبح للدعوة تيار قوي. وهذه كانت مرحلة البداية.
[فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي] ويرد الغلام على الجليس مبيناً لـه أنه ليس هو الذي يشفي، ولكنه الله سبحانه، فيقول: [ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ] ويتجاهل الغلام الفكرة التي عرضها الجليس- فكرة الهدايا- والتي لم تنل من إحساسه شيئاً، ويقول لـه: [فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ] وهنا ترتفع قيمة الأمر بالإيمان في تصور الجليس؛ لأن شفاؤه سيكون بهذا الإيمان، ولأن الأمر بالإيمان كان بديلاً للهدايا والمادة التي تنال من نفوس الناس تقديراً واعتباراً، فانعكس هذا التقدير والاعتبار على الأمر الذي طلبه الغلام [فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ].
وعندما قال الغلام: [ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ]إنما أكد بذلك عقيدته من خلال المنفعة التي قدمها للجليس.
[فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ].
وهكذا في بساطة، وهذا يؤكد لنا أن أساس الدعوة ليس بالكلام الذي تعرض به القضية فقط بل بصحة الأسلوب العملي الذي ينجح في كشف حقيقة الإيمان الكامنة في كيان الإنسان. حتى دون الطلب الصريح أو الدعوة المباشرة ولو بكلمة واحدة .