أرجو من حضرات الزملاء الإطلاع على بحثي المتواضع هذا والذي يدور في فلك ما كتب الزميل الأستاذ أشرف وهو مقال منشور في مجلة الإندلس بإسمي قبل حوالي سنة في مدريد / إسبانيا المساءلة الطبية بين تعبير (الخطأ الطبي) و ( الضرر الطبي) يلاحظ المتابع لما يكتب حول موضوع (المساءلة الطبية) أن معظم الكتاب و الباحثين يستخدمون تعبير (الخطأ الطبي) عند شرحهم و تفصيلهم لحدود (المساءلة الطبية) و هو تعبير نعتقد أنه لا يصلح استخدامه إن كان البحث متعلقاً بالمسؤولية المدنية المترتبة على العمل الطبي و فق أحكام القانون المدني الأردني ، و نجد أن استخدام تعبير (الضرر الطبي) يتسم بدقة أكثر و ذلك لمايلي: أولاً : إذا اتفقنا بأن المسؤولية الملازمة للعمل الطبي حال ظهور أثر سلبي لهذا العمل (مضاعفات- إيذاء- عاهة (مؤقتة أو دائمة) – وفاة) هي المسؤولية التقصيرية و ليس المسؤولية العقدية لعدة أسباب نوردها تباعاً :
1. لأن أمر التداخل الجراحي غالباً ما يحصل دون الاتفاق مع المريض أو مع من ينوبه قانوناً لأن الأمر يكون مقدر بلحظات تستلزم التدخل لإنقاذ حياة المصاب دون إبرام أي اتفاق.
2. لأن العمل الطبي يعد في كثير من الأحيان ملزم للطبيب بحكم صفة الإنسانية التي تصبغ هذا العمل دون الالتفات لطلب المريض أو عدمه مما يرجح أن علاقة المريض بالطبيب (بالعمل الطبي) تخرج عن مفهوم العلاقة التعاقدية في أغلب الأحيان.
ثانياً : و عليه، فإذا نتج عن العمل الطبي (معالجة كيميائية- عمل جراحي- تشخيص) أضرار لحقت بالمريض فإن المسؤولية المدنية لمرتكب هذا الفعل نطاقها المسؤولية التقصيرية التي حددتها المادة (256) مدني أردني ( كل إضرار بالغير يلزم فاعله و لو غير مميز بضمان الضرر) . ثالثاً : يستخلص من النص المتقدم أن قوام المسؤولية التقصيرية في القانون المدني الأردني هو أن (يكون الفعل ضاراً) ، أي و لكي يستوجب الضمان و يعمل على استحقاقه عند الطلب لابد من تحقق معادلة : وجود فعل + ضرر+ علاقة السببية بين الفعل و الضرر. رابعاً : نعتقد أن رواج استخدام تعبير ( الخطأ الطبي ) يعود لعدة أسباب هي:
1. لأن معظم الباحثين و الأساتذة و الشراح الذين قاموا بإعداد الدراسات القانونية حول هذا الموضوع ينتمون إلى المدرسة القانونية المصرية سواء كانوا من أساتذتنا الذين نقدر لهم أبحاثهم التي لا غنى عنها أو من زملائنا المواطنين أو الوافدين إلى الكليات و الجامعات و المعاهد القانونية المصرية الذين يقومون بنقل ما توصلوا إليه من خلال دراساتهم عبر مؤلفاتهم و شروحاتهم التي تنشر بعد ذلك في الأردن دون مراعاة للفوارق الجوهرية المتعلقة بالقواعد العامة.
2. لأن القانون المدني المصري و في المادة (167) منه قد نص على أن ( كل خطأ سبب ضرراً للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض ) فجاء تعبير ( الخطأ الطبي) مستقى من المادة المتقدمة و هذا يعني أن قوام المسؤولية التقصيرية في القانون المدني المصري هو أن يكون الفعل (خطأ) وليس كما هو الحال وفق أحكام القانون المدني الأردني كما وضحنا سابقاً.
3. و عليه فإن استخدام تعبير ( الخطأ الطبي ) تم بناؤه على ضوء المادة (167) مدني مصري كما وضحنا و التي تقرر قاعدة مغايرة للمسؤولية لا يجوز أن تطبق وفق قواعد و أحكام القانون المدني الأردني ، ذلك أن القضاء إذا واجه حالة تتمثل في المطالبة بالتعويض من قبل مريض بمواجهة طبيب جراء قيام الأخير بعملية جراحية له نتج عنها أضرار ، فإن البحث في موضوع المسؤولية إذا بني على أساس (الخطأ الطبي) سيستلزم استثبات القضاء من : · وجود انحراف و تعدي في سلوك الطبيب. · وجود إدراك لدى الطبيب بأن ما قام به من سلوك يعد انحرافاً. و في هذا الأمر مشقة و مخالفة لقواعد أبسط و أسهل يمكن إتباعها طالما أن القانون المدني الأردني قد أخذ بهذا المعيار مـستلـــهماً موقــف الفـــقه الإســـلامي وفق ما جاء في الــحديث الشــريـــف : ( لا ضرر و لا ضرار). و في هذا يوضح د. أنور سلطان في كتابه (مصادر الالتزام – منشورات الجامعة الأردنية) : " ... فالفعل الضار فعل غير مشروع ، و لذا يكون سبباً لضمان ما ترتب عليه من تلف بصرف النظر عن قصد فاعله و إدراكه..."
4. و عليه فإن تأسيس المساءلة الطبية على قاعدة ( الضرر الطبي) و ليس (الخطأ الطبي) وتشريع قانون خاص يصدر موائماً للقواعد العامة سيعين القضاء في مهمته لإحقاق العدل و الإنصاف دون الدخول في متاهات الخطأ و الانحراف و الإدراك و دون النظر إلــــى الفارق بين الخطأ الطبي و الخطأ العادي و الخطأ البسيط و الجسيم لأننا سنكون خارج دائرة الخطأ أصلاً لاعتمادنا على قاعدة الضرر التي أوضحناها .
و في هذا نشير أننا قد ابتدأنا هذا الموضوع مؤسسين الفكرة القانونية الخاصة به على ضوء أحكام القانون المدني الأردني لسبب وجيه و هو أن اللجنة القانونية المتخصصة بإعداد تقنين المعاملات المالية العربية المشترك في جامعة الدول العربية قد أسست مشروع هذا التقنين على القواعد العامة الواردة في القانون المدني الأردني و ذلك ثابت من خلال وثائق اللجان المتخصصة ، فقد ارتيأنا أن نؤسس قاعدة البحث على الأحكام التي أوردناها متقدماً لعل من الممكن الوصول إلى صياغة تشريع قانوني عربي موحد يعالج هذه المسألة فيما يضمن حقوق المريض المعالج و يحمي كذلك حقوق الطبيب المعالج من العنت و التعسف . و في هذا السياق و حيث خصصنا الجزء المتقدم من هذا الموضوع لتوضيح الفكرة من استخدام التعبيرين الضرر الطبي و الخطأ الطبي إن كان الأمر متعلقاً بالمسؤولية المدنية و التي نقصد بها التعويض المادي الذي قد يطالب به المريض المتضرر الجهة التي ألحقت به الضرر و هذا يعني و بعبارة أسهل الضمان النقدي الذي يكفل للمريض تسيير ما تبقى من حياته بسبب العجز الذي لحق به من جراء العمل الطبي ، و نعود و نؤكد مرة أخرى أنه في هذا الشق لا علاقة للقصد أو انعدامه لأحقية المطالبة بالتعويض أي (المال الذي يجبر الضرر و يعين المتضرر على ممارسة حياته بمساعدة الآخرين مكررين التفصيل السابق ) . و في هذا فإننا نشير بأن القانون المدني الأردني والمتفق عليه في الفقة الإسلامي قد أخذا بنظرية استحقاق التعويض عن الضرر المعنوي إلا أن هناك تفاوت من رأي إلى آخر في تحديد مفهوم الضرر المعنوي فمثلاً القانون المدني الأردني حدد مسألة الضرر المعنوي بحدود واضحة جداً عندما تناول في حكم المادة (267) منه حدود حق الضمان للضرر الأدبي (المعنوي) إذ بين أنه التعدي على الغير في حريته أو عرضه أو شرفه أو سمعته أو مركزه الاجتماعي أو اعتباره المالي ، إلا أن ما يهمنا في هذا المقام و حيث أننا نكتب هذه السطور في أوروبا و تحديدا في الأراضي الاسبانية فإن الضرر المعنوي و الأدبي له حدود فضفاضة و أوسع بكثير وفق ما جاء بالتشريعات المعمول بها في أوروبا بشكل عام ، حيث يتناول حق الضمان للضرر المعنوي (الأدبي) موضوع الآلام النفسية و الانعكاسات في نفسية المتضرر بينما هذا الأمر فلا وجود له في القانون المدني الأردني على سبيل المثال و لن نعمم على بقية التشريعات العربية في هذا المجال لأن موضوعنا قد حصرناه في القواعد القانونية المتقدمة ، لكن يمكن لنا أن نطرح التساؤل الآتي لبيان الفكرة المراد ايصالها فيما تقدم : نقرأ في كثير من الصحف الأوروبية أن المحاكم الأوروبية تحكم بمبالغ تصل إلى حدود الملايين تعويضاً لأشخاص ألحق بهم ضرر من حادث أو من اعتداء أو من اضرار فلماذا لا نجد مثل هذه الأحكام ضمن قرارات المحاكم العربية بشكل عام ؟؟؟؟ والإجابة على هذا التساؤل هو أنه ومن خلال استقراء القرارات القضائية نفسها نجد أن المحكمة تصب جل اهتمامها في تعويض الضرر المعنوي على مسألة الآلام النفسية و ماآلت إليه الحالة النفسية العامة للمتضرر و تحكم له بهذه المبالغ الهائلة و التي تلزم شركات التأمين في كثير من الأحيان بدفعها ، و في كثير من القرارات و بعد تدقيقها نجد أن محور الآلام النفسية هو أهم المحاور التي أسس عليها الادعاء للمطالبة بالتعويض و هو أمر لا يمكن أن نجد مثيلاً له ضمن قرارات المحاكم الصادرة في الدول العربية لاختلاف القواعد التي يؤسس عليها أمر الضمان وفق التشريعات العربية عنها وفق ما هو وارد في التشريعات الأوروبية بشكل عام. وهذا يعد كافياً للإجابة على الاستفسار المتقدم و المتعلق بالأرقام الفلكية التي يحكم بها تعويضاً للمتضررين الذين يقيمون اثباتهم على حصول الضرر أمام المحاكم الأوروبية. و في عودة أخرى لتعبير الضرر الطبي و الخطأ الطبي فإن استخدام تعبير الخطأ الطبي إن كان مجال ذكره في نطاق المسؤولية الجزائية و فق أحكام قانون العقوبات الأردني و الذي تمتد جذوره التاريخية للتشريعات الجزائية اللبنانية و السورية ودون خوض في التشريعين الأخيرين فإننا نجد أن استخدام هذا التعبير يعد موافقاً و ملائماً لإثبات المسؤولية الجزائية التي قد تطال الطبيب أو المعالج بشكل عام ذلك أن نص المادة (343) من قانون العقوبات الأردني تنص على الآتي : ( من سبب موت أحد عن اهمال أو قلة احتراز أو عن عدم مراعاة القوانين و الأنظمة عوقب .....) ثم جاء في المادة (344) و في الفقرة رقم (1) مايلي: ( إذا لم ينجم عن خطأ المجرم إلا إيذاء كالذي نصت عليه المادتان (33) و (335) كان العقاب .....) و في الفقرة رقم (2) جاء النص : ( يعاقب كل إيذاء آخر غير مقصود بـــ .....) . و من خلال استقراء المواد المتقدمة نجد أن المشرع قد استخدم في أكثر من موقع ما يوحي إلى تطبيق نظرية الخطأ، فتارةً يكون الحديث عن الإهمال و قلة الاحتراز وهي من ضروب الخطأ و تارةً أخرى يصرح بتعبير خطأ المجرم و هذا كله يدعم الاتجاه الذي يأخذ باستخدام تعبير الخطأ الطبي إن كان الاستهداف ينصب في خانة ايقاع العقوبة على المؤذي (الذي ألحق الأذى بالطرف الآخر) حماية لحق المجتمع و هو أمر لنا تحفظ عليه إن كان نطاق البحث متعلق بالطبيب ، فنحن لا نجد الطبيب في مركز قانوني مساو لمن احترف الاجرام و جعله سلوكاً يومياً كما هم الجانحون الذين لا يخلو منهم أي مجتمع مما يقتضي تشريع قانون خاص يعنى بالأضرار التي تنجم عن العمل الطبي وذلك لغايات تحقيق مسألة الردع في النطاق الطبي ولأخذ الحيطة والحذر أثناء علاج المرضى بإسلوب يستهدف حماية المريض قبل عقاب الطبيب ذلك لأنه وإن ألحق أحد الأطباء الضرر بأحد المرضى أو نتج عن العلاج الطبي ضرر سلبي فإنه لا يستوي أن يطبق على الطبيب ذات القواعد القانونية المطبقة على متقدمي الذكر. وهنا فإننا نرغب في تثبيت عدد من الملاحظات حول ما تقدم من نصوص قانونية كالآتي:
1. أن الطبيب أو (المعالج سواء كان من فريق التمريض أو فريق الاسعاف ...الخ) و إن ألحق إيذاء بالمريض من جراء إهماله أو قلة احترازه أو عدم مراعاته القوانين فالنص هنا قد ساوى بينه وبين السائق الطائش فالإثنين سيعاقبان بموجبه وهو أمر لا يستوي لإن الطبيب يحاول كركن مفترض مساعدة و معالجة و إنقاذ المريض فإن تضافرت تلك العوامل التي سببت الإيذاء فلا يسود الاعتقاد بأن الطبيب قد أصبح مجرماًً .
2. لأن المواد المتقدمة قد استخدمت تعبير الاهمال و قلة الاحتراز و عدم مراعاة القوانين و كلها تعد ضروباً من الخطأ فلذا يصح أن نستخدم تعبير الخطأ الطبي إن كان موضوع حديثنا عن الإيذاء أي إن كان بحثنا في الناحية الجزائية ، و في حال تطبيـــق نص الــمادة (344/1) على العمل الطبي فإننا سنـــعامل الطبــيب على أســـاس أنه مجرم لأن النص قد جاء (إذا لم ينجم عن خطأ المجرم إلا إيذاء كالذي نصت عليه المادتان 333 و 335 كان العقاب ....) و إن هاتين المادتين المذكورتين في متن المادة (334) قد تناولتا صوراً مختلفة من الإيذاء مثل المرض أو التعطيل عن العمل مدة تزيد عن عشرين يوماً ، قطع أو إستئصال عضو أو بتر أحد الأطراف أو الإفضاء إلى تعطيلها أو تعطيل أحد الحواس عن العمل أو التسبب في تشويه جسيم أو إحداث عاهة دائمة أو لها ذلك المظهر وهي كلها نتائج محتملة الظهور كصورة من صور الإيذاء الطبي. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير بأن المشرع الأردني قد أورد نصاً خاصاً يتناول العمل الجراحي فقد عالجه المشرع في حالتنا هذه وفق نص المادة (62) من ذات القانون و التي جاء فيها على أنه لا يعد الفعل الذي يجيزه القانون جريمة و منه العمليات الجراحية و العلاجات الطبية المنطبقة على أصول الفن شرط أن تجري برضى العليل أو رضى ممثليه الشرعيين أو في حالات الضرورة الماسة،
و السؤال في هذا المقام مع أن العملية الجراحية فعــل غير مـــجرم حسب المادة (62) علماً بأنها اعتداء على حق الإنسان في الحفاظ على مادة جسمه من أي ضرر و مع أن مجرد إجراء العملية الجراحية هو اعتداء على سلامة هذه المادة من خلال إحداث الجرح لكن قصد المشرع واضح لأن العملية الجراحية التي ستنطبق على الفن المتبع يقصد منها غاية و هي المعالجة و ليس الإيذاء المباشر ، و لكن ماذا لو أهمل الطبيب في عمله؟ و ماذا لو لم يحترز الطبيب أثناء إجراء هذا الجرح ؟ هل يعد في مثل هذه الحالة و لأنه قاصد إجراء هذا الجرح بأن فعله مقصوداً إن تجاوز حدود الفن و الأصول، أم أنه سيعتبر فعل غير مقصود و بالتالي هل الإيذاء الذي سينجم عن العمل الجراحي هو ايذاء مقصود أم غير مقصود ؟
و عليه هل لنا أن نطبق نص المادة (344/1) على فعل الطبيب في هذه الحالة أم لا؟ و لتبسيط الفكرة السابــقة و التساؤل المتقدم الذكر ، فلنأخذ المثال الآتي : شخص يقود سيارته في الطريق فدهس أحد المارة ، الذي لا تربطه به أي علاقة ، فهنا حادث الدهس هذا يعتبر ايذاء غير مقصود ، أما شخص قام برفع سكين بمواجهة شخص آخر و قام بجرحه في يده على سبيل الفرض ففعل الجرح هذا هو إيذاء مقصود ، لأنه قد رفع هذا السكين و وجهه إلى منطقة الإصابة فإن هذا الفعل هو فعل مقصود ، و كذلك هو أمر مشرط الطبيب الذي يشق به الأغشية و الأنسجة لكي يصل إلى المنطقة المراد علاجها ، فهو فعل مقصود ، و لكن أباحه القانون و أجازه، إلا أن التساؤل المتقدم ينهض مرة أخرى فيما لو أهمل هذا الطبيب عمله و لم يبد احترازاً معقولاً خلاله ، أي أن فعله هل سيعد مقصوداً أم غير مقصود؟ و في نطاق الإجابة على هذا التساؤل يمكن لنا أن نحدد فيما إذا كان نص المادة (344) بفقرتها الأولى سينطبق على العمل الطبي أم لا. إلا أن خلاصة القول تلزمنا ببيان أن تعبير (الخطأ الطبي) هو الإجابة على التساؤل المتقدم لأن الإيذاء الناجم عن العمل الطبي هو من قبيل الإيذاء غير المقصود كما نعتقد وكما يؤيده السبب في استخدام تعبير (الخطأ الطبي) دائماً عند معالجة المسؤلية الجزائية الناجمة عن العمل الطبي لأن الخطأ أمر غير مقصود .
fanas Madrid / Spain
fanas_98@yahoo.com
0034679430995