شناني عدد المشاركات >> 172 التاريخ >> 2/5/2004
|
تقنين العقوبات الشرعية
د. حسين عبد علي
تحتل الشريعة الإسلامية مكانة متميزة بالنسبة لبلد إسلامي كالعراق (يصل عدد المسلمين فيه إلى 96% من إجمالي عدد السكان)، هذا إضافة إلى المكانة التي كان العراق ومايزال يتبوؤها بالنسبة للدول العربية والإسلامية الأخرى، كما وأن تنامي دور التيار الإسلامي في ظل المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية الراهنة يفترض عدم غض النظر عن أهمية الشريعة الإسلامية ودراسة إمكانات اعتمادها عند سن القوانين العراقية بعد إسقاط النظام الدكتاتوري العراقي الحالي. ولعل أوجه الأهمية بالنسبة للموضوعة المنظورة 'تقنين العقوبات الشرعية' إنما تنبع من ارتباطاتها العديدة بموضوعات لا تقل عنها أهمية، كالديمقراطية والتعددية والرأي والرأي الآخر والتداولية وارتباط الدين بالدولة وارتباطهما بالقانون والعلاقة بين العرف القانوني والقانون الدولي والشريعة الإسلامية، الواقع المعاش اليوم في العراق، مستقبل العراق المنتظر والتغييرات المزمع إجراؤها، حقوق الإنسان، العولمة، سقوط الحدود الوطنية... الخ.
وما يهمنا في المرتبة الأولى وعلى صعيد المستقبل المنظور، هو المستقبل المنتظر للعراق القادم، وهنا لابد من التنويه إلى أن الموضوعة المعروضة ما هي إلا آراء مطروحة للنقاش حول هذا المستقبل المنتظر ارتباطاً بمستقبل الشريعة الإسلامية عموماً وحول إمكانيات تقنين العقوبات الشرعية تحديداً.
مقدمة
العقوبة، أو ما يسمى عموماً بالجزاء، مثلها مثل الجريمة عبارة عن ظاهرة اجتماعية، وهي النتيجة المترتبة قانوناً لقاء الجريمة التي ينص عليها قانون العقوبات، وطالما أنها ظهرت ارتباطاً بواقعة اجتماعية هي ارتكاب الإنسان لواقعة يعاقب عليها بموجب القانون، عليه فإن هذا لا يخفي الأسباب الكامنة وراء ظهورها من الناحية الاجتماعية. وليس من قبيل المصادفة أن تحدد القوانين بكونها قوانين وضعية، مما ينوه إلى وضعها من قبل المجتمع، ولعل اتصاف ظاهرة العقوبة بكونها ظاهرة اجتماعية يشير إلى تاريخيتها، فالظواهر الاجتماعية تتجلى في مرحلة تاريخية معينة وتتطور أو تضمحل في مرحلة تاريخية لاحقة، وقد تطول فترة بقائها أو تقصر ارتباطاً بعوامل نشوئها أو عوامل هذا التطور. في ظل ذلك، لا يستبعد وجود الظروف الموضوعية والذاتية لنشوئها وتطورها وزوالها، فالتدابير العقابية التي كانت معروفة في فترة تاريخية معينة يمكن أن تضمحل في فترة لاحقة، أو أنها لا تطبق في ظروف معينة، فللواقع الاجتماعي المعاش والمتغير على الدوام تأثير على حالة التدابير العقابية التي ينص عليها القانون.
إضافة إلى وصف العقوبة بكونها ظاهرة، وبأنها اجتماعية وتاريخية، فإن ظهورها في ظل مجتمع طبقي يؤكد دون شك طبيعتها وجوهرها الطبقيين، فالجوهر الطبقي للدولة معروف، كما أن الترابط بين الدولة والقانون جلي، ومن هنا فإن شكل ونمط القانون في مرحلة تاريخية معينة ينعكسان بشكل ونمط الدولة لنفس المرحلة. ولهذا فإن العقوبة المدرجة مثلاً في قانون ينتمي من الناحية التاريخية إلى المرحلة العبودية، يجب أن تعكس بالتالي العلاقات الاجتماعية للمجتمع العبودي وانقسامه إلى أسياد وعبيد، وهي تعبر عن مصالح الأسياد المحمية وفقها، كما وتؤكد اضطهاد العبيد وفرض سلطة الأسياد عليهم، لاسيما وأن قانون الجزاء (العقوبات) هو السلاح الأكثر حدة بيد الأسياد لفرض هذه السلطة، هذا إضافة إلى دور أجهزة الدولة القمعية المختلفة (الجيش، الشرطة، المؤسسات الأمنية وهلم جرا) في فرض هذه السلطة.
إن العقوبة الشرعية لا تشذ عن العقوبة التي سبق وصفها، حتى وإن كان هناك خلاف بالنسبة لقدسيتها فهي قد 'وضعت' من أجل تطبيقها على البشر، أي أن 'شارعها' قد راعى أو يجب أن يكون قد راعى الظروف الاجتماعية، التي يعيش في ظلها الإنسان.
وهذه المراعاة وحدها تعتبر كافية لوصف العقوبات الشرعية بكونها ذات مواصفات اجتماعية، أما مواصفاتها التاريخية، فتتجلى من خلال تشابهها مع أنواع العقوبات الجنائية التقليدية التي عرفتها الشعوب في نفس المرحلة التاريخية. ولعل هناك من يعتمد 'قدسيتها' لاستبعاد وصفها بالطبقية، إلا أن الطبقية المقصودة إنما ترتبط باستخدامها، وبماهية المصالح المحمية وفقها، وليس بمن وضعها!
وعلى ضوء ما تقدم يمكن وصف العقوبة الشرعية بأنها نوع معين من الجزاء أو التدابير العقابية المنصوص عليه في قانون العقوبات أو في نص شرعي، والذي يمكن أن يترتب لقاء ارتكاب واقعة إجرامية، وهذا التعريف لا يستبعد جملة من المواصفات القانونية الواجب توافرها في العقوبة عموماً، وبكل نوع من التدابير العقابية خصوصاً والتي من اللازم الاستناد إليها عند تطبيقها، ومنها على سبيل المثال، أن العقوبة تحدد بناءً على حكم من الهيئات القضائية، حسب الاختصاص، مع التزام المبادئ القانونية المعروفة، كمراعاة جسامة الجريمة وظروف ارتكابها وشخصية المتهم وإنسانية وعدالة وشخصية العقوبة... الخ.
ما هي العقوبات الشرعية؟
تعتبر الشريعة الإسلامية نتاجاً لمرحلة سابقة على الاستعمار، فقد تبلورت في الفترة المحصورة بين القرن السابع إلى القرن العاشر الميلادي. ولهذا فهي تنتمي تاريخياً للمرحلة الإقطاعية من تطور المجتمع البشري، ومن هنا يجري تصنيف الشريعة الإسلامية باعتبارها قانوناً إقطاعياً وفقاً لانتمائها التاريخي.
وتقسم مصادر الشريعة إلى مجموعتين:
أولاهما: تضم القرآن والسنة النبوية، اللذين يحتويان على الأسس الفكرية والنظرية للقانون الإسلامي، واللذين يحتويان على عدد محدود من الأحكام الجنائية، والتي لا تزيد في القرآن على العشر.
ثانيتهما: تضم الإجماع والقياس، اللذين يحتويان على الكثير من الأحكام العقابية، الذي يعتبر حصيلة لتطور الفقه الإسلامي.
ومن المعروف، أن هناك العديد من المذاهب الفقهية الإسلامية والتي تتوزع على مجموعتين:
1 - المذاهب السنية (الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية).
2 - المذاهب الشيعية (الجعفرية، الإسماعيلية، الزيدية).
وكل من هذه المذاهب يقسم بدوره إلى مدارس شتى. وهذا كان له تأثيراته أيضاً بحيث انقسم القانون الجنائي الإسلامي بدوره إلى مدارس لا تعد ولا تحصى ارتباطاً بهذه المدرسة الفقهية أو تلك.
وتصنف الجرائم بموجب الشريعة الإسلامية وفق ثلاث مجموعات هي:
1 - الجرائم المعاقب عليها بالحدود (جرائم الحدود): وهي التي يجب عليها الحد، وهي ما بين عقوبتها نص شرعي وهي (البغي، الردة، الحرابة، السرقة، الزنا، القذف، تعاطي المشروبات الكحولية)، وتنحصر عقوبتها بين القتل والجلد وقطع الأعضاء والرجم، ولا يكون فيها لظروف الجريمة أو ظروف المجرم أي تأثير لدى تحديدها، بل إن السلطة التنفيذية لا تمتلك الحق في العفو عن ارتكابها، ولذا فهي تسمى بالعقوبات المحددة حقاً لله تعالى.
2 - الجرائم المعاقب عليها بالقصاص (جرائم القصاص): وهي الجرائم التي يجب عليها القصاص أو الدية وهي جرائم تقع على النفس وتؤدي إلى إزهاق الحياة، وجرائم تقع على ما دون النفس وهي التي تمس جسم الإنسان دون أن تهلكه. وارتباطاً بالعقوبة المترتبة تقسم هذه الجرائم إلى:
أ - جرائم القصاص: القتل العمد، إتلاف الأطراف عمداً، الجرح عمداً.
ب - جرائم الدية: وهي الجرائم السابقة الذكر، إن امتنع القصاص لسبب شرعي أو إن أعفي الجاني من القصاص، إضافة إلى جرائم القتل شبه العمد والقتل الخطأ وإتلاف الأطراف خطأ والجرح خطأ.
فالعقوبة لقاء هذه الجرائم تنحصر بين القصاص والدية، وهي عقوبة توصف بكونها حقاً للعباد، فهي من حق المجني عليه وورثته من بعده، وله أو لهم الحق في إعفاء الجاني من العقوبة، أي من القصاص بصورة مطلقة أو مشروطة بالدية أو الأرض، وعند العفو المطلق أو المشروط يسقط القصاص!
3 - الجرائم المعاقب عليها بالتعزير (جرائم التعزير): وهي كل جريمة معاقب عليها بموجب القانون، والتي تتراوح عقوبتها بين النصح والجلد والحبس والسجن والتعويض وإعادة المال إلى صاحبه الشرعي والإفراج المشروط، وقد تصل العقوبة إلى القتل في الجرائم الجسيمة، وجرائم التعزير ثلاثة أنواع هي:
أ - تعزير على المعاصي.
ب - تعزير للمصلحة العامة.
ج - تعزير على المخالفات.
وعلى ضوء ذلك، يمكن حصر العقوبات الشرعية بالإعدام، والرجم حتى الموت، وقطع الأطراف، والقصاص، والجلد، والدية، والأرش، والصلب.
تطبيقات الشريعة الإسلامية في عدد من البلدان
في ظل الحكم العثماني، لم يكن الاهتمام منصباً على تقوية النظام القانوني، فالاهتمام كان موجهاً من حيث الأساس نحو جبي الضرائب، وتقوية الولاة لركائز حكمهم. وقد ارتبط ذلك بضعف السلطة المركزية، الذي كانت له تأثيرات أخرى بالنسبة لاستمرارية وديمومة العمل بالعادات والأعراف وسيادتها في تنظيم المعاملات بين الناس، ففي ظل عدم وجود التشريعات الأخرى كانت العادات والأعراف هي الأساس المعتمد في تنظيم حياة الناس في علاقاتهم المدنية والجنائية، إلى جانب الشريعة الإسلامية. إلا أن هذا لا ينفي وجود نصوص جنائية متناثرة هنا وهناك، كوثيقة تحت عنوان 'الملازم' يرجع تاريخها إلى عام 1211هـ. بصدد تنظيم عدد محدود من العلاقات الاجتماعية ذات الطبيعة الجنائية، كتنظيم أحكام الاعتداء بالرماية الخطأ، تأمين السوق وطرقاته، منع الاعتداء على الماشية، حدود إباحة الثأر للقتل، حدود إباحة قطع الأشجار، عدم إيذاء الماشية، الإضرار بمراعيها، تنظيم استخدام المراعي، اليمين الجماعي عند التناكر في أمر من الأمور (القتل)، القتل الجماعي.. الخ.
في القرنين التاسع عشر والعشرين استبدلت أغلبية الدول الإسلامية الشريعة الإسلامية بالمدونات العقابية الأوروبية. ويرتبط هذا بخضوع هذه الدول سياسياً واقتصادياً للدول الاستعمارية الكبرى، وكذا تأثيرات الاقتصاد العالمي وتطور العلاقات البرجوازية وتأثير الحضارة الأوربية.. الخ. حيث سنت المستعمرات البريطانية السابقة قوانين عقابية على غرار قانون العقوبات الهندي لعام 1860 (الذي وضع مشروعه عام 1833)، أو مشروع قانون العقوبات البريطاني لعام 1878، فعلى أساس الأول منهما صدرت قوانين عقابية في سري لانكا، عدن (1955)، نيجيريا، السودان (عام 1925) الذي استبدل بصورة مكررة لهذا القانون عام 1974، وكرر بصورة أكثر قسوة في قانون العقوبات لعام 1983.
أما المستعمرات الفرنسية السابقة فطبقت قانون العقوبات الفرنسي لعام 1810، أو أصدرت قوانينها العقابية الخاصة المستندة إلى هذا القانون (الجزائري لعام 1966)، أو جاءت مُفصلة للقانون نفسه (اللبناني لعام 1943، السوري لعام 1949، الأردني لعام 1960).
كما يلاحظ تأثير القانون الفرنسي بصورة غير مباشرة من خلال الدول الاستعمارية أمثال بلجيكا وهولندا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا. فقانون العقوبات الصومالي قد وضع على أساس القانون الإيطالي لعام 1930، كما وسن قانون العقوبات الأفغاني استناداً إلى قانون العقوبات الفرنسي، إضافة إلى الأخذ بالمذهب الحنفي في الشريعة الإسلامية (المادة /1 عقوبات أفغاني لعام 1976).
كما يلاحظ التأثير المزدوج لكل من القانون الإنكليزي والفرنسي فيما يخص العراق، فقانون العقوبات البغدادي لعام 1918 قد جاء متأثراً بالقانونين الإنكليزي والفرنسي معاً، إلا أن للقانون الإنكليزي تأثير أكبر. أما قانون العقوبات العراقي لعام 1969 فتمت صياغته على أساس القانون القديم. وعلى العكس من ذلك بالنسبة لقانون العقوبات المصري، فقانون العقوبات لعام 1937 فرنسي أكثر منه إنكليزياً! أما قانون العقوبات الليبي لعام 1953 فتمت صياغته على أساس قانون العقوبات الإيطالي لعام 1930 وكذا المصري لعام 1937.
ويتفرد قانون العقوبات اليمني الديمقراطي لعام 1976 في صياغة أغلبية نصوصه بما يتطابق مع القوانين العقابية للدول الاشتراكية السابقة (روسيا الاتحادية وألمانيا الديمقراطية).
تطبيقات العقوبات الشرعية في عدد من البلدان
إن محاولة إدراج العقوبات الشرعية في القوانين ليست بالجديدة بالنسبة للبلدان العربية والإسلامية، فقد طرحت هذه المسألة عند وضع قانون العقوبات العثماني عام 1858، وكذا قانون العقوبات المصري عام 1883، كما جرى الأخذ بالعقوبات الشرعية في عدد من البلدان العربية والإسلامية بصورة متباينة، ولكن الملاحظ أن هناك ثلاثة اتجاهات لذلك:
أولاً: اعتماد الشريعة الإسلامية بصورتها العامة، كما في المملكة العربية السعودية مثلاً، فالمراسيم الملكية الصادرة خلال الفترة 1926 - 1928 تلزم القضاة باتباع المذهب الحنبلي، مع تحديد جملة من المجتهدين الإسلاميين الواجب الأخذ بآرائهم. وإلى جانب الأخذ العام بالشريعة، تم إصدار جملة من القوانين ذات الطبيعة الشرعية، والتي تعاقب لقاء عدد من جرائم الحدود، كالزنا وتعاطي المشروبات الكحولية وغيرها. ويلاحظ مثل هذا التوجه بالنسبة لعدد من دول الخليج العربي، وكذا في المملكة المتوكلية اليمنية، ولاحقاً في الجمهورية العربية اليمنية.
ثانياً: احتواء القوانين العقابية على نصوص شرعية خاصة بالمسلمين وحدهم، وهي التي تعاقب لقاء تعاطي المشروبات الكحولية، كما في القوانين العقابية لنيجيريا والصومال وأفغانستان، كما وأن هناك نصوصاً تعاقب لقاء عدم الالتزام بصوم شهر رمضان، كما في الأردن والمغرب.
ثالثاً: احتواء القوانين العقابية على استثناء للمسلمين بنصوص خاصة، حيث يمكن أن يعاقبوا وفق نصوص شرعية إلى جانب العقوبات الجنائية، كتطبيق عقوبة الجلد على المسلمين في نيجيريا مثلاً لقاء تعاطي المشروبات الكحولية والزنا، وهما من جرائم الحدود.
وما يميز هذه الفترة هو تحميل المسؤولية وفق العقوبات الشرعية لقاء عدد محدود من الجرائم الشرعية، أو الاقتصار على تجريم الجرائم غير الجسيمة منها، في حين اتصف تطبيق النصوص الشرعية في الغالب بطبيعته المحدودة والشكلية، باستثناء المملكة العربية السعودية والجمهورية العربية اليمنية. لكن مع الانتعاش السياسي للإسلام في السبعينات والثمانينات يلاحظ هناك توجه نحو تفعيل عدد من مبادئ وقواعد القانون الإسلامي، وبضمنها الجنائية، في جملة من البلدان (إيران، ليبيا، الباكستان، السودان وغيرها).
ففي عام 1971 أعلن مجلس قيادة الثورة في ليبيا عن أسلمة النظام التشريعي، فالقوانين الجديدة يجب أن تستند إلى مبادئ الشريعة، مع إعادة النظر في القوانين النافذة على هذا الأساس. ولتجسيد هذا الهدف، صدرت، على ضوء الشريعة الإسلامية، جملة من القوانين، كالقوانين التي تعاقب لقاء السرقة والسطو (1992)، والزنا (1973) وتعاطي المشروبات الكحولية (1974) مع الأخذ بالمدرسة المالكية بصدد تحميل المسؤولية الجنائية لقاء هذه الجرائم.
وفي أيلول 1983 صدر قانون العقوبات الجديد في السودان وبموجبه طبقت العقوبات الشرعية لقاء القتل، الخيانة الزوجية، تعاطي المشروبات الكحولية وغيرها. مع الإشارة إلى تطبيق العقوبات الشرعية على المسلمين وغير المسلمين، وهم أكثر من 6 مليون نسمة، بل وحتى على الأجانب. وقد استخدمت العقوبات الشرعية بشكل خاص إثر سقوط نظام النميري عام 1985.
ولعل دراسة النظام القانوني في اليمن الشمالية بعد عام 1918 ينطوي على أهمية خاصة بالنسبة إلى موضوعنا، فبهدف توحيد النشاط القضائي اليمني أعلن الإمام يحيى حميد الدين عن الالتزام بالمذهب الزيدي، مع الاعتماد بشكل خاص على كتاب (متن الأزهار) للإمام أحمد بن يحيى المرتضى وهو أحد الكتب الأساسية في هذا المذهب، ولأجل توحيد التشريع المعمول به في المملكة المتوكلية اليمنية أصدر الإمام يحيى تقنيناً تحت عنوان (الاختيارات) يتضمن مختلف الاجتهادات الفقهية المستندة إلى المذاهب الإسلامية الأربعة.
وفي عام 1950 أصدرت لجنة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية التي شكلها الإمام أحمد تقنين (كتاب تيسير المرام في مسائل الأحكام للباحثين والحكام) الذي استعان به القضاة آنذاك. وبعد سقوط حكم الإمامة عام 1962 تم النص في الدستور الدائم عام 1970 على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين جميعاً، وأكدت م/152 على تقنين أحكام الشريعة الإسلامية وتشكيل هيئة تتولى ذلك. وفي عام 1975 تم إنشاء الهيئة العلمية لتقنين الشريعة الإسلامية، التي قامت في فترة لاحقة بوضع مشروع القانون الشرعي للجرائم والعقوبات، وذلك على ضوء مراجعتها لمشروع قانون الجرائم والعقوبات الشرعية الذي وضعه مجلس الوزراء اليمني الشمالي.
ومع إعلان الوحدة اليمنية عام 1990 طرح مشروع قانون الجرائم والعقوبات الشرعي، الذي احتوى على مجموعة كبيرة من النصوص الشرعية، وهو المشروع الذي تم إقراره لاحقاً كقانون بعد الحرب بين شطري اليمن عام 1995.
ومن الملاحظ عدم تطبيق الشريعة الإسلامية في باكستان بعد الاستقلال، ولكن يلاحظ بشكل خاص صدور جملة من القوانين العقابية الشرعية بعد الانقلاب الحكومي العسكري عام 1977 من قبل ضياء الحق الذي أعلن أن المهمة الرئيسية لباكستان هي بناء 'المجتمع الإسلامي'. وفي عام 1978 صدر قانون يعاقب لقاء خطف الطائرات، الذي تضمن على عقوبات شرعية هي قطع اليد والجلد.
واحتفالاً بعيد المولد النبوي عام 1979 تم إصدار عدد من القوانين المستندة إلى الشريعة لقاء الجرائم ضد الملكية، الزنا، الاتهام الكاذب بالزنا، تعاطي المشروبات الكحولية. وفي الثمانينات صدرت مجموعة أخرى من القوانين العقابية المستندة إلى الشريعة حول الثأر، مع تضمين القوانين العسكرية عقوبات شرعية، كقطع اليد وما شابه.
وبالطبع تمت بشكل واسع أسلمة القوانين العقابية في إيران بعد إسقاط نظام الشاه عام 1978. وفي الواقع طبقت قبل الثورة القوانين العقابية الأوربية، ولكن الفترة اللاحقة على الثورة شهدت انتقالاً مباشراً من قبل المحاكم الإيرانية لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أساس المذهب الشيعي. وأكد دستور جمهورية إيران الإسلامية الصادر عام 1979 في م/4 على أن القوانين العقابية لإيران يجب أن تتوافق مع مبادئ الإسلام، في حين أكدت م/156 على إلزامية تطبيق قواعد الشريعة عند تحميل المسؤولية لقاء الجرائم.
وفي عام 1981 صدر في إيران قانون عقابي يتكون من 199 مادة يستند إلى المذهب الجعفري ويتضمن نظاماً صارماً من العقوبات لقاء جرائم القتل، الإيذاء الجسماني، الزنا، تعاطي المشروبات الكحولية.. الخ.
إن اللجوء إلى أحكام الشريعة الإسلامية هو من الناحية الحقوقية محاولة لمكافحة الإجرام المستشري عن طريق استخدام مسألة الدفاع عن القيم الإسلامية. ويعتبر الإصلاح القانوني هذا انعكاساً لانتعاش حركة الإسلام السياسي على الصعيد الداخلي وعودة لاستخدام التدابير العقابية القاسية التي عرفتها القرون الوسطى.
المشاكل التي يمكن أن تبرز عند تطبيق العقوبات الشرعية
إن الأخذ بأن الشريعة هي المصدر الوحيد أو الأساسي أو الرئيسي أو أحد مصادر التشريع لدى صياغة قانون وضعي، كقانون العقوبات يمكن أن يصطدم بجملة من الصعوبات فيما يتعلق بتقنين العقوبات الشرعية، لعل أبرزها من الناحيتين التشريعية والتطبيقية:
1 - إن النظرية العامة للجرائم والعقوبات الخاصة بالشريعة الإسلامية تختلف، وفي بعض الأحيان جوهرياً عن مثيلتها فيما يتعلق بالقانون العقابي الوضعي، مما يعني أن وجود النصوص الشرعية في القوانين العقابية سيخلق نوعاً من الإشكاليات القانونية عند تطبيقها، وإضافة إلى إمكانيتي التعارض أو التباين بالنسبة لهذه القضية أو تلك، فإن التطبيق يتطلب وجود الكادر الفقهي المتخصص في هذا المجال. فالشريعة الإسلامية تتضمن مثلاً على ما يسمى بمسقطات الحدود والقصاص، وهي ظروف لا يعتد بها في نظرية القانون الجنائي، فأركان جريمة الزنا على سبيل المثال تتطلب شهادة أربعة شهود، وأركان السرقة - شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ولكل نوع من الجرائم والعقوبات الشرعية مواصفاته، التي تختلف عن مواصفات الجرائم والعقوبات الوضعية، كما وأن تطبيق العقوبات الشرعية يختلف عنه بالنسبة للتدابير العقابية الوضعية، ولهذا فإن التضارب بين العقوبات الشرعية والوضعية أمر قائم لا محالة.
2 - إن العقوبات الواجد تحديدها لقاء الجريمة المرتكبة يجب أن تستهدف إصلاح الجاني وإعادة تربيته والعمل على اندماجه اجتماعياً بالمجتمع، أي توبته، كما أن العقوبة يجب أن تعمل على تربية الأشخاص الآخرين. في حين أن العقوبات الشرعية تضع في المرتبة الأولى الجزاء كهدف! أي المعاقبة لقاء الجريمة المرتكبة، فالزاني يرجم والسارق تقطع يده والقاتل يقتل وشارب الخمرة يجلد.. الخ. وبالرغم من أن تنفيذ العقوبة عموماً قد مر بمراحل من أجل جعلها ملبية للسياسة الجنائية للدولة وخاصة على طريق ردع ارتكاب الجريمة من قبل الجاني والآخرين، وذلك بدفع الجاني نحو الإصلاح وإعادة تربيته نفسه بنفسه من خلال تطبيق العقوبات غير المقيدة للحرية أو اتخاذ تدابير، كالإلحاق الإجباري بالعمل أو تدابير الإفراج الشرطي أو وقف تنفيذ العقوبات المقيدة للحرية أو تيسير دفع الغرامة أو ما شابه. إلا أن الملاحظ هو أن العقوبات الشرعية صارمة للغاية، فهي تستهدف كقاعدة اجتثاث الجاني من المجتمع بقتله (في جرائم القتل) أو رجمه حتى الموت أو صلبه أو جعله عاجزاً بقطع يده أو قطع يده ورجله عن خلاف أو ما شابه، بل إن عقوبات القطع هي وصمة عار لا تمحى بالنسبة للجاني، فالقطع دليل لا يمحى على ارتكاب الأقطع للسرقة، وهو ما يعني عزله بالنسبة للمجتمع، وهل يمكن أن نتحدث عن إمكانية اندماج الأقطع، إلا فيما ندر بالمجتمع الذي تسبب في قطع يده؟ بل قل إنه على الضد من ذلك سيقف ضده بارتكاب المزيد من الجرائم، مع توخي الحذر هذه المرة عند ارتكاب الجرائم خشية العقوبة التي ذاق قسوتها، أما إذا تاب فإنه سيكون عالة على المجتمع كمتشرد أو متسول، وهو ما يمكن أن يعاقب عليه وفقاً للقانون.
3 - إن إدراج العقوبات الشرعية في القوانين العقابية يمكن أن يثير سؤالاً عن تعارض هذا مع التزام الدولة بالإعلانات والاتفاقيات الدولية، بل إن الدساتير كعادة تنص على عدم جوازية استعمال الوسائل البشعة غير الإنسانية في تنفيذ العقوبات، بل إنها تحرم سن أي قوانين تبيح ذلك، ولو نظرنا إلى عقوبات كالجلد والرجم والصلب والقطع وغيرها، لما أمكن وصفها من حيث التنفيذ إلا بالبشاعة البالغة، وكذا بعدم مراعاتها لمبدأ الإنسانية فيما لو قورنت بالتدابير العقابية الوضعية. فالعقوبات الشرعية مثلاً غالباً ما تنفذ في الأماكن العامة، بل إن الشهود في عقوبة الزنا يجب أن يباشروا التنفيذ، أما إذا تعلق الأمر بتعدد الحدود والقصاص فإن عملية التنفيذ تكون بالغة البشاعة.
إن العقوبات الشرعية تتعارض خاصة مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والثقافية لعام 1966 والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لنفس العام، وعلى أساس الإعلان العالمي السابق الذكر هناك أكثر من 76 اتفاقية دولية مفصلة لحقوق الإنسان، فهذه الوثائق الدولية ينظر إليها باعتبارها مدونة عالمية لحقوق الإنسان تعترف بها كل الدول حتى أكثرها دكتاتورية، والعراق المعاصر 'خير مثال' على ذلك وعراقنا القادم يجب أن يكون قدوة في هذا المجال، وهو ما يعني تجسيد مضامين هذه الوثائق الدولية بنصوص تفصيلية في القوانين الدولية أو الوطنية، فالشارع الوطني ليس حراً في وضع تشريعات تتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية للإنسان، حتى وإن تم ذلك لأغراض دينية، وبهذا الصدد تنص المادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 على عدم تعريض أي إنسان للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة للكرامة، كما وتنص المادة /7 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على عدم جوازية العقوبة أو المعاملة القاسية أو غير الإنسانية أو المهنية.
4 - إضافة إلى ما ذكر أعلاه، تعتبر العقوبات الشرعية مساساً بوظيفة الدولة في إيقاع العقاب. فالعقوبة استناداً إلى الدستور يجب أن تحدد بحكم قضائي بات، أي أن العقوبة يجب أن تحدد من قبل الهيئات القضائية، في حين أن بعض الأحكام الشرعية تشطب على مثل هذا النص الدستوري الهام، وذلك ارتباطاً بمنح المجني عليه أو ورثته الحق في العفو عن الجاني، حتى وإن صدر حكم من قبل المحكمة بإيقاع العقوبة الشرعية نفسها، بل إن العقوبات الشرعية تمنح في بعض الأحيان المقتدرين مالياً إمكانية تجنب تنفيذ هذه العقوبات بالنسبة إليهم، ويتجلى هذا خاصة بالنسبة للجرائم البالغة الخطورة التي تمس بالحياة وسلامة الجسم، فالقدرة المالية على دفع الدية أو الأرش تمكن فاعل الجريمة وببساطة من تجنب تنفيذ العقوبات الشرعية بمراضاة المجني عليه أو ورثته. وارتباطاً بتوافر هذا، لا يمكن لهذا النوع من العقوبات الشرعية تجسيد مبدأ المساواة أمام القانون والشريعة أو تحقيق مبدأ العدالة. وبالرجوع إلى القوانين العقابية النافذة في اليمن مثلاً يلاحظ أنها تنص على إمكانية مراضاة المجني عليه أو ورثته بدفع ما يزيد كثيراً على مقدار الدية أو الأرش المحددة في العقوبات الشرعية، فهذه القوانين تنص على جوازية الصلح على القصاص بأكثر أو أقل من الدية أو الأرش! ولهذا ليس من المستغرب أن تستغل إمكانية إسقاط الحدود أو القصاص من قبل ضعاف النفوس للحصول على منافع مالية، برمي أطفال مختطفين أمام سيارات الآخرين، ومن ثم المطالبة بديات كبيرة، إلى غير ذلك.
وعلى ضوء المتقدم يصبح المقتدر مالياً متمتعاً، مقارنة بغير القادرين، بحق اقتراف (الجرائم) المعاقب عليها بالشريعة الإسلامية، مع حصوله على امتياز بعدم معاقبته جنائياً، مما يعطي تصوراً خاطئاً وكأنما وجدت العقوبات الشرعية في القانون لصالح الأغنياء ومن أجل معاقبة الفقراء، وهو ما يسيء إلى السمعة الإنسانية للدين الإسلامي. إن مبدأ المساواة أمام القانون هو أحد المبادئ القانونية الدستورية التي يجب أن يقوم عليها أي قانون.
إن المجتمع العراقي هو مجتمع إسلامي، وهو ما يتفق عليه الجميع وهو ما يعني أهمية مراعاة الشريعة الإسلامية كأحد مصادر التشريع العراقي النافذ، ومن هنا من المهم أن تجري دراسة الإمكانيات الفعلية لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، ويتجلى هذا خصوصاً لدى صياغة النصوص العقابية المكرسة للأفعال المعتبرة جرائم بمقتضى الشريعة (جرائم الحدود والقصاص والدية والتعزير) وكذلك العقوبات الشرعية المحددة لقاء ارتكابها. إن أحد الأحكام العقابية الواجب توافرها في القوانين العقابية هي النص على الجريمة والعقوبة في قانون العقوبات، إلا أن صياغة الجريمة والعقوبة في القانون تتطلب من النواحي النظرية الحقوقية مراعاة عدد من الشروط:
1 - الحاجة إلى تحريم الفعل وتجريمه (حجم الضرر، انتشاره كظاهرة اجتماعية، عدم وجود الإمكانية لردعه من خلال الأساليب الأخرى اللاعقابية).
2 - جوازية التحريم من مختلف النواحي السياسية والأخلاقية والقانونية والدولية.
3 - الإمكانية التطبيقية لتجسيد التحريم (من النواحي القانونية والمنطقية والتحقيقية والقضائية والإصلاحية والتربوية).
4 - التثمين المتكامل للتحريم (الآثار المترتبة من الناحية النفسية على المواطنين، ومن الناحية الاقتصادية ودراسة الآفاق المستقبلية، وخاصة ما يتعلق بردع ارتكاب الجرائم والوقاية منها لاحقاً).
وعلى ضوء ذلك، إن تطبيق العقوبات الشرعية يجب أن يتلاءم مع التطورات الحاصلة في السياسة الجنائية والنظرية العامة للقانون الجنائي، فالمؤتمرات التي تقيمها منظمة الأمم المتحدة بصدد مكافحة الإجرام والوقاية منه تؤكد على أهمية تخفيف التدابير العقابية وتوصي باللجوء إلى تدابير إصلاحية وليس تدابير عقابية، فالجاني هو إنسان، وهو عرضة للخطأ، كما وأن القاضي هو بدوره إنسان وهو الآخر عرضة لأن يرتكب الأخطاء، بل إن البروتوكول التكميلي للعهدين الدوليين السالفي الذكر، الصادر عام 1989 على سبيل المثال قد نص على أهمية إلغاء عقوبة الإعدام، لقسوتها ولاإنسانيتها على طريق أنسنة التدابير العقابية مما يعني إلزام الدول الموقعة عليه بالتزام ذلك في قوانينها النافذة. ولعله من المفيد الإشارة إلى أن العقوبات 'الشرعية' قد عرفتها كل الشعوب تقريباً، ويمكن ملاحظة ذلك بالنسبة للشعوب ذات المعتقدات اليهودية والمسيحية، إلا أن الملاحظ أيضاً أن هذه الشعوب قد نبذت هذه العقوبات منذ عقود، فلماذا يجب علينا أن نأخذ بهذه العقوبات الآن، رغم كوننا نصف هذه الشعوب بالجاهلية! وبكل أسف، إن الرجوع إلى استخدام النصوص الشرعية التي تبيح اللجوء إلى الرجم والقطع والصلب وغيرها، من خلال النظر إليها باعتبارها عقوبات عادلة وإنسانية، سيعمق في أذهان غير المسلمين ليس فقط تخلفنا الحضاري كعراقيين، بل تخلف كافة الشعوب العربية والإسلامية. إن التراث الإسلامي هو التراث الذي يعتز به كل مسلم، لكننا يجب أن لا نعكس للعالم الجانب المظلم منه. إن الشعوب تعمل على عكس الصفحات الناصعة والوضاءة في تراثها، وما أكثرها في تراثنا الإسلامي، وهي التي يجب أن تجد انعكاساً لها في القوانين العراقية المنتظرة وهي التي يجب أن نسترشد بمضامينها في بناء دولة العدالة والقانون العراقية.
|