محاكمة جان دارك 3
امتقع لون المسكينة عند سماعها الحكم وعرفت انها وقعت في الفخ الذي نصب لها ، فتوقيعها على الوثيقة لم يكن الهدف منه سوى اهانتها وهدر كرامتها ، لانقاذها ، كما ذكر امامها.
اما الانكليز فقد ظلوا على انفعالهم . صحيح ان جان دراك ستمضي بقية ايامها في السجن ، لكن الصحيح ايضاً هي انها ستبقى حية ، في حين دبروا ما دبروا ودفعوا ما دفعوا لتنتهي عدوتهم الى النار وليتخلصوا منها الى الابد .
عادت جان دراك الى زنزانتها لتلبس ، كما تعهدت ، لباس امرأه لكن ، لم تمض سوى ثلاثة ايام حتى شوهدت تعود الى لبس الزي العسكري . فما الذي حدث حتى تنقض السجينة تعهدها ؟ الامر غاية في البساطة ، لقد امرها سجانها الانكليز بذلك بقصد اعادتها الى محاكمة جديدة وبالتالي ، اصدار الحكم بحرقها حية .وهكذا وفي اليوم الرابع للمحاكمة الاول، بعد يوم واحد من نقضها القسري لتعهدها ، عادت المسكينة لتواجه المحكمة والمصير المرسوم ، جرت المحاكمة – المهزلة وحكم على جان دراك بالاعدام حرقاً ، ورضي الانكليز .
خمسة وعشرون عاما مرت على موت جان دراك ففي 7 تموز سنة 1456 ، كان اناس كثيرون يتجمهرون في باحة قصر روان ليستمعوا خاشعين الى حكم اخر يقضي ، هذه المرة باعادة اعتبار الشهيدة . كبار رجال الكنيسة في باريس وريمس وكوتانس ومعهم شقيق جان دراك التأموا في اجتماع تاريخي ليعلن كاهن ريمس ياسمهم ما يلي .
" نعلن باسم الرب ، الحسيب الوحيد على اعمالنا ، ان المحاكمة التي ذهبت جان داراك ضحية انحرافها وعمالتها ، باطلة ، وان الحكم الصادر عنها هو ايضا باطل كما نعلن ان جميع الاتهامات بالشعوذه والهرتقة الموجهة الى الشهيدة باطلة ، هي الاخرى لذلك فاننا نحكم بالغائها جميعاً " .
ما ان انتهى الكاهن من قراءة وثيقة البراءة ، حتى ظهرت علامات الرضى على وجوه الحضور وهمهمات الموافقة على شفاههم . وامعاناً في التكريم ، توجه الجميع الى مقبرة سان
اوين ، حيث انتزع، احتيالاً اعتراف جان دراك بالشعوذه وانكارها لسماع صوت الرب . وهناك قرأ كاهن ريمس حكم البراءة ثانية على مسمع من الحضور . وقد تكرس هذا الحكم من قبل البابا نفسه .
كان هذا تتويجاً لجهود دامت سبع سنوات ، سبع سنوات مليئة باجراءات باعادة محاكمة شاقة ومثيرة . اعيد النظر بكل الوثائق . فندت كل الاقوال ودحضت جميعاً . وقد اشرف على هذه العملية كبار القضاة ورجال القانون من الملك شارل السابع ، ملك جان دراك ، الذي تنبأت المسكينة بانتصاره على الانكليز وبعودته الى عرش بلاده . وقد صدقت النبوءة .
وهكذا انتهت اول محاكمة سياسية في تاريخ فرنسا . كانت محاكمة مثيرة اظهرت بوضوح ما يمكن ان تؤدي اليه عمالة ضعاف النفوس . ان جان دارك اصبحت بطلة وطنية ويطلق اسمها على الساحات والشوارع والمؤسسات في فرنسا وخارجها ، لكن الصحيح ايضاً هو انها ماتت حرقاً ، وهذا المصير ، لمجرد تخيله ، رهيب فكيف به عند المنفذ به ؟ واذا كان من عبره لهذا القضية برمتها ، فهي ان الحق هو المنتصر الاخير في الجولة الاخيرة ذاك هو منطق الامور . ولكن ... كم من الضحايا تسقط وكم من الرؤوس تتدحرج قبل ان تصل الامور الى نهاية منطقها او ، بالاخرى الى منطق نهايتها ؟ قد تكون التضحية بالذات هي القربان الامثل الذي يقدمه المرء لاحقاق حق او لابراز حقيقة . وهذا في نظر الكثيرين ، قمة العطاء .