الثورة والعدالة.. و«قانون الغدر»
بقلم د. وحيد عبدالمجيد ٢٩/ ٧/ ٢٠١١
كثيرة هى الشواهد على أن مسألة العدالة تعتبر الحلقة الرئيسية الآن فى إدارة المرحلة الانتقالية وإمكان الخروج منها بسلام أو التعثر فيها. وأكثر منها المؤشرات التى تفيد بأن محاكمات المتهمين بقتل شهداء الثورة تقع فى قلب هذه الحلقة. فهى تنطوى على مكون عاطفى بالغ الأهمية فضلا عن أهميتها الخاصة فى تأكيد أننا نشرع فى بناء دولة القانون حقا وليس كلاماً على أنقاض الدولة البوليسية التى توحش فيها جهاز الأمن. ولم يكن قتل وإصابة آلاف الثوار إلا نتيجة لممارسات الدولة البوليسية. وما محاكمة ضباط الشرطة وأمنائها وقناصيها الذين أطلقوا النار على الشعب بدم بارد وبلا ضمير إلا الخط الفاصل بين دولة الظلم ودولة العدل.
وما لم تدرك الحكومة المعدلَّة، ومعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ذلك سيكون صعبا التطلع إلى وضع حد لأشكال الغضب الجديدة التى تسودها العشوائية فى الشارع فى كثير من الأحيان. فالشرط الأول للتهدئة اليوم هو القصاص لشهداء الثورة ليس إرضاء لشهوة انتقام، بل تأكيدا لإقامة دولة العدل وإراحة قلوب يدميها شعور البعض بالاستهانة بدماء هؤلاء الشهداء.
ولا يفيد استدعاء المرسوم الملكى رقم ٣٤٤ لسنة ١٩٥٢ الذى أصدره الوصى على العرش قبل إعلان الجمهورية (المسمى قانون الغدر) كثيرا فى تحقيق ذلك. فلا علاقة لذلك المرسوم بقضايا قتل شهداء الثورة وإصابة كثير غيرهم، حتى بافتراض إمكان توفير أى مشروعية لاستدعائه بعد إلغائه منذ ٤٠ عاما.
فلم يعد ذلك المرسوم قائما منذ إصدار (قانون تنظيم الحراسة) عام ١٩٧١، الذى أُلغى بدوره ضمن القوانين التى ألغاها القانون ١٩٤ لسنة ٢٠٠٨. وحتى إذا أمكن إيجاد تكييف قانونى ما لاستدعائه، ستكون الأحكام المستندة عليه حتى بعد تعديله محلا لكثير من الطعون.
ومع ذلك، فليست هذه هى القضية. فليُستدع هذا المرسوم. ولكن القضية هى أنه لا يفيد فى محاكمة المتهمين بقتل وإصابة المتظاهرين، ولا يضمن حتى تحقيق العزل السياسى الذى يرى البعض ضرورة تطبيقه لحماية الثورة. كما أن عمومية نصوصه المطاطة لا تجعله مفيدا فى سد ثغرات قانون العقوبات فيما يتعلق بمحاكمات رموز النظام السابق.
فالثغرة الجوهرية فى قانون العقوبات هى أنه لا يعاقب على الإفساد السياسى لأنه لا يتضمن تحديدا قانونيا منضبطا للجرائم التى تدخل فى هذا النطاق. ولكن «قانون الغدر» لا يسد هذه الثغرة بالرغم من أن أحد الأفعال التى يؤثّمها هو إفساد الحكم والحياة السياسية. فهو لا يحدد أنواع الجرائم المحددة التى تعتبر إفسادا من هذا النوع. ولم يكن من أصدروه فى حاجة إلى ذلك وقد أقاموا محكمة استثنائية تستطيع إصدار أى أحكام تريدها، ثم استبدلوا بها محاكم عسكرية عندما لم يسعفهم تطبيقه.
أما الأفعال التى قام بتأثيمها فهى لا تختلف كثيرا عما يتضمنه قانون العقوبات. ولذلك فهو لن يغير شيئا يُذكر على صعيد تحقيق العدالة التى تبتغيها الثورة حتى على مستوى رموز النظام السابق وقاعدته البرلمانية. والأجدى من ذلك هو إصدار مرسوم قانون جديد طالب به بعض الكتّاب، ومن بينهم كاتب السطور فى مقالته فى «المصرى اليوم» الجمعة ١٥ أبريل الماضى. فالأمر فى حاجة إلى نوع من الابتكار بدلاً من اللجوء إلى قوانين يرى بعض رجال القانون أنها باتت من «سقط المتاع».
ولكن هذا المرسوم الجديد لن يعالج ملف المهتمين بقتل الشهداء. وبصراحة تامة، سيظل هذا الملف مصدر شعور بالغضب قد يتطور إلى ما لا تُحمد عقباه إذا صدرت أحكام تُبرئ المتهمين أو الكثير منهم بسبب مشكلة «القتل على المشاع».
وبالرغم من الأعباء الهائلة الملقاة على كاهل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والحساسية الشديدة فى هذا الملف، فلا مفر من أن ينظر فى إحالته إلى القضاء العسكرى الذى يستطيع بما يمتلكه من صلاحيات ونفوذ ومكانة أن يعيد التحقيق فيه ويلزم وزارة الداخلية بتقديم أدلة قد لا تستطيع النيابة العامة الحصول عليها.
ويعرف كل من يملك شيئا من ثقافة قانونية أن النيابة العامة هى جهة تحقيق وليست جهة جمع أدلة. ومع ذلك فقد قامت بهذه المهمة فى حدود ما تستطيع، بسبب عدم تعاون جهاز الأمن فى كثير من الحالات. كما يدرك كل منصف أن النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود، الذى ينتقده البعض ظلماً يؤدى واجبه فى ظروف بالغة الصعوبة. ولكنه ليس مشرّعا لكى يصدر قوانين أو يعدّلها لتكون أكثر عونا للنيابة العامة فى عملها، وليس صاحب سلطة ولا فى إمكانه الإحالة إلى القضاء العسكرى.
فليت المجلس الأعلى يكمل دوره التاريخى فى ثورة ٢٥ يناير ويتحمل عبء إحالة قضايا شهداء ومصابى الثورة إلى القضاء العسكرى، وإصدار مرسوم بقانون جديد بشأن المسؤولية السياسية فى مجملها، بما فى ذلك الإفساد بدلا من استدعاء قوانين قديمة قد يراها البعض من «سقط المتاع».
|