العدوان الثلاثي المفاجئ
وبعد التأميم قامت القيامة المعروفة ، وكنت أنا أول المتحمسين لهذا التِأميم وكان يجيئني من يقول بارتياع إن هذا التأميم جنوني . إن هذا التأميم كارثة على البلد ، فكنت أهب في وجه من يقول ذلك هبة غضب شديد . وعندما جاءت الجيوش والطائرات إلى بورسعيد وبدأ العدوان الثلاثي أرسلت برقية إلى عبدالناصر أقول فيها "إني وأنا كهل يسير نحو الستين مستعد لحمل السلام" ... كنت في ثورة 1952 وفي كهولتي أفكر بقلبي ، وكنت في ثورة 1919 وفي شبابي أفكر بعقلي .. ولست أدري سببا لذلك .. قناة السويس كانت دائما مطمع أنظارنا ، وها هي ذي في يدنا ، والباقي لا يهم . ولكن كانت هناك مع ذلك ومضات فكر تجعلني أتأمل بعض الأمور وأعجب لها. فلا أنسى خطبة الجمعة المشهورة التي أعلن فيها عبدالناصر أنه لم يكن يظن أن بريطانيا ستشترك حقا في العدوان على مصر مع إسرائيل ، لأن ذلك في نظره يعرضها لغضب العرب. وأنه لم يعرف باشتراكها إلا عند سماعه أزيز الطائرات البريطانية ، فصعد إلى سطح منزله ليتأكد من ذلك بنفسه . قلت في نفسي : صح النوم .. كيف كان رئيس دولتنا يجهل هذا الأمر ، وأنا الذي ما ارتبت لحظة في أن بريطانيا جادة في الحرب ، منذ أن قرأت وسمعت البرقيات والإذاعات تتحدث عن اجتماعات إيدن بقواده ، واصدر الأوامر إلى السفن الحربية في مالطة والقاعدة الجوية في قبرص بالاستعداد . بل إن بعض هذه السفن قد أعدت فعلا وتحركت بالجنود في اتجاه الشرق الأوسط ، لعل عبد الناصر قد فهم أن هذا كله من قبيل التهويش . ولكني أنا قد أخذت الأمر مأخذ الجد لأني استبعدت على حكومة جادة مسئولة في دولة كبريطانيا تعد الجيوش والسفن وتعبئ الجهود ، تنقل الجنود وتتكلف النفقات لمجرد التهويش . والموقف لم يكن يستدعي ذلك لأنه كانت هناك حلول معروفة بالفعل . ولكن لأسباب مختلفة كان إيدن كما ظهر من لهجته وإصراره قد قرر انتهاز الفرصة لإعادة النفوذ البريطاني إلى المنطقة .. كيف إذن خطرت لعبد الناصر هذه الفكرة: إن إيدن عندما كان يلوح بالحرب ويجري الاستعدادات لها على هذا النحو إنما كان ذلك مجرد تهويش؟..
يهوش بالحرب
إن الإنسان أحيانا يرى الأشياء والأشخاص من خلال طبيعته . فهل كانت طبيعة عبدالناصر هي التهويش؟. إذا راجعنا ظروف حرب 1967 ونشر جيوشنا كلها في سيناء بشكل استعراضي هائل ، وتكديسنا هناك لكل دباباتنا الجديدة والقديمة ، وكل جنودنا المدربين وغير المدربين ، تضخيما للعدد وتكبيرا للمظهر وإرهابا بالمنظر ، دون أن تكون هناك نية هجوم حقيقي ، نجد أن المقصود هو الوصول إلى الهدف بالتهويش وليس بالعمل الفعلي. وهذا يؤكد ما اعتقده من أن عبدالناصر في داخليته رجل سلام على الرغم من كلامه العنيف – إنه رجل يريد السلام ويهوش بالحرب. في حين أن إسرائيل تريد الحرب وتهوش بالسلام. وبذلك خدعت العالم ، وجعلت نفسها في صورة الأمة الضعيفة المسالمة المهددة بعدوان دولة تفوقها عددا وتجعجع بالحرب لتلقي بها في البحر . ومن يهوش بالسلام ويريد الحرب يكسب الحرب. ومن يهوش بالحرب ويريد السلام يخسر الحرب ويخسر السلام وهذا كان حالنا...
كذلك استعنا في خطبة الجمعة المشهورة أيضا إلى ذلك الخبر المطمئن الذي أعلنه الرئيس عن نجاحنا في سحب جيوشنا من سيناء عام 1956، وكانت قد اندفعت إلى هناك عند بدء العدوان الثلاثي ، فلما رأى الرئيس أن الهزيمة في الأفق أصدر أمره في الحال بالانسحاب ، وقد تم على أحسن وجه وحمد الله وحمدناه معه.
ونفس الخطة سنة 1967
ويظهر ن رئيسنا قد حفظ هذه الخطة حفظا. وكررها بحذافيرها في حرب 1967. ذلك أنه ما كادت الهزيمة تقع فيها أيضا حتى بادر بإصدار أمر الانسحاب المعهود ... ولكن شتان بين الحالين والظرفين والوضعين .. ففي العدوان الثلاثي كان جيشنا في بداية زحفه فأمكن سحبه. وكانت الحملة مركزة على بورسعيد ، وكانت أكبر دولتين في العالم متفقتين على ضرورة وقف الحملة في الحال وانسحاب المعتدين ، وكانت هذه أول مرة في نظر العالم المتعجب تتفقان فيها على شيء. وهددتا معا تهديدهما العنيف المعروف ، فلم يجد المعتدون بدأ من التراجع على الفور. وأزيلت آثار العدوان بسرعة لا تخطر على بال. وهرول العدوان الثلاثي راجعا من حيث أتى فلم تمض ثلاثة شهور حتى كان كل شيء قد عاد إلى أرضه. وكأن شيئا لم يقع ، ولكن ما كل مرة تسلم الجرة .. وكلمة إزالة آثار العدوان ليست مما يحفظ حفظا ويتحقق بسهولة في كل الأحوال. ففي العدوان الثلاثي كانت الصورة مختلفة. فالأسدان الكبيران ما كانا يريدان السماح لبعض وحوش صغيرة أن تبسط نفوذها على الشرق الأوسط وتتحكم في قناة السويس. فهبا معا هبة واحدة وزأرا الزئير الذي أخاف الضبع والذئب والثعلب الصغير ، فهربت جميعا تاركة خلفها الفريسة في الأرض. لا حول لها ولا طول. وكانت بورسعيد قد سقطت في أيدي المعتدين من أول وثبة وانتهى أمرها. كانت الإسماعيلية في متناول المخالب والأنياب. ولكن الفزع من الأسدين جعل هذه المخالب والأنياب ترتد عن الفريسة وتولي الأدبار...
الفريسة تهتف : انتصرنا ...
ونهضت عندئذ الفريسة التي نجت بمعجزة وأخذت تصيح في الآفاق: انتصرنا .. انتصرنا ...انتصرنا .. وتزعق الأناشيد في الأبواق ، مشيدة بمعركة تماثل معركة ستالينجراد ، قيل إنها في بورسعيد ... وقد لا يكون في ذلك ضرر ولا بأس. فما من عيب في رفع الروح المعنوية للشعب ولكن الضرر هو أن يكون الغرض هو خداع الناس ، وليس رفع الروح ، أن نتلاعب بكلمة النصر لنخفي عن الشعب أسباب عجزنا عن الدفاع عن أرضنا . وقد ظهرت نتيجة ذلك فيما بعد. فقد كان من جراء خداعنا لأنفسنا وتصديقنا للأكاذيب التي نذيعها عن أنفسنا وللتهاويل التي نصنعها ونطلقها في الإذاعات والأناشيد والأغنيات أن قمنا ننشط للمغامرات الحربية.
مغامرة اليمن
فما كادت قناة السويس تستقر في أيدينا بأعجوبة في عام 1956 ونرى ذهبها يلمع في أكفنا ، حتى مضينا نلقي به على تلال اليمن ، وكانت قبائل اليمن التي نريد استمالتها إلى جانبنا لا ترضى بغير الذهب ، فكانت تلقى عليهم من طائراتنا الزكائب الممتلئة بالأصفر الرنان ، كما كانت ترمى من الجو لجيوشنا أطنان التموين والغذاء من صفائح الجبن الفاخر والمعلبات واللحوم والفواكه ، ولكن الشمس الحارقة وعدم وجود ثلاجات كان يفسد هذه الأطعمة ، فتترك في أماكنها مكدسة وقد لعب فيها الدود وانتشرت منها رائحة العفن ، فلا يقربها أحد ، وأهل مصر من الجياع والمحرومين لا يعرفون أن طعامهم هذا الذي يتمنونه ملقى للحشرات على تراب اليمن السعيد. وهل استملنا مع ذلك قبائل اليمن بذهبنا؟ قيل أن القبائل حتى الموالية لنا ، كانت تأخذ ذهبنا بالنهار وتترصد لضباطنا وجنودنا في الليل ، فتصطادهم وتجز رؤوسهم وتبيعها للطرف الآخر غير الموالي ، ثم بعد ذلك انتهى الأمر باليمن كلها أن سارت مخالفة لمصر في اتجاهها السياسي . إن تاريخ حرب اليمن سيكتب يوما في صفحات صادقة لنعرف حقيقة ما جرى هناك ، وماذا كانت النتيجة التي خرجنا بها؟ إن من المؤكد الآن هو أنه بالإضافة إلى الأرواح التي ضاعت من جيوشنا وتقدر فيما يقال بعشرات الآلاف من الرجال ، فإن المعروف أيضا أن غطاء الذهب الذي نملكه قد ضاع بأكمله في هذه الحرب الضائعة ، وضاع معه أملنا في تحسين حالنا...!
وحرب وهزيمة ثالثة
ولكن هل اكتفينا بحربين وهزيمتين؟ لا .. لابد من الثالثة ... وكانت حرب وهزيمة 1967، أي أنه في مدة نحو عشرة أعوام من سنة 1956 على سنة 1967 قد استهلكنا ، أو على الأصح ، استهلكتنا ثلاث حروب بثلاث هزائم ، لا ندري بالضبط كم كلفتنا من آلاف الأرواح ، ولا كم من آلاف الملايين من الجنيهات إنما الذي ذكر ونشر هو أن ما خسرناه في الحروب الأخيرة وحدها يقدر بنحو أربعة آلاف مليون جنيه ، أي كما قيل أيضا أن هذا المبلغ لو أنفق على قرى مصر البالغ عددها أربعة آلاف قرية ، لكان نصيب كل قرية مليون جنيه ، تخلقها خلقا جديدا وترفعها إلى مستوى قرى أوروبا ... ولكن قرانا المصري بقيت على حالها المحزن التعس وفلاحنا المسكين بقي على جهله ومرضه وفقره. وراحت آلاف الملايين التي جاءت من عرق مصر لتذهب في الوحل . ولفوقها هزيمة منكرة . بل فوق الهزيمة المنكرة أكثر من خمس سنوات حتى اليوم تمر على مصر ، وهي راكدة بلا حرب ولا سلم تنفق على جيشها المعطل من الأموال ما يكفي – كما قال محمد حسنين هيكل في مقاله بالأهرام بتاريخ 21 يوليه 1972 – لبناء السد العالي مرتين ، أو سدين عاليين كل عام نبنيهما ثم نهدمهما ليسقطا في التراب ...
ما حكم التاريخ
ما هذا الجنون؟ وماذا سيقول التاريخ في هذا الذي جرى لفي عهد هذه الثورة ، وهو الذي قال ما قال عن عهد الخديوي إسماعيل ، لأنه استدان بضع عشرات م الملايين أنفقها في مد السكك الحديدية وفي تعمير البلاد وإدخال زراعات جديدة وفي بناء قصور بقيت لنا على كل حال حتى الآن ، كمنشآت استخدمتها المصالح والوزارات على مدى سنوات ، ثم في بناء أشياء أخرى مثل دار الأوبرا التي انتفعنا بها كمصدر إشعاع فني وأدبي على مدى أجيال ، وفي غير ذلك مما سمي في وقت ما ترفا أو سفها ، وما هو ، فيما يمكن أن يقال إلا بعض مظاهر الضارة العصرية التي اراد لمصر أن تلحق بها .. وإذا كان التاريخ قد أدانه ، فهل نطمع أن يبرئنا نحن؟ إني أرجو أن يبرئ التاريخ عبدالناصر . لأني أحبه بقلبي . ولكني أرجو من التاريخ أن لا يبرئ شخصا مثلي ، يحسب في المفكرين ، وقد أعمته العاطفة المحبة للثورة عن الرؤية ففقد الوعي بما يحدث حوله . لقد كانت ثقتي بعبد الناصر تجعلني أحسن الظن بتصرفاته وألتمس لها التبريرات المعقولة ، وعندما كان يخالجني بعض الشك أحيانا ،وأخشى عليه من الشطط أو الجور كنت ألجأ على إفهامه رأيي عن بعد وبرفق وأكتب شيئا يفهم منه ما أرمي ليه . فقد خفت يوما أن يجور سيف السلطات في يده على القانون والحرية فكتبت "السلطان الجائر" ثم خفت أن يكون غافلا عما أصاب المجتمع المصري قبل حرب 1967 من القلق والتفكك ، فيعتمد عليه في الاقدام على مغامرة من المغامرات فكتبت "بنك القلق" . وهي كلها كتابات مترفقة بعيدة عن العنف والمرارة ، لمجرد التنبيه لا الإثارة ، وكما علمت فقد قرأها وفهم ما أقصده منها . ولكنه فيما ظهر لم يأخذ بها ، بل اندفع في طريقه .. ولم يكن من السهل مع ذلك أن أنشر كتاب "بنك القلق" . فقد ظل هذا الكتاب أ:ثر من نصف عام حبيس الرقابة لا تسمح بنشره إلى أن سمع المسئولون أنه قد ينشر في الخارج فاضطروا إلى السماح بنشره اضطرارا. وفوق ذلك فإني لم أكف عن كتابة ما أراه مما اعتبروه خطرا ، وفي أدراج مسئول كتابات لي لم يسمح لها بالظهور حتى اليوم ، وبعضها كان يقرأ سرا كالمنشورات الخفية ، فالقلم لا يستطيع أن يسكت ، حتى مع وجود الحب ونقص الوعي .. فالمعارضة والاحتجاج على معلمنا به من فساد قد فعلناه بالكتابة فيما نشر وفيما لم يسمح بنشره ، وبالتبليغ المباشر إلى صاحب الشأن شفويا أو خطيا . ولكن القضية ليست هنا ، فالصوت الفردي قليل الجدوى مهما تكن وسيلته وشجاعته . القضية هي في غياب الصوت الجماعي الممثل به الهيئات السياسية والقضائية والعلمية والجامعية والثقافية. أين شجاعتها؟ ولماذا لم يصدر عنها صوت أو حركة ولو رمزية تدل الحاكم المطلق على أن البلاد واعية تنبض بالحياة؟ ولكنها لم تتحرك دفاعات عن الحرية أو الكرامة ، إما غفلة منها أو انقساما بعضها على بعض ، ولست أبرئ نفسي بهذا لأنني أعتبر أن إدانتي الحقيقية هي فقدان الوعي الكامل بالوضع وأنا في الشيخوخة وبعقل يعيش بالتفكير .. ولا تفسير لذلك سوى أن مصر عاشت في فترة حجبت عنها كل المعلومات وأخفيت كل الحقائق ، وأعلنت كل الأكاذيب بكل وسائل النشر والإذاعة والإعلان...
آية السخرية
إن ما حدث لي يوم 5 يونيو 1967 وما بعده لآية من آيات السخرية التي تثير الدهشة والعجب ... كنت متهيئا للخروج في الصباح ، وإذا صفارات الإنذار تدوي على غير انتظار ، فحسبتها مجرد تجربة من تجارب الغارات الجوية ، وخرجت إلى الطريق فإذا هرج ومرج ، وإذا هي غارة جوية حقيقية ، وإذا بمتطوعي الدفاع المدني من الشباب يقفون في وجه السيارات يحولونها من شارع إلى شارع ، فارتبك المرور وتكدست السيارات وسدت مداخل الطرقات لا تدري أين تتجه ، ومن آن إلى آن تسمع طلقات سريعة متلاحقة للمدافع المضادة للطائرات.
وذهبت إلى مكتبي بجريدة "الأهرام" فوجدت أحد سعاة المكتب في يده راديو ترانزستور صغير ، يعلن في كل ربع ساعة بيانا من المسئولين في وزارة الحربية أو قيادة الجيش ، أننا أسقطنا للعدو مائة طائرة ، وعندما جاء الظهر كان عدد ما أسقطناه من الطائرات قد بلغ قرابة المائتين . أما في المساء فقد ارتفع العدد على ما لا أذكر من ارقام. فما شككت في أن العدو قد انتهى أمره . وسرت في شوارع القاهرة من ميدان التحرير إلى ميدان سليمان باشا فإذا لافتات كبيرة علقها الاتحاد الاشتراكي كتب عليها عبارات النصر ، ثم عبارات تقول "إلى تل أبيب"...
وكان الجو كله حولنا يكاد يشعرنا بأن دخول جيوشنا في تل أبيب لن يتأخر عن التاسعة مساء من نفسي اليوم 5 يونيو 1967. ولكن جاء اليوم التالي والبيانات العسكرية تشير إلى اشتداد المعارك في سيناء ، فرسمت في رأسي صورة لخطة جيوشنا الظافرة .. فلما دخل علي زائر صديق يقول لي في قلق وحزن إنه سمع من الإذاعات الأجنبية أن العريش قد سقطت في يد العدو ، وأن جيوشنا تتقهقر باستمرار لم يظهر علي أي انزعاج ، وقلت في هدوء وابتسام وبلهجة الوثوق التام: اسمع ... أنت لا تفهم خطة جيوشنا .. لقد اتضح لي الآن أنها لا تقصد الوصول إلى تل أبيب ولا التوغل في أرض العدو . إنما هي تريد استدراج جيشه إلى أعماق صحراء سيناء والقضاء عليه. لأن احتلال أراضيه أمر قد تقوم له قيامة هيئة الأمم ومجلس الأمن فينتهي الحال إلى التراجع عنها ، كما حدث له هو يوم وبعض سيناء عام 1956 واضطر إلى الانسحاب عنها . أما تحطيم قوته العسكرية وإنزال الخسائر الجسيمة بها فهو لا شك هدف أهم وأبقى في نظر قيادتنا. هذه هي الخطة . وهذا هو سر التراجع والتقهقر في صفوفنا. ولبثت مطمئنا إلى تفسيري هذا. ومضت الأيام التالية وقواتنا مستمرة في تراجع يشبه الركض ، تاركة في شبه هرولة كل المواقع من شرم الشيخ إلى رفح ، وأنا لا أزال هادئا مبتسما بتفسيري وبالخطة العسكرية التي أنشأها خيالي ..
هزيمة غير معقولة
ذلك أنه لم يكن من الممكن عقلا ومنطقا أن نصدق بسهولة أن جيوشنا يمكن أن تهزم في بضعة أيام . لقد لبثنا الأعوام وهم يروون عنها الأعاجيب ، ويجعلوننا نرى في كل عيد من أعياد الثورة استعراضات عسكرية تحوي أحدث طراز من الدبابات ، ونرى فيها الصواريخ التي سميت "القاهر" و "الظافر" ونرى فريقا يطلق عليها اسم الصاعقة تركض وهي تهدر هديرا مخيفا ، ونرى جنودا تهبط من الأعالي وتقفز فوق الجدران ، وتمزق وتأكل الثعابين .. ثم سمعنا في الخطب عن قوة طيراننا التي لا مثيل لها في الشرق الأوسط ، وأبصرنا أسرابها وهي ترعد في السماء وجعلنا ندفع من عرق الجبين طيلة سنين ضرائب دفاع وطني وأمن قومي علاوة على المستحق من الضرائب العادية اقتطعت من لحم الشعب الذي حرم نفسه الكثير تدعيما لجيشه. وكانت الدعاية لهذا الجيش تجعل أكثر الناس تشاؤما وتشكيكا في الثورة يقول كما سمعت ذلك بنفسي من أفواه ذلك الطراز من الناس: "ربما كانت الثورة فاشلة في كل شيء إلا – والحق يقال – في الجيش ، فرجالها أصلا رجال جيش وهو عماد وجودهم وقد أنفقوا عليه ما أنفقوا ، فإذا اختل كل شيء في المجتمع على أيديهم ، فلا يمكن أن يصل الخلل إلى الجيش....." كان هذا النفر من المتشككين في الثورة يقول في صباح 5 يونيه 1967 : "نعم سينتصر جيشنا على العدو وبالطبع "سننتصر وهذا شيء مفروغ منه ، لكن العبرة بالنتيجة ، والنتيجة كارثة إذا تدخلت أمريكا مباشرة ضد مصر" لم يكن إذن من الممكن لشخص واحد ، سواء أكان مع الثورة أم ضدها أن يشك في قدرة الجيش المصري على صد العدو وقهره ، وزاد التأكد يوم شاهدنا في التليفزيون رئيسنا يواجه الصحفيين الأجانب الموفدين من أكبر صحف العالم ليسألوه قبل 5 يونيه ولأزمة مستحكمة عقب إغلاقه خليج العقبة ، ماذا هو فاعل إذا جاءت السفن الحربية من بريطانيا أو أمريكا لفتح هذا الممر المائي الذي أغلقه؟ فأجاب بثقة القادر: "سيجدون هناك قوة لا يتصورونها".
ما شككت وأنا أشاهد ذلك وأسمعه في التلفزيون أن هناك صواريخ ذرية في الانتظار. لم يخطر ببالي قط أن مثل هذا الكلام قد يكون من قبل التهويش. والظاهر أنه كان في خارج بلادنا من يزن مثل هذا الكلام الوزن الحقيقي. فقد سمعت ، ولا أذكر في أي تاريخ ، أن عضوا في الكونجرس الأمريكي قال وهو يقرأ خطبا من مثل هذا القبيل لعبد الناصر : "هذا الرجل يبلف" ... ولكننا في مصر ، ما كان أحد منا يرتاب أو حتى يراجع قليلا حقيقة ما يلقى علينا. هل كنا مسحورين؟ كما سبق أن قلت ... أو أنها الثقة التامة في زعيم وضعنا أملنا به؟ أو أننا اعتدنا هذا النوع من الحياة التي جعلتنا الثورة فيها مجرد أجهزة استقبال داخل صندوق مغلق علينا مع الأكاذيب والأوهام...
وهكذا لبثت حتى يوم الخميس 8 يونية وأنا أعيش داخل وهم خططهم العسكرية . وكلما قيل عن تقهقر لجيوشنا ازداد اعتقادي بأن الخطة تطبق بإحكام ، وأن هذا التقهقر هو عملية التفاف حول جيش العدو ، وحركة كماشة واسعة للتضييق عليه ، إلى أن اتصل صديق بالتلفون قبيل منتصف ليل ذلك اليوم الخميس ليخبرني أنه قد أعلن رسميا في مجلس الأمن أو هيئة الأمم المتحدة ، أن مصر قبلت وقف إطلاق النار. فأفقت قليلا: كيف قبلت مصر ذلك وهي منتصرة؟ ثم شط خيالي مرة أخرى وفسرت الأمر على أن قبول مصر التوقف عن المضي في انتصاراتها إنما جاء نزولا على رجاء أمريكا ، ووعدها بتعويض مصر بمعونات مغرية في نظير هذا التوقف عن إطلاق النار...
الحقيقة المذهلة
لم أعرف الحقيقية ويعتريني الذهول إلا في يوم الجمعة 9 يونية .. فقد ظهر أننا خسرنا الحرب منذ الساعات الأولى من يوم 5 يونية ... وعندما رأينا وجه الرئيس في شاشة التلفزيون يعلن الهزيمة ويخففها بلفظ النكسة ، لم نصدق أننا بهذا الهوان ، وأن إسرائيل بهذه القوة ... وكان أكرم له وأعظم لو أنه اختفى عن أنظارنا في ذلك اليوم ولم يواجهنا بكلام. ربما كان خيالنا قد ضخم لنا صورة آلامه التي لا يمكن أن تحتمل ... ولكننا مع ذلك تأثرنا وعاد فامتلك عواطفنا لعلمه وقوله أننا شعب عاطفي. وأنسانا الهزيمة وجعلنا نرقص ، حتى في مجلس الأمة لمجرد وجود شخصه بيننا بدلا من أن نسائله ولو برفق ومحبة عن أسباب الهزيمة لنعرف أمراضنا حتى نتهيأ للصحة ، لا أن ندعه ليكتم المرض ويخنق الحقائق ليبقى الفساد كما كان ، خشية على تصدع مركزه – لم يكن بالطبع هذا الشعب في حالة طبيعية من الوعي كأي شعب آخر في مثل هذه الظروف ، ويسائل زعيمه على الأقل بوعي حاضر ولا أقول يحاكمه أو يطالبه بدفع ثمن الهزيمة كما فعل الشعب الفرنسي مثلا الذي لعن نابليون وتركه للنفي بعد معركة واترلو .. وأخذ هو يجدد حياته بدونه وبنفسه . مع أن زعيمه شرفه بانتصارات عسكرية مجيدة ساد بها أوربا كلها ناشرا مبادئ الثورة الفرنسية ومبشرا بالوحدة الأوروبية . لقد تركوه يدفع ثمن هزيمته الوحيدة. تلك الهزيمة التي تسبب فيها أحد مارشالاته بتخاذله عن اللحاق به في المعركة ، لقد عاش هذا المارشال "جروش" ولم يمس وتحمل نابليون كل الذنب والمسئولية ... أما عندنا فإن قائدنا الخالد بهزائمه العسكرية المتلاحقة التي غامر فيها بأموال شعب فقير ليحتل أرضه في النهاية عدو صغير ، بقي ليتنصل من هزيمته ويجعل مشيره هو الذي يدفع عنه الثمن بانتحاره ، ويقدم قواده إلى المحاكمات وتلقى عليهم التبعات . وحتى من أراد أن يكتب تلميحا عن فساد أو هزيمة أو نكسة فيجب إبعاد شخص الزعيم عن كل مسئولية ، فالمسئولون دائما هم الآخرون ... وهكذا استمر هو في كرسي الحكم على مصر والزعامة الناصرية على العرب جميعا – تلك الزعامة التي خربت مصر ونكبت العرب – ونحن ليس لنا حيلة ولا قوة إلا التعليق به لأنه جردنا طول الأعوام من كل فكر مستقل ومن كل شخصية قوية غير شخصيته هو. وقد نجح في ذلك إلى حد جعل كل شخصية في بلادنا حتى في مجال العلم والفكر والثقافة تشعر بضآلتها إلى جانب ضابط صغير من أعوانه . ولذلك عين لرئاسة المجلس الأعلى للجامعات والمجلس الأعلى للآداب والفنون والعلوم الاجتماعية ضابطا صغيرا في السن وفي درجة التعليم وجعل علماءنا الكبار يجلسون أمام رئيسهم الضابط الصغير متأدبين. وإذا تقلوا تكريما أو مكافأة فمن يديه هو لمن كان مرضيا عنه أما غير المرضي عنه فيحرم. ولم يظفر فعلا بالرضى وحرم من جائزة الدولة التقديرية بعض مفاخر بلادنا ومنهم الدكتور عبدالحميد بدوي القانوني العالمي الذي كان نائبا لرئيس محكمة لاهاي الدولية رغم ترشيحه مرارا من عازفي فضله. كما سبق أن حرم بالأوامر نابغة المهندسين الدكتور عبدالعزيز أحمد رغم انتخابه بالفعل من صفوة العلماء . وكاد يحرم كذلك راغم انتخابه الدكتور السنهوري مؤلف أكبر موسوعة قانون وواضع القوانين لكثير من البلاد العربية لولا المساعي التي بذلت وأهمها جهود "محمد حسنين هيكل" الذي حال دون التمادي في مساوئ كثيرة لذلك العهد. سواء كانت هذه المساوئ من فعل الزعيم أو بعلمه أو من فعل أعوانه وبغي علمه. ذلك أن رجال الأقدار لا تخفف من مسئولياتهم البوعث ولا التبريرات فهم باعتبارهم المسئولين عن مصائر الأمم يحاسبون فقط على النتائج ويتحملونها حتى وإن تسبب فيها آخرون فغليهم دائما تنسب الفضائل والمكاسب كما تنسب المساوئ والخسائر.
ولكن الزعيم ولا شك مسئول شخصيا عن تعيين الضابط صغير السن والتعليم رئيسا لعلماء البلد ومفكريه في حين أن نابليون عندما احتل مصر ومعه نخبة من علماء فرنسا واسس فيها المجمع العلمي المصري لم يجرؤ وهو نابليون على تعيين نفسه رئيسا لهذا المجمع العلمي بل جعل الرئيس هو العلامة "مونج" وجعل نفسه مجرد نائب عنه..
فلا عجب إذن أن نتمسك بزعيمنا بعد الهزيمة وأن نجعل وجوده الشخصي بديلا من النصر أو مرادفا له لأنه كان قد أشعرنا بكل هذه الوسائل أنه لا يوجد في مصر ولا في العالم العربي كله غير عقل واحد وقوة واحدة وشخصية واحدة هي "عبدالناصر" وبدونه لا يوجد شيء فلا رجال ولا عقول ولا قوى يعتمد عليها. وليس أمامنا إلا الضياع. وهكذا الفاشستية والهتلرية والناصرية كلها تقوم على أساس واحد هو إلغاء العقول والإرادات الأخرى ما عدا عقل وإرادة الزعيم.
وكلها شاهدت هجرة العديد من العقول إلى الخارج كما حدث أيضا لكثيرين في مصر. وكلها تترك بعدها شبحها مسيطرا ، وفي ميراثها خيولا يركبها باسمها الطامعون والمغامرون . عن فكرة الزعامة على العالم العربي هي التي أضاعتنا جميعا. وهي التي استحوذت على فكر عبدالناصر وجعلته قوة مدمرة لنفسه ولمصر وللعرب. وهو درس يجب أن نعيه جيدا لمقاومة كل من تراوده نفسه على زعامة العرب ، والسيطرة عليهم بشخصه وبإرادته وأفكاره ... وهكذا بقي الزعيم موجودا دائما يمنينا بكلماته المعتادة عن النصر ... وعادت الأناشيد من جديد تردد كلمات النصر ولكن النصر تغير مفهومة. وأصبح هو جلاء إسرائيل عن الأراضي التي احتلتها ، وعودتنا على ما كنا عليه قبل 5 يونية 1967 . ولقد كانت أمانينا الوطنية بالأمس انتهاء الاحتلال الإسرائيلي عن أرضنا ... ونحن مستمرون مع ذلك في ترديد شعار الثورة: "كيف كنا وكيف أصبحنا".
ومرت على الهزيمة الأيام. وفي كل يوم يتضح لنا فداحة حجمها لا عن طريق إعلان الحقائق رسميا. بل بأساليب ملتوية في سطور غامضة عابرة تندس في مقال صحفي نفهم منه أن الجيش قد أبيد وأسلحته ومعداته وأحدث دباباته وطائراته التي استنزفت دم مصر ، ضاعت مع الأرواح التي قدرت بعشرات الألوف والأموال التي بلغت آلاف الملايين ، ولم تطلق مع ذلك طلقة واحدة ، وقال قواد دولة صديقة في عجب : لو أن كل دبابة صمدت وأطلقت طلقة لتكبد العدو من الخسائر ، ما جعل الحرب تمتد إلى أجل معقول ، وجعل الهزيمة إذا وقعت ، هزيمة بشرف ... ولكنه القرار المعروف المألوف : قرار الانسحاب .. من أول نظرة! .. أي من أول نظرة على سوء الموقف .. أسلوب واحد هو طابعنا المميز في حروب الثورة الناصرية : توريط أنفسنا ثم الانسحاب.
ولكن الانسحاب في الحرب عام 1967 كان باهظ الثمن. فظيعا في منظره ونتائجه وآثاره ... بل كان في رأي الخبراء العسكريين مجزرة بشرية رهيبة. فالأمر بالانسحاب السريع لجيش كبير انتشر في الصحراء واتخذ مواقعه بمعداته على مدى أسابيع ، ودعوته للجري حافيا دون انسحاب فني منظم ، تحت وابل نيران العدو لهو قرار أهوج من مسئول فقد أعصابه ويستحق المحاكمة ، وهو ما لم يحدث. وسحقت مصر سحقا بهزيمة لن ينساها التاريخ.
أين يقام التمثال
وتوفي عبدالناصر بعد ثلاث سنوات من الهزيمة ن ولا ندري كيف أمكنه أن يعيشها . غلبت علينا جميعا العواطف يوم وفاته. وأنا بنوع خاص. دفعني المشاعر ودواعي الوفاء فاقترحت إقامة تمثال له في ميدان بالقاهرة. فجاءتني خطابات محبذة متأثرة مثلي بالعاطفة وجاءتني قلة من الخطابات مترددة ثم وجدت من بينها خطابا يقول فيه صاحبه إنه موافق على إقامة التمثال ولكنه يرى أن يكون مكانه ليس في القاهرة بل في تل أبيب. لأن إسرائيل لم تكن يوما تحلم بأن تبلغ بهذه السرعة هذه القوة العسكرية ولا أن تظهر أمام العالم بهذا التفوق الحضاري ، إلا بفضل سياسة عبدالناصر...